الأنسنة والتاريخ… الحاجة لمشروع نقدي عربي
تتصلُ الإنسانيّة أو «الأنسنة» بقيم عُليا يستندُ معظمُها إلى حتميّة توظيف العقلانية التي تعني ميزة تتجاوز التّصنيف البيولوجي للكائن البشري عن باقي الكائنات الحية، فالإنسانية منظومة من القيم والأخلاق، كما أنها ممارسة لفهم «الطبيعة» المشاركة لنا للحياة، بالتوازي مع مُتمظهرات ثقافية وجمالية، كما تذهب كافة التيارات الفكرية على اختلاف مرجعياتها، سواء أكانت إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، وحتى وضعيّة كالهيغلية اليسارية، وسائر الاتجاهات الكبرى التي صاغت الوعي الإنساني منذ الأزل، فضلاً عن دعوات عربيّة معاصرة لهذا النهج جاءت من لدن المفكر محمد أركون، عبر عدد من دراساته المميزة في هذا المجال. فلطالما كان الإنسان في نضالٍ من أجل تكريس هذا السّلوك البشري عبر التخلّص من كافة الممارسة التي تتناقض وهذا النهج الذي بدأ مع عملية تهذيب نوازع الاستحواذ والتملّك، مع ميل نحو الاجتماع والتعاون.
فمنذ البدء اعتمدت الثقافة الإنسانيّة على الخبرة والتراكم المعرفيين في مواجهة الطّبيعة، والتمرّس بالحياة ضمن منظومة قيميّة، وبذلك فقد عرف الإنسان الثّقافة، علاوة على إدراك حاجته للدّين منذ العصر الحجري، بل أضيف إلى ذلك الكثير من المسالك الجماليّة والثقافيّة، فانبثقت فنون التزيين، والرّقص، والموسيقى، والتّمثيل، والأغاني، والأقوال، والأمثال، والقصص، والحكايات الخرافيّة كما يذكر الباحثان الرّوسيان تشيكالوف وكوندراشوف في كتابهما «تاريخ الثقافة العالميّة».
ولعل بروز المنتج الثقافي لدى الإنسان منذ عصور الإنسان العاقل في أورو آسيا، يعني أن ثمة ميلاً نحو تمثّل القيم النقيضة لهيمنة العنصر المادي الطّبيعي، كما أن ثمة توقاً فطريّاً إلى تمثّل القيم المعنويّة التي تنطوي عليها الحياة، وهكذا شرعت البشريّة في تكريس وإنتاج الثقافة، ولكن عبر ما يميزها، أي تلك النّزعة الإنسانيّة في مواجهة قسوة الطبيعة، غير أن هذا أتى لإخراج أكبر قدر من الفيض المشاعري، وخلق عالم أكثر رحابة، وأكثر جمالاً، ومع التّقدّم البشري تطوّرت النزعة الإنسانية التي باتت أكثر حكمة في سعيها لتفسير كل ما حولها، ولتتجلى الإنسانيّة – في ما بعد – بأبرز تجلياتها عبر الدّعوة إلى مخاطبة العقل، وتثمين القيم الأخلاقيّة لمعنى الطّبيعة البشرية التي أدركت أن وجودها مرهون بفعل تقدّمي، أو المسار للأمام، فالتّقدّم هو القانون الجوهري لتاريخ العالم كما يقول فولتير، وهذا لن يُترجم إلى واقع ما لم يُستثمر العلم الطبيعة بالتّوازي مع نموذجي قِيمي ثقافي، وبالطّبع كل ما سبق لن يتحقق بدون فضاء الحرية.
في عالمنا العربي اليوم، وعلى الرّغم من أن العلوم الإنسانيّة تستهلك أكبر قَدر من مقررات التعليم، والاشتغال البشري، غير أنها بدأت تفقد مشروعيتها، بالتّوازي مع عدم قدرتها على إحداث تطوّر على المسلك الإنساني. إن العالم مع بداية الثورة الصناعية إلى يومنا هذا، اتجه صوب عالم بدأ يقترب شيئاً فشيئاً من تكوين منظومة مُغرقة في الطبيعة، غير أنها ليست الطّبيعة بمفهوم الفيزيقي، إنما نعني نتاج العلم، أي أصبح هنالك عالم محاذٍ العالم الطبيعي، لقد خلق الإنسان مادته الجديدة، فأعاد إنتاج الطبيعة «الأرض» واستهلاكها، وبذلك ظهرت طبيعة صناعيّة، وهكذا فقد أضحى الإنسان يبتعد يوماً بعد يوم في تثمين وتقدير منتجه المادي، والإعجاب به، فاستهلكت الطّبيعة التي باتت تعاني من إشكاليات بيئية، غير أن هذا النهج، وإن بدا في الثقافة الغربية أشدّ تعقيداً كونه انطوى على إشكاليات عميقة، ومع ذلك فقد كان هنالك حراك نقدي، ولكن ما يعنينا هنا مسار التاريخ المتجه نحو الأمام، ومع أن هذا النهج في التكوين الغربي يعني الانتقال من طور حضاري إلى أطوار أخرى، لا يمكن التكهّن بها، في حين أنه على المستوى العربي فإن مسار التاريخ يحتكم إلى منظور ثابت؛ ولهذا فهو أقرب أفعال الاستهلاك للأفكار عينها، وكأن هذا العالم أمسى خارج ذواتنا، فهنالك قصور في الفهم، أو انكسار في عملية إدراك أنساق تحوّلات العقل البشري الذي ما زال ينزع في الثقافة العربية نحو أنساق من التوفيقيّة، أو عدم القدرة على توفير منهجيّة واضحة لتكريس تثقيف إنساني يدمج في البنى التعليميّة التي ما زالت ترتهن في معظمها لتصورات أيديولوجية قلقة، وتحديداً من حيث فهمها لذاتها، فقراءة التّاريخ تطغى على رؤية المستقبل، فثمة تعارضٌ جلي بين الذات التاريخيّة في الثقافة العربية – بهدف تعميق بعض القيم الوطنية والهوياتيّة الضيقة- وبين أي محاولة للاندغام في هذا الكون، أو هذه الطبيعة، وهذا يحول دون صهر الذّات في نموذج إنساني كوني، فمنظومة القيم القائمة على التّشارك، وتقبّل الآخر، ومعاني الاختلاف، والرغبة باكتشاف هذا الكون، فضلاً عن ضرورة عدم الاكتفاء بمقولة واحدة تحكم التاريخ، وبذلك فقد أضحى هذا المنظور منهجية تكاد تطغى على تمثيلاتنا الثقافيّة والتعليميّة على حد سواء.
ولعل النهج السّابق، يقودنا إلى تثمين وضرورة القراءة التفكيكية والنقدية للعالم، فثمة فقط فهم واحد، وحقيقة واحدة تطغى على سائر الحقائق، ولعل هذا نهج – وإن شهد تقدماً بعد أوروبا الاستعمارية- غير أنه ما زال يعاني من تخلّف شديد على مستوى الثقافة العربية التي تنزع نحو مقاومة أي محاولة تفكيكيّة، أو حتى نقدية إنسانية لفهم العالم، ولهذا تكمن أهمية الفكر النقدي من حيث قدرته على صوغ الثقافة الغربية كي تكون أكثر حيوية واستمراراً، فثمة دوماً حوار على مستوى الأفكار انطلق مع غاليليو الذي دفع ثمن أفكاره، واستمر الحوار مع انبثاق العلم النيوتني، علاوة على ما أحدثته أفكار اسبينوزا من تعميق لبعض المفاهيم المتعلقة بفهم ثنائية اللاهوت والسياسة، ومن ثم يأتي كانط لينتقد المعرفة الكلاسيكية، بموزاة نقده لضلالات العقل، ولتستمر في ما بعد أنساق الحراك الثقافي عبر مراجعات وردود فعل تجاه الفهم الكانطي عينه تجاه العقل البشري، والتي جاءت من لدن هيغل، وغيره من الفلاسفة بشكل منهجي استمر في العصر الحديث من خلال جاك دريدا، وهابرماس، وفوكو وغيرهم. ومع أن المراجعة النقدية كانت شائعة في التاريخ الإسلامي الذي على ما يبدو كان أكثر تسامحاً في تبني النموذج النقدي الذي اتسم بحوار بين النموذج العقلي الرّشدي، والنماذج النقليّة الأخرى، غير أنه يبدو في يومنا أشد ما يكون سكونياً خالصاً.
إن مبدأ تعميق أنساق التفكير الإنساني المنفتح على آلية التثقيف والتعليم، أمست محكومة في معظم الأحيان إلى حدود السلطوي باختلاف تمظهراتها السياسيّة أو الدينيّة، كما الأعراف وثقافة المجتمعات والقيم، وغير ذلك. إذن ليس هنالك من أنساق تتقدم في التكوين العربي سوى مظاهر الثقافة المادية الغربية المنقولة، ونتاجها الاستعماري، التي تُستهلك بوتيرة متصاعدة في الثقافة العربية، التي لا ترغب بتغيير قيمها وطرائق تفكيرها، فهي لا تسعى إلى خلق منظومة تجمع بين التسنينات الثقافية للذات الكامنة في التاريخ الذي على ما يبدو أقرب إلى مسار حتمي. إن قراءتنا للتاريخ لم تستفد من فلسفات أخرى، تأمّلت التاريخ، واستثمرت مكوناته لا لتخرج منه، أو تغادره، إنما كي تقوده، في حين أن الثقافة العربية ما زالت كامنة تاريخياً، وبذلك فهي ترتهن إلى منظور ارتجاعي قار، والملاحظ ما يميز قراءتنا للتاريخ، حيث تبدو واقعة في مستويين: الأول نسق يتقدم إلى الأمام، ولكن على مستوى تحولات العصر بتكويناته الماديّة فقط، أي وسائل الإنتاج الاستهلاك بشكل أعمق، كما التواصل الافتراضي، والمظاهر الزائفة للحضارة، وغير ذلك، ثانياً، استمرارها في رفض الإنسانية، أو النموذج الإنساني ومشروعه النقدي، واضطهاده، كما للهيمنة والتسلط على الإنسان ضمن منحى تاريخي خلفي ساكن، فالأفكار تراتبية، حيث توقفت في زمن معين، فلم يعد ثمة حاجة لأفكار جديدة، وهذا أشد ما يتضح في مناهج تدريس الأدب، التي تبدو في معظم العالم العربي مرتهنة للماضي، تخاف من الحاضر، فمعظمها عالق في أنساق تاريخية، ذات صيغة تمجيدية، في حين أن الجزء المعاصر منها، أو المرتهن لليومي هو أقرب إلى تكريس نماذج طائفية، أو عصبويّة، متمحورة حول الذات الوطنية أو الطائفية الضيقة، فليس ثمة رحابة في الانفتاح على مفردات الحرية، والمساواة، والآخر، وقيم الحضارة، علاوة على افتقادها لنموذج نقدي إنساني، مع شيوع النماذج «الكليانية». بالمحصلة ليس ثمة تثقيف حقيقي بالقيم النقدية بمقدار ما نحن معنيون بتلقين القيم المنجزة في أطر التاريخ الذي أنجزه أجدادنا، مع أنهم كانوا أكثر إنسانيّة، بل وفهماً لأهمية تقدم الأفكار إلى الأمام.
في النهاية، ما أحوجنا اليوم لتفعيل عبارة كانط الذي استنكر مقولة البعض «هذا شعب ليس ناضجاً للحرية». إن قيمنا الجديدة ما هي إلا نموذج التّحديث بنموذجه الظاهري، ولكنها على مستوى الأفكار تبدو في حالة رفض تام، فالنموذج الإنساني النقدي يعني المزيد من الحرية، فضلاً عن أهمية انهيار النظم الأيديولوجية التي أوجدت هذه السلطات التي ترغب فقط في تكريس تصورها، ووصايتها على المادة، والمثل، والأفكار، ولكن هذا لن يتحقق إلا إذا تمرّست العقول في تثمين إنسانيتها أولاً، ولا سيما في عالم اليوم الذي يفتقر إلى وجود مفهوم للإنسان، فلا احترام لحقوقه إلا عبر منظومات ظاهرية تتأسس على إنشاء بعض الجمعيات والمنظمات لتسكين الرأي العام الغربي، فضلاً عن شعارات مستهلكة، في حين أن الإنسان ينتهك مفهومياً ويقتل ويظلم، ويوما بعد يوم، تفقد العقول قدرتها على التفكير لتتحول إلى نماذج تنضح بالحقد والكراهية، نظراً لكونها لم تعد تؤمن بقيم التغيير القائمة على العقل النقدي والحوار، ولهذا أصبح التغيير من خلال القوة، ولا شيء غير القوة.
كاتب فلسطيني- أردني
رامي أبو شهاب