الحياة الفلسطينية قبل النكبة
يقف نحو خمسين فردًا من عائلة الدَّجَاني المقدسية -الكثيرة الأطفال- على درجات سلم منزلهم وينظرون إلى الكاميرا وهم يرتدون ملابس احتفالية. يشاهد في هذه الصورة بالأبيض والأسود رجال يرتدون ملابس غربية بما فيها من ربطات عُنُق مُجنَّحة "فيونكات" وربطات عنق طويلة؛ وقد تزيَّنت نساء هذه العائلة -التي تعدُّ من الطبقة الوسطى العليا- بالقلائد والخواتم الفخمة.
وتبيِّن جدران المنزل المبنية بالحجر الرملي الخاص ومصاريع النوافذ المميَّزة وكذلك السجَّاد الشرقي أنَّ هذه الصورة قد التقطت في القدس وذلك بمناسبة حفل خطوبة في عام 1945.
وبعد ثلاث سنين فقط -في عام 1948- دُمِّرت فجأة حياة عائلة الدَّجَاني وحياة الآلاف غيرها من العائلات العربية الفلسطينية الأخرى بسبب تقسيم فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني السابق وتأسيس دولة إسرائيلية مستقلة.
وذلك لأنَّ المشروع الوطني لإنشاء دولة ذات أغلبية يهودية قد نُفِّذَ على حساب السكَّان الفلسطينيين المحليين وهو يُمثِّل بالنسبة لهم كارثة تُعرف بالعربية باسم: النكبة.
معنى النكبة
يشير مصطلح النكبة إلى عملية تهجير وتشريد ولجوء نحو سبعمائة وخمسين ألف فلسطيني -تقريبًا نصف السكَّان الفلسطينيين- في الفترة قبل وبعد تأسيس دولة إسرائيل في عام 1948 وطردهم من فلسطين. ويشمل مصطلح النكبة أيضًا تجريدهم من ممتلكاتهم وحرمانهم من حقوقهم ومنعهم من العودة وإخلاء مدن كثيرة من سكَّانها ومجازر وتدمير أكثر من أربعمائة قرية على يدّ الميليشيات الصهيونية والجيش الإسرائيلي.
والنكبة تمثِّل بالتالي تجربة مؤلمة لأكثرية السكَّان العربية: وهذا الانهيار في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كانت موجودة في فلسطين يوصف وبشكل متزايد في الدراسات الناطقة باللغة الإنكليزية بأنَّه "تطهير عرقي".
تبدو عملية إسرائيل العسكرية في غزة بعد هجوم حماس الدامي في السابع من تشرين الأوَّل/أكتوبر 2024 بالنسبة لكثير من الفلسطينيين وكأنَّها تكرار أو استمرار للنكبة نظرًا إلى مقتل أكثر من أربع وثلاثين ألف شخص وتدمير قطاع غزة وهياكله الاجتماعية وكذلك التهديد بالتهجير وتجويع السكَّان.
ويمكِّننا الكِتاب المصوَّر الصادر حديثًا -عن منشورات هايماركت بوكس تحت عنوان: "ضد المحو - ذاكرة فوتوغرافية لفلسطين قبل النكبة"- من فهم هذا المنظور وأهمية النكبة تاريخيًا وحاليًا. وتسمح محرِّرتا الكتاب الإسبانيتان للذاكرة الفلسطينية بأن تتحدَّث عن نفسها من دون مقارنتها بوجهات نظر أخرى.
وتقدِّم محرِّرتا الكتاب تيريزا أرانغورين وساندرا باريلارو في 232 صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود لمحةً جيِّدة عن التنوُّع الثقافي والاجتماعي والسياسي لحياة الفلسطينيين خلال العقود التي سبقت النكبة. وهذا الكتاب المصوَّر نُشِرَ أوَّل مرة في عام 2016 وقد قسِّمت موضوعاته بِحُرِّية. وترافق الصورَ نصوصٌ تمهيدية وتوضيحية باللغتين العربية والإنكليزية وقصائد لشعراء فلسطينيين بارزين مثل محمود درويش وفدوى طوقان ومقتطفات من نصوص مَصْدَرِيَّة وكذلك أرقام وحقائق.
مجتمع غني بالتنوُّع
ويكشف الكتاب عن تنوُّع كبير: فهو يُظهر -على سبيل المثال- زراعة أشجار الزيتون التي تعتبر رمزًا للتجذُّر الفلسطيني وكذلك تقليم الأشجار وقطف الزيتون وعصره كممارسة ثقافية غنية بالتقاليد وكانت عنصرًا اجتماعيًا مهمًا في الحياة في فلسطين على مدى أجيال.
وتشير صور مزارع البرتقال الغنية بالثمار في يافا إلى مشاركة رجال الأعمال المحليين في تدفُّقات التجارة العالمية.
وتُبيِّن صورةٌ لأحد أفراد عائلة نسيبة المسلمة -وهو يفتح كنيسة القيامة- التعايش بين الطوائف والأديان في فلسطين قبل النكبة. لقد اتَّفق المسيحيون الأرثوذكس والكاثوليك والأقباط والأرمن على أن تحتفظ أسرة مسلمة بمفاتيح الكنيسة - وذلك نتيجة النزاع المسيحي الداخلي على امتيازات الكنيسة الأكثر أهمية في القدس.
وتَظهَر مشاهدُ الحياة الريفية -مثل صور شخصية لنساء شابات يرتدين الثوب المطرَّز التقليدي- بشكل أقل من ظهور صور حياة الطبقة الوسطى النامية. وفي حين أنَّ هذه الأخيرة كانت تسيطر بنفسها على صُوَرِها فإنَّ سكَّان الريف عادة ما يظهرون فقط كمواضيع رومانسية من خلال نظرة الرحالة الأوروبيين الاستعمارية-الإتنوغرافية.
أشكال جديدة من صنع القرار السياسي
وتوضِّح صور عروض السينما وعروض الإذاعة كأنشطة ترفيهية جديدة أو صور السكك الحديدية والمطارات كرموز للتواصل الإقليمي عملية التحديث والتحوُّل في كافة مجالات الحياة، على الرغم من أنَّها كانت تسير بشكل غير متساوٍ على طول الخطوط الطبقية.
ويحتوي كتاب "ضد المحو" أيضًا على شهادات على ظهور أشكال جديدة من صنع القرار السياسي في العقود التي سبقت النكبة. وقد ظهرت هذه الأشكال بعد عام 1920 عندما سيطرت بريطانيا على فلسطين كقوة انتداب بالرغم من المطالب العربية بتقرير المصير. وفي المقابل دعمت الإمبراطورية البريطانية منذ وعد بلفور في عام 1917 السعي الصهيوني إلى تقرير المصير السياسي.
لقد أدَّى إهمال الانتداب البريطاني التطلعات السياسية الخاصة بالأغلبية العربية إلى تأجيج المقاومة الفلسطينية كما تُبيِّن صور الإضرابات العامة والعمليات الفدائية ضدَّ البريطانيين وكذلك صور مؤتمرات المرأة العربية.
وفي موجَزٍ مقتبس من رسالة كُتِبَتْ في عام 1921 يحذِّر وفدٌ عربيٌّ البريطانيين من أنَّ سياستهم تهدف إلى طرد السكَّان المحليين العرب "من أرضهم من أجل تحويلها إلى دولة قومية لليهود المهاجرين".
معاناة مباشرة من النكبة
وتحلُّ النكبة فجأة ومن دون سابق إنذار على الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب المصوَّر. وتظهر -بالإضافة إلى الصور العائلية- صورٌ لشوارع مهجورة في حيفا ولأحياء عربية مدمَّرة.
وتلي ذلك عشرات الصور لنساء ورجال فلسطينيين تعود لأرشيفات الأونروا وتظهر التهجير واللجوء وحياة الفلسطينيين كلاجئين في الشتات: أطفال حفاة يهربون من يافا وقوافل من اللاجئين في طريقهم من غزة إلى الخليل أو أثناء صعودهم على قوارب متجهة إلى مصر ولبنان - البلَدين اللذين لن يتمكَّنوا من العودة منهما إلى ديارهم على الرغم من قرارات الأمم المتحدة العديدة لأنَّ إسرائيل تحرمهم من حقِّ العودة.
وفي النصوص المصاحبة يُفكِّر المثقفون الفلسطينيون في الأهمية المعاصرة للنكبة فيما يعتبره الخطاب الألماني بمثابة مصطلحات متطرِّفة؛ ومن بين هؤلاء المثقفين الشاعر والناشط المستفز والعنيد محمد الكُرد.
ينتقد محمد الكرد بغضب تجاهل الرأي العام الغربي وعدم اعترافه بالنكبة في الماضي والحاضر. وذلك لأنَّ حرمان الفلسطينيين التدريجي من حقوقهم وتشريدهم عن طريق إجراءات مثل بناء المستوطنات غير القانونية والاستيلاء على أراضيهم يعني أنَّ النكبة مستمرة وتؤثر على كلِّ جيل من جديد؛ وكفلسطيني يعاني محمد الكرد من النكبة معاناة مباشرة.
ويفهم الأستاذ الفخري بشارة خضر النكبة باعتبارها إبادة اجتماعية وتدميرًا للمجتمع الفلسطيني؛ ويشدِّد المؤرِّخ جوني منصور على أهمية الذكرى والتذكير في محاربة النسيان.
شهادة على ما كان
ويشهد هذا الكتاب المصوَّر على التنوُّع الثقافي والاجتماعي والاقتصادي وكذلك على تجذُّر حياة الفلسطينيين في مطلع القرن العشرين.
وتفضح الصور الفوتوغرافية بذلك الأساطير التاريخية التي ما تزال شائعة حتى يومنا هذا مثل الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" أو كذلك الادعاء بأنَّ الحركة الصهيونية وإسرائيل قد خلقتا "طبيعية مزدهرة من لا شيء"، أو الادعاء النموذجي للحقبة الاستعمارية بأنَّ السكَّان الفلسطينيين المحليين كانوا سيظلون محاصرين دائمًا في عصر ما قبل الحداثة من دون التدخُّل الغربي.
وتُشاهَد بوضوح في الصور الثقافة المتنوِّعة جدًا في مئات من القرى التي دُمِّرت لاحقًا والزراعة المتنوِّعة وكذلك المشاركة في التحديث العالمي.
ما من شكّ في أنَّ الطبعة الجديدة من كتاب "ضد المحو" مهمة جدًا للجمهور الألماني وهذا على الرغم من وجود بعض العيوب مثل مراجع الصور غير الدقيقة جزئيًا والترجمات غير الدقيقة والاختلافات النوعية بين النصوص المصاحبة. وتأتي هذه الأهمية لأنَّ ألمانيا تستضيف أكبر جالية من فلسطينيي الشتات في أوروبا وترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقع السياسي في إسرائيل وفلسطين بسبب مسؤوليتها التاريخية المنبثقة عن المحرقة.
ولكن على الرغم من إمكانية التفكير المشترك في النكبة والمحرقة المطروحة من قِبَل الأصوات التقدُّمية اليهودية والإسرائيلية والفلسطينية فإنَّ التذكير الفلسطيني يُنظر إليه باعتباره تهديدًا لثقافة التذكير المهيمنة في ألمانيا ولمصلحة الدولة الألمانية العليا. ومن خلال ذلك يستمر تهميش ذكرى النكبة التي لا يوجد لها على أية حال حضور يستحق الذكر في ألمانيا: بسبب حظر مظاهرات إحياء ذكرى النكبة وتعميم المنشورات المشوِّهة مثل "أسطورة النكبة" أو "أسطورة إسرائيل 1948".
لقد بدأَتْ خلال إعادة طبع كتاب "ضد المحو" عواقبُ العملية العسكرية الإسرائيلية الحالية (2023/2024) في غزة تتجاوز ببطء حجم النكبة من حيث مستوى الدمار وعدد الضحايا المدنيين والتهجير. تصوِّر مقدِّمات الكتاب الجديدة أوجه التشابه بين أحداث عام 1948 واليوم. وفي الأشهر الأخير وُصِمَت في النقاشات داخل ألمانيا ومن قِبَل ممثِّلي السياسة الخارجية الألمانية الإشاراتُ ضمن هذا السياق إلى التجارب الفلسطينية -بما فيها من قمع ومعاناة مستمرة- بأنَّها اعتذار ودفاع عن حركة حماس.
ولكن مع ذلك نظرًا إلى الدمار -الذي بات الآن دمارًا شبه تام في قطاع غزة والذي قتل أكثر من أربعة وثلاثين ألف شخص [حتى كتابة هذه السطور] وخطر المجاعة ومستقبل الفلسطينيين الغامض- فإن من الواجب على الجمهور الألماني -وخاصةً المسؤولين في السياسة والإعلام- أن يهتموا اهتمامًا أوسع بتجارب الفلسطينيين ومعاناتهم من الظلم في الماضي والحاضر. ولذلك فإنَّ هذا الكتاب المصوَّر يُقدِّم لهم بداية جيدة.
يان أَلتانَر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024
الكاتب يان أَلتانَر يكمل حاليًا دراسة الدكتوراه في جامعة كامبريدج حول تاريخ لبنان الحضري والاجتماعي والاقتصادي في القرن العشرين. وقد درس في السابق دراسات الشرق الأوسط والتاريخ والدراسات الإسلامية في بيروت وفرايبورغ. ونشر العديد من المقالات الصحفية في صحف منها تاغيستسايتونغ وتسايت أونلاين وديس:أورينت وكذلك باوفِيلْت.