الحركيون الجزائريون - مسلمون منسيون حاربوا في جيش فرنسا
حصلت الجزائر قبل سبعة وخمسين عامًا على استقلالها بعد حرب طويلة ودموية. ولكن حتى يومنا هذا لم تتم معالجة هذا الفصل من التاريخ ومناقشته بشكل حقيقي، ولذلك فهو لا يزال يُثقل على كاهل العلاقات الفرنسية الجزائرية.
لم تتم حتى يومنا هذا أيضًا معالجة مصير المعروفين باسم الـ"حركيين": أي المسلمين الجزائريين الذين قاتلوا إلى جانب الفرنسيين ولم يعترفوا بالجزائر بل بالجمهورية الفرنسية. عندما جاء الاستقلال، بات الحركيون يعتبرون خونة في نظر الجزائريين، وقد تعرَّضوا إمَّا للقتل أو الطرد من البلاد. ولكنهم لم يجدو حتى في فرنسا وطنهم الحقيقي: فقد كانوا هناك يعتبرون منذ البداية مواطنين من الدرجة الثانية، ولم يحصلوا على أيّ تقدير على مخاطرتهم بحياتهم من أجل فرنسا.
ميراث الصمت الثقيل
لقد خاضت تجربة خاصة مع هذا الصمت الكاتبةُ أليس زنيتر، البالغة من العمر واحدًا وثلاثين عامًا والمولودة في عام 1986 في منطقة باريس الكبرى: لقد تحتَّم حتى على أجدادها مغادرة الجزائر في عام 1962 والذهاب إلى فرنسا. ولكن لا أحد من أسرة الشابة أليس زنيتر تحدَّث معها حول هذا البلد، الذي يمثِّل جزءًا من قصتها.
ولذلك فإنَّ الجزائر كانت بمثابة سحابة تلقي بظلالها على كلِّ شيء. كانت أليس زنيتر تتساءل منذ صغرها: مَنْ أنا؟ ما هو دوري في هذا البلد المسمى بالجزائر، الذي لا تعرفه ولكنه يكمن في جيناتها؟
اقتفاء الآثار على ضِفَّتَيْ البحر المتوسِّط
على هذه الأسئلة تستند رواية "فنّ الفقدان". هذه الرواية ليست أقل من بحث عن أدلة يحرِّكه أمل سيدة فرنسية شابة اسمها "نعمة" - كان جدها عليٌ حركيًا أيضًا - من أجل فهم تاريخها فهمًا أفضل وإعادة وتحديد مكانها مرة أخرى من جديد.
وفي هذا البحث، يبدأ كلُّ شيء بموقع غوغل: تبدأ نعيمة التنقيب هناك - تمامًا مثلما فعلت أليس زنيتر نفسها - عن صور ومعلومات، وتحاول تكوين صورة عن هذا البلد، الذي يبدو لها غريبًا ومألوفًا في الوقت نفسه. وتشاء الصدفة أن يعرض عليها غاليري الفنّ الباريسي - الذي تعمل لديه - أن تذهب إلى أرض أجدادها من أجل التحضير لمعرض فنَّان جزائري.
وهكذا تتكشَّف رواية الأسرة - ممتدة بين ضِفَّتَيْ البحر الأبيض المتوسِّط، وتشمل ثلاثة أجيال، لتنقل لنا في الوقت نفسه جزءًا كاملًا من التاريخ الجزائري والفرنسي. وفي ذلك لا تروي نعيمة الروية بصيغة الأنا، بل يتم سردها من وجهة نظر نعيمة: إنَّها وجهة نظر الجيل الأصغر سنًا، الذي يريد أن يفهم من دون أن يضطر إلى تسوية حسابات قديمة.
رحلة إلى الماضي وإلى منطقة القبائل
ولهذا السبب فإنَّ هذه الرواية تتمحور قبل كلِّ شيء حول الناس في الجزائر، الذين تُخْرِج نعيمة مصيرهم من ظلام النسيان: تم تخصيص أوَّل فصلين من الرواية من أجل مسار حياة علي وحياة ابنه حميد - وهو والد نعيمة، الذي كان قد أدار ظهره منذ فترة طويلة لوطنه السابق ولم يخبر ابنته بأي شيء عن بلده الأصلي.
برضا سينمائي عن النفس وفي الوقت نفسه بقدر كبير من التعاطف، يأخذ أبطالُ رواية أليس زنيتر القرَّاءَ من أيديهم ويقودوهم إلى داخل الحياة القروية السابقة (قبل الاستقلال) في منطقة القبائل. نسافر سويةً مع نعيمة عائدين بالتحديد إلى الماضي ونتبع عَلِيًّا الذي كان لا يزال شابًا في تلك الأيَّام ويبحث للتو عن زوجة ستمنحه ابنًا، ومن ثم يصبح أبًا قلقًا بشأن المصاعب التي تظهر في مطلع خمسينيات القرن العشرين.
ويقرِّر الانحياز ضدَّ الإرهاب وينخرط في خدمة الفرنسيين ويأمل على هذا النحو ضمان مستقبل أطفاله. هؤلاء الأطفال بالذات كانوا في تلك الفترة يلعبون ويمرحون هنا وهناك في القرية من دون أن يهتموا بأي شيء حتى ذلك الحين. وبعد سنوات يلعب هؤلاء الأطفال مرة أخرى في الرواية: فقد وصلوا - مثل كثيرين غيرهم - للتو إلى فرنسا مع آبائهم، إلى معسكرات الترانزيت المزدحمة التي بناها الفرنسيون للحركيين، من دون أن يدركوا أنَّ هذه البداية من الممكن أن تكون نهايةً أيضًا.
حالة تمزُّق بين الثقافات والأجيال
هرب عليٌ أيضًا من الجزائر في عام 1962 مع ابنه الأكبر حميد عبر البحر الأبيض المتوسِّط إلى فرنسا. وقد اضطر هو وحميد إلى قضاء عامين في هذا المعسكر المحدَّد لهما، في ظلِّ ظروف مهينة وفي فقر وعوز وريبة وشكّ.
يستمر العنف الذي يهدِّد حياته في الجزائر هنا أيضًا على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسِّط، ولكن في ظروف مختلفة: فبينما كان عليٌّ يخاف في الجزائر من التعرُّض للقتل لأنَّه شخصٌّ حركيّ، بات يُعذِّبه الآن في فرنسا التهميش العقلي والعاطفي. أمَّا زوجته "يما" وبقية أطفاله فيتبعونه في وقت لاحق. ومنذ هذه اللحظة تصبح الأسرة مُمَزَّقة بين الثقافات، وممزَّقة بين الوطن القديم والجديد.
وحالة التمزُّق هذه ستؤثِّر على الأسرة وتُقَسِّمها: وهي سبب للمخاوف والصدمات النفسية، لأزمات لا يتم التحدُّث عنها غير أنَّها تشتعل باستمرار، وخاصة بين الأجيال. إذ إنَّ عليًّا، على سبيل المثال، يبقى طيلة حياته يشعر بقلق الغرباء نحو اللغة الفرنسية - ولكن ابنه حميد في المقابل هو شخص ذكي وموهوب ويمتص بشغف الثقافة الفرنسية بكلِّ أنسجتها.
وبناءً على ذلك فإنَّ رواية "فنُّ الفقدان" هي أخيرًا وليس آخرًا ملحمة، تتناول تعقيدات الهجرة وعواقبها. ومن هذه الناحية فإنَّ الغضب والإحباط والطُرُق الشاقة والصعبة نحو الاندماج - وكذلك التمييز المستمر - هي أيضًا توجُّهات تحت السطح في رسالة الحبِّ هذه الموجَّهة في وقت لاحق إلى الأسرة.
رسالة موجَّهة لاحقًا إلى الأجداد والآباء - ونداء إلى فرنسا
وهذه الأسرة في الواقع - مثلها مثل العديد من الحركيين الآخرين السابقين - تم إخفاؤها في الأرشيفات. والكاتبة أليس زنيتر أعادتها من خلال رواية "فنُّ الفقدان" إلى النور وقد أشادت ببطولات الحركيين اليومية.
وهي لا تخفي التهميش الاجتماعي والعنصرية الهيكلية والنقص حتى يومنا هذا في اندماج الأشخاص، الذين جاؤوا ولا يزالون يأتون إلى فرنسا كمهاجرين جزائريين.
وبما أنَّ المؤلفة أليس زنيتر قد حصلت عن هذه الرواية على جوائز من بينها جائزة أكاديمية "غونكور" المرموقة، فإنَّ هذا يبعث الأمل من هذه الناحية في أن تواجه فرنسا وبشكل تدريجي هذا الفصل المزعج والقبيح من تاريخها.
كلاوديا كراماتشيك
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019
أليس زنيتر: رواية "فنُّ الفقدان"، ترجمة هاينَر كوبَر، صدرت باللغة الألمانية عن دار نشر بيبر-فرلاغ في ميونخ، سنة 2019، في 560 صفحة، بغلاف فنِّي واقٍ، تحت رقم الإيداع:
ISBN: 9783827013736