مسجد "ليبرالي" في برلين...مساجد خاصة بدلاً من ثورة إصلاحية دينية
تحاول جماعات دينية ناشئة خارج التيارات الإسلامية السائدة الاخذ بزمام المبادرة وإطلاق مبادرات إصلاحية لا تسعى للإصلاح، بقدر ما هي مبادرات ثورية تعمل على إنتاج دين جديد يسعى لاستقطاب المسلمين، وكان آخرها ما سمعنا عنه وشاهدناه في برلين يوم الجمعة الماضي (16 يونيو/ حزيران)؛ حيث تم افتتاح مسجد "ليبرالي" يسمح بالصلاة المختلطة للجنسين ولجميع الطوائف، ولا يمانع بإمامة المرأة ولا يتطلب منها وضع الحجاب أثناء الصلاة، ويرحب بالمثليين في صفوفه، وفق بيانات القائمين عليه.
وكما نقلت وسائل الإعلام عن أحد المشاركين في المشروع، وهو عبد الحكيم أورغي قوله: "هذا المسجد فرصة لإعادة تعريف المسلمين لأنفسهم".
لاقت هذه المبادرة الاستهجان والاستياء من العديد من التيارات الدينية المحافظة داخل ألمانيا وخارجها، ولكن لا أرغب هنا للتعرض للمبادرة وردود الأفعال التي أحدثتها؛ لأنني لا أرى فيها أكثر من رد فعل لمشكلة أعمق، وهي جمود الخطاب الإسلامي منذ عدة قرون، الأمر الذي يخلق فراغاً بين الممارسة الدينية التقليدية وبين الواقع الذي نعيشه اليوم، هذا الفراغ هو الذي يخلق الفرصة لمثل هذه المبادرات لملئه.
جمود الفكر و ردرد فعل على مشكلة أعمق
فلو أتيح لنا الاطلاع مثلاً على إحدى خطب الجمعة قبل 400 عام، ومقارنتها بخطب الجمعة اليوم، ما هي نسبة الاختلاف في المضمون والشكل؟ أكاد أجزم أن الاختلاف سيكون محدوداً جداً في المضمون وأقل من ذلك في الشكل. مع العلم أن العالم تغير على كافة المستويات: المعرفية، والاجتماعية والسياسية بشكل هائل، حتى السياق السياسي والدولي اختلف بشكل كامل عما كان عليه قبل مائة عام، فضلاً عن خمسة قرون.
فمعظم الفتاوى والتراث الفقهي تم إنتاجه في عالم تحكمه الامبراطوريات؛ لذلك نرى التقسيم المشهور للعالم بين دار حرب ودار كفر وتحريم الهجرة بينهما.
ومن المؤسف أن يقوم العديد من "العلماء" المسلمين المعروفين قبل حوالي عام بإطلاق العديد من الفتاوى، التي تقسم العالم إلى دار حرب تضم أوروبا والولايات المتحدة ودار الإسلام التي تضم سوريا الأسد ومناطق تنظيم الدولة وتحرم الهجرة بينهما.
فعصر الإمبراطوريات الممتدة انتهى منذ عدة قرون وبدأ عصر الدول القومية القائمة على المواطنة وعلى الاحترام الدستوري لحق التدين.
ولكن المنظومة الفقهية الإسلامية ما زالت في أغلبها قائمة على التراث الديني الذي تم إنتاجه قبل قرون.
تجميد كامل الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة العربية
وكذلك يمكن الادعاء بأن جمود الخطاب الديني وحجر كافة محاولات تطوير فهم النص أدت إلى تجميد كامل الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة العربية وقدرتها على التأقلم والتطور؛ لأن الفهم الديني يشكل جزءاً أساسياً جداً من الثقافة العامة في المنطقة.
والسبب الرئيسي في ذلك يعود للكيفية التي تتعامل بها التيارات الدينية ذات الانتشار الواسع مع دعاة الانفتاح والتطوير أو حتى مع أصحاب الأفكار التنويرية أو غير المألوفة، فهذه التيارات تعد ما تراكم لديها عبر القرون من تراث على أنه دين وتحارب كل من يخالفه دون أي محاولة للإفادة من المقاربات المختلفة أو الأفكار الجديدة التي يقدمونها.
والنتيجة هي فقدان هذه التيارات القدرة على التأقلم مع التغيير في العالم وفقدانها القدرة على التطور واستيعاب الواقع، مما أدى إلى توقف الفهم الديني للنص وتوقف تطور الممارسة الإسلامية عندما وصلت إليه في نهاية عهد المماليك قبل خمسة قرون في أحسن تقدير.
أما النتيجة العملية لهذا الجمود فهي انحصار المعرفة المتداولة في الدين في مجال فقه العبادات بشكل رئيسي وانفصاله عن الواقع تدريجياً.
وسيشهد الإسلام ظاهرة المساجد الخاصة أسوة بظاهرة الكنائس الخاصة المنتشرة في الولايات المتحدة وفي أوروبا؛ حيث تقوم اليوم كل مجموعة دينية غير مقتنعة بالتفسير الكاثوليكي أو البروتستانتي للدين بتطوير فهمها الخاص للدين وإنشاء كنيسة خاصة بها.
أدوات التواصل والانفتاح الهائل على العالم بالتزامن مع ظروف الحروب والهجرة والبؤس يوفر البيئة الخصبة لبروز هذه الظاهرة والتي ستجد من يدعمها ويرعاها رغبة في ظهور نسخ جديدة للإسلام تنبذ العنف وتسهل الاندماج مع المحيط غير الإسلامي وهي مطالب يمكن تفهم دوافعها.
قد لا يحتاج الإسلام إلى ثورة إصلاحية أو إلى مصلح ديني مثل مارتن لوثر، لكنه يحتاج بكل تأكيد إلى مفكرين إسلاميين من داخل تياراته الرئيسية يتمتعون بالقدرة النقدية العالية والذخيرة العلمية الكافية من أجل قيادة الجهود الساعية إلى مواءمة السياق الفكري والمعرفي الذي يتم إنتاج الفكر والمعارف الإسلامية بداخله مع ما أنتجته الحداثة والعولمة من مؤسسات ومعارف وأدوات.
هذه الجهود قد تحتاج إلى فرق عمل متعددة الاختصاصات من داخل وخارج المدارس الدينية، وهو أمر لا بد منه من أجل بناء تصورات واقعية تعكس الصورة الحقيقية للعالم الذي نعيش فيه اليوم.
غياث بلال
كاتب وباحث مهتم بقضايا التغيير في العالم العربي.