علاقة إسبانيا والجزائر في عين العاصفة
في تصعيد غير مسبوق، قررت الجزائر تعليق معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون مع إسبانيا السارية المفعول منذ أكثر من عشرين عاما. وتضع هذه المعاهدة إطار التعاون بين الجانبين في عدد من القطاعات كالهجرة والأمن وغيرها. التصعيد الجزائري جاء كرد فعل على تغيير مدريد لموقفها من قضية الصحراء الغربية واعترافها الضمني بسيادة المغرب على هذا الإقليم، بعدما اعتبرت اقتراح الحكم الذاتي الموسع الذي اقترحته الرباط، الخيار الأكثر واقعية لحل النزاع في المنطقة.
ويذكر أن الجزائر سحبت في مارس / آذار 2022 سفيرها المعتمد في مدريد للتشاور لنفس السبب. من جهتها، عبرت مدريد عن "أسفها" لقرار الجزائر، مؤكدة في الوقت نفسه مواصلة التزامها بمضمون المعاهدة. التصعيد الجزائري اتخذ أيضا بعدا اقتصاديا، بعدما أعلن بيان لـ"جمعية المصارف الجزائرية" حظر كل عمليات الاستيراد من المملكة الإيبيرية وذلك مباشرة بعد تعليق المعاهدة.
وإلى وقت قريب، كانت الجزائر تعتبر نفسها مجرد مراقب في قضية الصحراء الغربية التي يتشبث المغرب بسيادته عليها، فيما تسعى جبهة البوليساريو المدعومة من الجزائر إلى تأسيس دولة مستقلة في الإقليم. غير أن استدعاء سفير الجزائر في مدريد وتعليق العمل بمعاهدة التعاون، يضعان الدبلوماسية الجزائرية على المحك أكثر من أي وقت مضى، لأنها تبدو وكأنها معنية مباشرة بالنزاع وأنها ليست بالتالي مجرد طرف محايد، في تحول جوهري قد تكون له انعكاسات على هذا الملف.
أما إسبانيا فتجد نفسها في وضع لا تحسد عليه، ممزقة بين الغريمين الإقليميين: المغرب والجزائر. وبهذا الصدد كتبت صحيفة "فرانكفورته ألغمانه تسايتونغ" الألمانية (التاسع من يونيو/ حزيران 2022) معلقة "تدفع إسبانيا ثمناً باهظاً لمصالحتها مع خصم الجزائر الإقليمي، المغرب، الذي استمرت أزمة دبلوماسية حادة معه لأكثر من عام، أنهاها بيدرو سانشيز في 18 مارس/ آذار الماضي 2022 بتبنيه لخطة الحكم الذاتي المغربية بعد أكثر من 40 عامًا من الحياد الإسباني". وأضافت الصحيفة أن الموقف الإسباني الجديد "يعني بشكل غير مباشر، اعترافا بأن المستعمرة الإسبانية السابقة هي جزء من المغرب". ويذكر أن أزمة دبلوماسية حادة اندلعت بين المغرب وإسبانيا بسبب استقبال الأخيرة لزعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي في أبريل / نيسان من العام الماضي 2021 إلى مستشفى لوغرونو في مدينة سارقسطه في شمال إسبانيا لتلقي العلاج بعد تدهور صحّته من جراء إصابته بكوفيد-19 وذلك بهوية مزورة. غير أن العلاقات بين الرباط ومدريد عادت إلى طبيعتها بعد الاعتراف الضمني لإسبانبا بسيادة المغرب على إقليم الصحراء الغربية، وهو الذي أشعل فتيل أزمة جديدة بين مدريد والجزائر.
سلاح الغاز الجزائري.. سيف ذو حدين
تُعتبر الجزائر موردا رئيسيا للغاز لإسبانيا، وسبق للسلطات الجزائرية أن أكدت أكثر من مرة في السابق أنها لن تفسخ عقد توريد الغاز، فيما أكد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أنه لا يوجد مؤشر على حدوث تغيير بهذا الشأن. وذهبت وزيرة الطاقة الإسبانية تيريزا ريبيرا في نفس الاتجاه، مؤكدة بدورها أن موقف الجزائر المتعلق بإمدادات الغاز نموذج يحتذى به. وجددت ثقتها بأن شركة الغاز الجزائرية المملوكة للدولة "سوناطراك" ستحترم التزاماتها كما تنص على ذلك عقودها التجارية لتوريد الغاز للمرافق الإسبانية على الرغم من الخلاف الدبلوماسي. واستطردت موضحة "لا نعتقد أنه يمكن مخالفة (العقود) بشكل أحادي بقرار من الحكومة الجزائرية". غير أن عدة مصادر توقعت مراجعة الجزائر للأسعار بشأن أي عقد جديد للغاز مع الشركات الإسبانية. علما بأن العقد الحالي طويل الأجل والأسعار أقل بكثير من أسعار السوق الحالية. وقالت الوزيرة في مقابلة مع إذاعة "أوندا سيرو" الإسبانية (التاسع من يونيو/ حزيران 2022) "لا نعتقد أنه يمكن مخالفة (العقود) بشكل أحادي بقرار من الحكومة الجزائرية".
وبهذا الصدد كتب موقع "تاتس" اليساري الألماني (التاسع من يونيو/ حزيران 2022) معلقا "لطالما كان لنزاع الصحراء الغربية تأثير على الاقتصاد الإسباني. فإلى حدود الخريف الماضي كان حوالي 50 في المائة من الغاز المستهلك في إسبانيا يأتي من الجزائر، لتنخفض هذه النسبة إلى حوالي 30 في المائة حاليا. كما أغلقت الجزائر أحد خطي أنابيب الغاز الذي يمر عبر الأراضي المغربية إلى إسبانيا بعد توتر العلاقات مع المغرب". وزادت أهمية إمدادات الغاز من شمال أفريقيا لأوروبا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. لذلك ينظر الغرب بكثير من الحساسية لأي محاولة لاستعمال الغاز أو الطاقة عموما كسلاح سياسي.
تقرير للناتو يحذر من الاعتماد على غاز الجزائر
مباشرة بعد بداية الغزو الروسي لأوكرانيا وفرض العقوبات الغربية على موسكو، ظهر الغاز الجزائري كمصدر بديل محتمل يمكن لأوروبا الاعتماد عليه، غير أن تقريرا داخليا لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حذر من الاعتماد عليه، معتبرا أن ذلك يشكل تهديدا لأمن لأوروبا بسبب استعمال الجزائر للغاز كسلاح سياسي، وفق ما ذكره موقع "بيزنس إنسايدر" (الأول من يونيو/ حزيران 2022)، وذلك بعدما هددت الجزائر في نهاية أبريل / نيسان الماضي 2022 بوقف إمداد إسبانيا بالغاز في حال بيعه إلى دول أخرى. وجاء الموقف الجزائري، بعدما أعلنت مدريد عزمها تزويد المغرب بشكل عكسي بالغاز عبر خط أنابيب غاز المغرب العربي الذي أوقفت الجزائر العمل به عقابا للمغرب.
وأوضح الموقع أنه "بالنسبة لحلف شمال الأطلسي، فإن القضية واضحة، إذ يؤكد التقرير على وجه التحديد أن هناك خطرًا من أن الجزائر، مثل روسيا، مستعدة لاستخدام إمداداتها من الغاز كوسيلة للضغط السياسي. وهذا ما قد يشكل خطرًا على أوروبا على المستويين السياسي والاقتصادي. وهو ما يعرض، على المدى الطويل، مكانة الجزائر للخطر كمورد للطاقة لأوروبا". التقرير لم يذكر بدائل لحل هذا الإشكال، وإن كان الناتو، يعتبر تقليديا أمن الطاقة كأحد العوامل الرئيسية للسياسة الأمنية والخارجية للحلف. ولا يتعلق الأمر فقط بالأمن بمعناه العسكري كطرق إمدادات الطاقة، ولكن أيضا باعتبار الأخيرة أساس رفاهية المجتمعات الغربية، وبالتالي يمكن استخدامها كسلاح استراتيجي كما حدث في الصدمة النفطية خلال سبعينيات القرن الماضي. وزادت أهمية الطاقة ببعدها الاستراتيجي مع غزو روسيا لأوكرانيا وتوقف إمدادات الغاز الروسي عن بولندا والدنمارك، فضلاً عن التهديدات الجزائرية تجاه إسبانيا في سياق دولي دقيق.
تصعيد جزائري بحظر كل الواردات الإسبانية
غضب الجزائر ظهر في بيان لجمعية المصارف الجزائرية التي أمرت حظر كل الواردات الإسبانية، وذلك بُعيد تعليق الجزائر لمعاهدة الصداقة مع مدريد. وأصدرت الجمعية أمرا لكافة البنوك، بمنع عمليات التصدير والاستيراد من وإلى إسبانيا. وتضمن الأمر "منع أية عملية تحويل بنكي لإجراء عملية استيراد من إسبانيا، كما يمنع أيضا أية عملية تحويل بنكي للتصدير إلى إسبانيا". ودخل هذا القرار حيز التنفيذ ابتداء من يوم التاسع من يونيو/ حزيران الجاري 2022.
من جهتها، عبرت مدريد على لسان وزير خارجيتها خوسيه مانويل ألباريس الذي أكد أن حكومته "ستدافع بقوة" عن مصالحها الوطنية في ضوء قرار الجزائر إلغاء معاهدة صداقة وتعاون دامت عشرين عام. وقال ألباريس "نحن نحلل نطاق وعواقب ذلك الإجراء على الصعيدين الوطني والأوروبي بطريقة هادئة وبناءة ولكن أيضا بحزم في الدفاع عن إسبانيا ومصالح المواطنين الإسبان والشركات الإسبانية". يذكر أن صادرات إسبانيا للجزائر تشمل مواد كالحديد والصلب والآلات والبلاستيك بينما تشمل الخدمات التي تصدرها لها، أعمال الإنشاءات والخدمات المصرفية والتأمين.
ومنذ تجدد الصراع حول الصحراء الغربية في عام 2020، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من وقف إطلاق النار، تدهورت العلاقات بين الجزائر والمغرب بشكل حاد. التحول في موقف مدريد إزاء الصراع في الصحراء الغربية جاء أكثر قربا من الموقف المغربي وأنهى خلافا بين مدريد والرباط العام الماضي 2021 حول الإقليم المتنازع عليه وقضية الهجرة.
بروكسيل تدعو الجزائر لإعادة النظر في قراراها
بلغة واضحة دعا الاتحاد الأوروبي الجزائر لـ"إعادة النظر في قرارها" بشأن تعليق معاهدة تعاون مع إسبانيا، واصفة القرار بـ"المقلق للغاية" خاصة وأن التكتل القاري يعتبر الجزائر "شريكا مهما للاستقرار في المنطقة". وبهذا الشأن قالت نبيلة مصرالي المتحدثة باسم مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل "ندعو الجزائر إلى إعادة النظر في قرارها" واستئناف الحوار بينها وبين إسبانيا "لتجاوز الخلافات الحالية". وتابعت "نجري تقييما لتأثير هذا القرار" على المعاهدة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي.
ويهتم التكتل القاري في علاقاته بالضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط إضافة إلى الأجندة الأمنية والاقتصادية بقضايا الهجرة غير الشرعية. وتنص المعاهدة المعلقة من الجانب الجزائري على أن يلتزم الجانبان بتعزيز الرقابة على الهجرة ومكافحة مهربي البشر. ووفقًا للسلطات الإسبانية، فغالبًا ما ينطلق المهاجرون غير القانونيين من الجزائر إلى الجزر السياحية الإسبانية في البحر الأبيض المتوسط. ورصدت مدريد ارتفاعا في عدد المهاجرين الراغبين في عبور البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا بشكل حاد هذا العام 2022 بسبب الوضع الاقتصادي العالمي المتوتر الناتج عن حرب أوكرانيا. وتستضيف إسبانيا قريبا القمة المقبلة لحلف شمال الأطلسي وستسعى خلالها لأن تضيف الهجرة غير المنتظمة صوب الشمال إلى خارطة الطريق السياسية الجديدة للحلف العسكري، باعتبارها من بين "التهديدات الهجينة"، وفقا لما قاله وزير الخارجية الإسباني.
ح.ز / ص.ش
حقوق النشر: دويتشه فيله 2022