لهذا ستتواصل السيرورة الثورية ضد نظام الملالي
من المعروف أنَّ جمهورية إيران الإسلامية تعاني من أزمات سياسية واجتماعية اقتصادية حادة تُشكِّك آثارُها في استقرار النظام وحتى في بقائه. ونتيجة لذلك فقد تكرَّرت في العقد الماضي الاحتجاجات في عموم إيران وصارت تزداد راديكالية، مثل الاحتجاجات في بداية عامَيْ 2017 وَ 2018 وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019 والاحتجاجات المستمرة منذ منتصف شهر أيلول/سبتمبر 2022.
بالإضافة إلى أنَّ الأزمات البيئية والثقافية الاجتماعية الكبيرة تعمل على توسيع الفجوة الواسعة بين الدولة والمجتمع. ومع احتجاجات عامَيْ 2017 وَ 2018 بدأت في إيران عملية ثورية طويلة الأمد تشبه ما يشهده العالم العربي منذ عامَيْ 2010 وَ 2011.
لقد شاركت العام الماضي 2022 وللمرة الأولى في الاحتجاجات المناهضة للنظام طبقات اجتماعية مختلفة - وهذا يُمثِّل قفزة نوعية بالمقارنة مع الاحتجاجات السابقة. وبالتالي فإنَّ هذه الاحتجاجات تُشكِّل تهديدًا حقيقيًا للنظام.
يكشف النظر إلى أهم المؤشِّرات السياسية والاجتماعية الاقتصادية كيف مهَّدت هذه الأزمات الطريق للاحتجاجات الثورية التي اجتاحت إيران منذ موت مهسا جينا مهسا أميني المأساوي في شهر أيلول/سبتمبر 2022.
توجد هنا أوَّلًا الأزمة السياسية - التي تعتبر الأزمة الأكثر أهمية، وثانيًا الأزمة الاقتصادية التي تزيد المشكلات الاجتماعية الاقتصادية أكثر. والمهم أنَّ الأزمتين كلتيهما هيكليتان ومرتبطتان ارتباطًا وثيقًا بدستور النظام السياسي والاقتصادي وأدائه الخاطئ.
نظام لم يعد قابلًا للإصلاح
تعود الأزمة السياسية الإيرانية إلى حقيقة أنَّ إصلاح الجمهورية الإسلامية من الداخل يعتبر أمرًا شبه مستحيل. فالنظام الإيراني يحافظ على سلطويته السياسية مما يضع حدًا للتغيير السياسي. والمسؤول عن عدم قابلية إصلاح النظام بشكل خاص هو الجناح الإصلاحي في المؤسَّسة الحاكمة، والذي ينحدر منه معظم رؤساء إيران في فترة ما بعد الحرب. فقد فشلوا بكلِّ وضوح في تحقيق أو دفع الإصلاحات الضرورية.
ولهذا السبب فقد انصبَّ الغضب الشعبي في احتجاجات عامي 2017 وَ 2018 على الإصلاحيين، المعروفين باسم المعتدلين؛ الذين فقدوا شرعيَّتهم في نظر المواطنين وذلك لأنَّ الآمال في إجراء إصلاحات في داخل الجمهورية الإسلامية قد دفنت على ما يبدو بشكل لا رجعة فيه. وشكَّل الأداء الحكومي السيِّئ في عهد الرئيس حسن روحاني، المدعوم من قِبَل الجناح الإصلاحي في النخبة، القشة التي قصمت ظهر البعير.
وظهرت خيبة أمل المواطنين العميقة في النخبة السياسية كلها -في المتشدِّدين وكذلك في الإصلاحيين- من خلال انخفاض معدَّلات مشاركة المواطنين بالانتخابات البرلمانية في شهر شباط/فبراير 2020 وبالانتخابات الرئاسية في شهر حزيران/يونيو 2021. وقد تمكَّن معسكر المحافظين من الفوز في كلتا الحالتين.
يتولى إبراهيم رئيسي المحافظ المتشدِّد منصب الرئاسة منذ عام ونصف العام، ونظرًا إلى سعة نفوذه وسلطته فمن غير المرجَّح أن يستخدم المتشدِّدون الموارد الخاضعة لسيطرتهم من أجل فعل أي شيء لصالح الكثير من الإيرانيين الذين يكافحون من أجل تأمين نفقاتهم. وهذا يودِّي إلى استمرار دوامة الانحدار الاجتماعي والاقتصادي في إيران.
تملك جمهورية إيران الإسلامية واحدًا من أكثر الأنظمة القمعية والسلطوية في العالم: فهي تقمع الحركات النسائية والطلابية والعمالية (التي تشكل معًا العمود الفقري للمجتمع المدني الإيراني)، ولديها سجل مظلم في مجال حقوق الإنسان ولا توجد فيها حرية تجمُّع وحرية صحافة والكثير من الحريات الأخرى.
ولذلك فلا عجب من أن يصف مؤشر برتلسمان للتحوُّل (BTI) في عام 2022 إيران بأنَّها دولة "أوتوقراطية متشدِّدة" ويضعها في المرتبة رقم 127 من بين 137 دولة ضمن ترتيب الديمقراطية عالميًا - وهذا يجعلها أسوأ قليلًا من السودان وتكاد لا تكون أفضل من المملكة العربية السعودية أو سوريا.
وكذلك حصلت إيران على التقييم الأسوأ فيما يتعلق بأداء الحكومة - والمحدَّد في مؤشر برتلسمان للتحوُّل مع الأخذ بعين الاعتبار -من بين أمور أخرى- القدرة التوجيهية وكفاءة الموارد وتشكيل إجماع في الرأي والتعاون الدولي. واحتلت إيران هنا المرتبة السادسة الأسوأ وقد تم إدراجها في فئة الحكم "الفاشل" - وحتى أنَّ جنوب السودان وليبيا حصلتا على مرتبة أفضل. ويعكس هذا الأداء الضعيف ما يُرهِق المجتمع الإيراني، أي: عدم كفاءة النخبة الحاكمة وفسادها.
الأزمة الاجتماعية الاقتصادية
من الواضح أنَّ الأزمة الاجتماعية الاقتصادية الخطيرة في إيران هي نتيجة اقتصاد سياسي ذي صبغة إيديولوجية يتَّبعه النظام ويُفضِّل الأقلية الحاكمة والموالين للنظام وهي كذلك نتيجة سياسة تتجاهل المسألة الاجتماعية المشتعلة. وتراجعت إيران في تقييم كفاءة الأداء الاقتصادي إلى أسوأ فئة وأصبح ترتيبها هنا أيضًا في أسفل القائمة عند المرتبة رقم 125 من أصل 137، وهي تعتبر بذلك على مستوى واحد تقريبًا مع جارتها أفغانستان، التي تحكمها طالبان، وأسوأ من جارتها المباشرة الأخرى العراق.
زاد الفقر بشكل كبير خلال العقد الماضي في إيران وابتلع قطاعات كبيرة من الطبقة الوسطى، وقد ساهم في هذه العملية الركود التضخمي، أي اقتصاد راكد مصحوبًا بمعدلات تضخُّم مرتفعة باتت تتجاوز نسبة الخمسين في المائة.
وإيران لم يتم فقط تصنيفها باستمرار لدى مؤشر برتلسمان للتحوُّل عام 2022 في المراتب الدنيا، بل إنَّها أيضًا تحتل مرتبة سيِّئة جدًا في المقارنة الدولية. لقد أدَّى الغضب والإحباط الناتج عن الأزمات الاقتصادية والسياسية الهيكلية إلى إشعال أربعة آلاف احتجاج في عامي 2021 وَ 2022 (وهي موثَّقة من قِبَل مشروع البيانات عن مواقع وأحداث النزاعات المسلحة) وذلك قبل أن تبدأ في شهر أيلول/سبتمبر 2022 "الحلقة الثورية" (بحسب تعبير آصف بيات، وهو باحث بارز مختص في الحركات الاجتماعية في الشرق الأوسط).
استمرار الاحتجاجات
تتصدَّر موجة الاحتجاجات الحالية أربعُ مجموعات: النساء والشباب والطلاب والمجموعات العرقية المُهمَّشة. والقاسم المشترك بينهم هو أنَّهم يعانون جميعًا بشكل غير متناسب من الأزمة الاجتماعية الاقتصادية والسياسية.
والعملية الثورية في إيران موجودة حاليًا في طريق مسدود. لا النظام ولا المتظاهرون قادران على هزيمة كل منهما الآخر بشكل نهائي. في هذا الشتاء 2022 / 2023، تراجعت الاحتجاجات في الشوارع بشكل ملحوظ باستثناء المظاهرات بعد صلاة الجمعة في محافظة سيستان وبلوشستان في جنوب شرق إيران. وعلى الأرجح أنَّ سبب ذلك يعود إلى القمع والطقس الموسمي البارد. ومع ذلك لا تزال توجد إضرابات مثل السابق.
ومن المحتمل أن يخرج الإيرانيون من جديد إلى الشوارع في ربيع عام 2023 ويحتجون أكثر، وذلك ليس فقط نظرًا للانخفاض غير المسبوق في قيمة عملتهم الوطنية ومعدل تضخم بلغ أكثر من خمسين في المائة. لقد أظهر الماضي أنَّ الاحتجاجات التي أسبابها اجتماعية اقتصادية غالبًا ما تتحوَّل بسرعة إلى حركات سياسية ومناهضة للحكومة.
وبعبارة أخرى: على الأرجح أنَّ العملية الثورية سوف تستمر، وذلك لأنَّ التغلب على الهوة القائمة بين الدولة والمجتمع يبدو غير ممكن نظرًا لكون النظام غير قابل للإصلاح ولا يستطيع - أو لا يريد - تلبية احتياجات المجتمع الإيراني الأساسية.
علي فتح الله نجاد
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2023