من ينقذ الديمقراطية التونسية؟
تشعر التونسية الشابة حنين حباسي بأنها قد تعرضت للخذلان، فقبل عامين صوتت لمرشح الرئاسة آنذاك قيس سعيد. إذ تشعر أنه يدمر المكاسب الديمقراطية التي حققتها تونس بعد "ثورة الياسمين".
وفي مقابلة مع دي دبليو، كشفت حنين (38 عاما) وهي موظفة حكومية وتعيش في مدينة باردو، عن سبب شعورها الحالي بقولها "دافعت عن (قيس سعيد) بشدة رغم أننا لم نكن نعرف عنه شيئا". وقد أثارت قرارات سعيد غضب حنين خاصة قراره الأخير بشأن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الذي أصدره قبل أيام ويقضي باستبدال أعضاء الهيئة بسبعة أعضاء جدد.
يشار إلى أنه جرى تشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي تعد واحدة من آخر الهيئات المستقلة في تونس، من أجل ضمان شفافية وشرعية الانتخابات في البلاد، لكن سعيد أصدر أمرا رئاسيا الجمعة (22 أبريل/ نيسان 2022) يعطيه صلاحيات تعيين رئيس للهيئة العليا وعضوين فيها وذلك قبل استفتاء شعبي منتظر في 25 يوليو / تمّوز القادم 2022.
وفي ذلك، تقول مونيكا ماركس، الأستاذة المساعدة بجامعة نيويورك بأبو ظبي والخبيرة في شؤون الشرق الأوسط وتونس، إن الهيئة لم تعد مستقلة بعد مرسوم الرئيس باستبدال أعضائها. وأوضحت ذلك في مقابلة مع دويتشه فيله بأن "أي انتخابات تنظمها الهيئة العليا من الآن فصاعدا ستكون غير حرة وغير نزيهة وستسرع من ترسيخ ديكتاتوريته،" في إشارة إلى الرئيس التونسي.
وتتفق حنين حباسي مع هذا الرأي وتقول إن "قرار الرئيس خطوة تمهد الطريق أمام الاستبداد ونحن لا نريد العودة إلى حقبة تاريخية مريرة عاشتها تونس". وكانت حبسي تشير في حديثها إلى حقبة الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي الذي استمر حكمه قرابة عقدين، لكنه فر من تونس عقب اندلاع شرارة الربيع العربي عام 2010.
"شبح ديكتاتورية جديدة"
وعلى وقع قراراته الأخيرة منذ حل البرلمان في يولي / تموز العام الماضي 2021، ينتاب العديد من التونسيين حالة قلق من توجه قيس سعيد صوب الاستبداد. وتعصف بتونس أزمة سياسية طاحنة منذ قيام سعيد بتجميد البرلمان وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي ومنح نفسه صلاحيات قانون الطوارئ، مبررا ذلك برغبته في إنهاء الجمود السياسي المستمر في البلاد والقضاء على الفساد بعد عقد من ثورة الياسمين.
وأثارت الخطوة التي قام بها سعيّد انقسامات في تونس ما بين معسكرين، إذ يرى المعسكر المؤيد له أن هذه القرارات كانت ضرورية لإنهاء حالة الجمود السياسي ومعالجة المأزق الاقتصادي، فيما يصف المعسكر المعارض الخطوة بأنها ترقى لأن تكون "انقلابا دستوريا". ويتهم هذا المعسكر قيس سعيد بأنه يمهد الطريق ليكون "ديكتاتورا" ما يهدد الديمقراطية الوليدة في تونس.
وبالعودة إلى حنين، ففي البداية رحبت كحال العديد من التونسيين بالخطوة التي أقدم عليها، رغم تخوف آخرين من أن سعيد سيصبح ديكتاتور البلاد المقبل. ويبدو أن الأشهر العشرة الماضية أقنعتها بأن مخاوفها هذه لديها ما تستند عليه، فيما لا يزال كثيرون يترددون في وصف إجراءات سعيد بـ "الانقلابية".
بدوره، يرى حمزة المؤدّب، باحث غير مقيم في مركز "مالكولم إتش كير" التابع لمعهد كارنيغي للشرق الأوسط، أن ما نراه في الوقت الحالي يشير إلى "تراجع الديمقراطية". ويقول في مقابلة مع دي دبليو وهو أيضا أستاذ مساعد في جامعة جنوب البحر الأبيض المتوسط في تونس، إن "هذه الإجراءات يمكن أن تمهد الطريق أمام إنشاء نظام استبدادي في نهاية المطاف، لكن ليس هذا هو الحال في الوقت الراهن، لكن قد يتحقق هذا في غضون الأشهر المقبلة."
ومنذ الصيف الماضي، تولى الرئيس التونسي الإشراف على القضاء وقبله عمد إلى تعليق البرلمان وعزل رئيس الوزراء ثم قام بتعيين نجلاء بودن في منصب رئيسة الحكومة بموجب قرارات رئاسية يصدرها قيس سعيد (64 عاما) والذي يراه منتقدوه بأنه بات يحكم تونس بمراسيم رئاسية.
يتزامن هذا مع إجراءات يراها كثيرون تقمع المعارضة فضلا عن الزج بالعديد من المعارضين في السجون. وفي ظل القرارات الأخيرة التي اتخذها سعيد والتي بموجبها باتت كافة المؤسسات التي تمتلك صلاحيات وسلطات سياسية، خاضعة لسيطرته، يطرح مراقبون تساؤلا مفاده: ما هي الجهة التي بمقدورها إنقاذ ديمقراطية تونس؟
وفي محاولة للإجابة على هذا التساؤل، يقول المؤدب وماركس إن المعارضة التونسية بات منقسمة وتضم أحزابا سياسية بلا قاسم مشترك. أما فيما يتعلق بحزب النهضة الذي يعد أكبر حزب في تونس، فإن العديد من التونسيين يلقون باللائمة عليه فيما وصلت إليه البلاد من أزمات سياسية واقتصادية، بسبب مشاركته في الحياة السياسية والبرلمانية منذ ثورة عام 2011. وفي هذا السياق، يقول مراقبون إن هذا الأمر يجعل من الصعب على الأحزاب الأخرى الانخراط في التنسيق مع حزب النهضة حتى لو كان القاسم المشترك بينهم معارضة قيس سعيد.
بيد أن الأيام الماضية شهدت انضمام حزب النهضة إلى تكتل معارض لقيس سعيد يتألف من خمسة أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني وشخصيات سياسية مستقلة، حيث أُطلق على هذا الائتلاف "جبهة الخلاص الوطني" بهدف تشكيل حكومة مؤقتة حتى الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في ديسمبر/ كانون الأول القادم 2022.
وفي مؤتمر صحفي يوم الثلاثاء (26 أبريل/ نيسان 2022)، أعلن السياسي التونسي أحمد نجيب الشابي عن تشكيل الجبهة، وقال "نريد الرجوع إلى الديمقراطية والشرعية". وأوضح الشابي أن من أولويات الجبهة إنقاذ اقتصاد "في تراجع كبير" بسبب وضع سياسي "متعفن" ينفر المستثمرين، منتقدا قرارات الرئيس قيس سعيّد التي أقرها في 25 يوليو / تموّز.
هل يملك التونسيون القدرة على التغيير؟
بدوره، يرى مراد عبدلاوي وهو مدرس تونسي في عامه الـ 46، أنه من المحتمل أن يخرج المواطنون التونسيون إلى الشوارع للاحتجاج مرة أخرى. وقال في مقابلة مع دويتشه فيله "أعتقد أن الشعب التونسي لا يزال منقسما، إذ يشعر البعض أن الرئيس يفعل الصواب فيما يرى آخرون القرارات التي يتخذها غير دستورية. لكنهم قد يحاولون ممارسة الضغط من خلال الدعوة إلى مظاهرات حاشدة مرة أخرى."
ويبدو أن مخاوف من اندلاع احتجاجات في تونس أثارت حالة قلق في الشارع التونسي. وفي ذلك، قالت حضرية بنعطية البالغة من العمر خمسة وسبعين عاما وتعيش في ولاية سليانة شمال البلاد، إن خطاب سعيد "لم يعجبني منذ البداية. وشيئا فشيئا، أدركت أنه يسير على خطى بن علي".
وعقب توليه السلطة، رجحت استطلاعات الرأي كفة قيس سعيد، حيث رأي غالبية التونسيين أنه يفعل الصواب، بيد أن هذا الأمر قد تغير في الوقت الحالي، إذ كشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة "إنسايتس تي إن" (Insights TN) أن 49,8 بالمائة أيدوا القرارات التي أصدرها في أغسطس/ آب العام الماضي. 2021، لكن في فبراير/ شباط الماضي 2022 بلغت نسبة التأييد له 23,2 بالمائة.
هل يمكن أن يتدخل المجتمع الدولي؟
وخارجيا، حذرت الدول التي تدعم تونس عسكريا واقتصاديا من تداعيات القرارات التي يتخذها قيس سعيد على المسار الديمقراطي في البلاد. ويشير المحلل السياسي التونسي سيف الدين فرجاني في مقال نشرته منظمة "الديمقراطية الآن للعالم العربي" ومقرها الولايات المتحدة، إلى أن "واشنطن تجنبت وصف انقلابه بأنه انقلاب، لأن من شأن هذا أن يؤدي إلى تعليق المساعدة المالية الأمريكية المقدمة لتونس على أساس قانوني". ويضيف بأن "العديد من الدول الغربية الديمقراطية أظهرت قدرا ملحوظا من السلبية تجاه التمزيق المنهجي الذي يقوم به قيس سعيد للديمقراطية التونسية".
بدوره، ترى مونيكا ماركس، المتخصصة في الشأن التونسي، أن هناك بعض "التردد" في التعاطي الدولي مع قرارات قيس سعيد، لكنها تشير إلى حدوث تغيير في الآونة الأخيرة مع صدور تصريحات لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين تطالب الرئيس التونسي بضرورة أن تكون الإصلاحات التي يقوم بها شاملة وتتوافق مع الأعراف والقيم الديمقراطية.
ويعتقد مراقبون أن المخاوف من تدهور الاقتصاد التونسي، كفيلة بدفع قيس سعيد إلى التجاوب مع هذه الدعوات. يشار إلى أن الاقتصاد التونسي يعاني من وضع صعب حتى قبل وصول سعيد إلى سدة الحكم، بينما تفاقمت الأزمة الاقتصادية جراء وباء كورونا ولترتفع أسعار الوقود والسلع الغذائية على وقع الحرب في أوكرانيا.
وكانت وزارة المالية التونسية قد أعلنت أن الدين العام المستحق على البلاد ارتفع إلى حوالي 102,2 مليار دينار (35.6 مليار دولار) ليشكل حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 2021، ما نسبته 81,47 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بزيادة 12 بالمائة مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2020.
وأضافت الوزارة أن الدين الخارجي بلغ حوالي 62 مليار دينار (21,57 مليار دولار) بينما بلغ الدين المحلي حوالي 40,2 مليار دينار (14,04 مليار دولار) من الناتج المحلي الإجمالي. وقد دفع ذلك الحكومة إلى إجراء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل ضمان الحصول على قرض بمليارات الدولارات لتجنب الإفلاس. ويُتوقع التوقيع على هذا الاتفاق في منتصف العام الجاري 2022.
ضغوط اقتصادية
وفي ظل هذه المعطيات، يتساءل مراقبون فيما إذا كانت المساعدات المالية ستدفع قيس سعيد إلى تغيير نهجه؟ وفي تعليقه على هذا الطرح، كتب أنتوني دوركين، زميل بارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، في مقال نُشر مطلع شهر أبريل / نيسان 2022: "إذا استمر سعيد في رفض الانخراط في عملية سياسية شاملة، فسيكون أمام أوروبا وشركاء تونس الدوليين خيارين: الأول يتمثل في وقف المساعدات والثاني معارضة إبرام صفقة تونس مع صندوق النقد الدولي".
بدوره، يؤكد الخبير في الشأن التونسي حمزة المؤدّب على أنه لا يوجد خيار واحد يمكنه إعادة تونس إلى مسار الديمقراطية إذ أن الأمر يتطلب عدة خيارات. ويضيف "لن تُحدث العوامل الاقتصادية التغيير المطلوب ما لم تكن هناك معارضة قوية وموحدة يمكنها إقناع الناس حقا بقدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية".
لكن مونيكا ماركس تشدد على أن "البعد الاقتصادي يعد العامل الأكثر أهمية، نظرا لأنه خلال الاحتجاجات السابقة حتى التي أدت إلى الإطاحة بالديكتاتور بن علي، دعا التونسيون إلى الحرية والكرامة"، مضيفة أن الكرامة "تعني القدرة على توفير حياة كريمة لعائلاتهم، لذا فإن الاقتصاد دائما يعد مصدرا رئيسيا للقلق".
وترى أن الرئيس سعيد ليس لديه الكثير من الخطط لإصلاح الاقتصاد، لذا فالمعارضة في حاجة إلى توحيد صفوفها للخروج بموقف موحد، وتشير إلى أن أحد الأسئلة الرئيسية بالنسبة إليها هو "ما إذا كانت هناك ثمة كتلة حرجة (كبيرة) من التونسيين تدرك أن لا أمل في قدرة قيس سعيد على إصلاح الاقتصاد قبل أن يتمكن من ترسيخ ديكتاتوريته بالكامل" وتختم حديثه بالقول "إن الأمر قد يتعلق بتوقيت حدوث ذلك، لكن للأسف لا أعتقد أن التوقعات تبدو إيجابية بشكل كبير".
كاثرين شير / طارق القيزاني / سمية المرزوقي
ترجمة: م ع
حقوق النشر: دويتشه فيله 2022