أول محاكمة للتجويع كسلاح حرب
لابدّ أن علامات الهزال كانت واضحة على المرأتين حين أوقفهما "محمود أ."، عند الحاجز الواقع في الطرف الشمالي من اليرموك في دمشق خلال أحد أيام عام 2014، بينما كان الحصار المُطبق على المخيّم الفلسطيني في الجهة الجنوبية من العاصمة السورية مستمرًا منذ يوليو/تموز 2013. لم يكن بوسع المرأتين المنهكتين إبداء أي مقاومة، عندما بدأ محمود أ، وفق ما ورد في لائحة الاتهام، بضربهما بأنبوب بلاستيكي أخضر.
تفيد الاتهامات بأن المرأتين سقطتا أرضًا، وفي خضم موجة من الهلع بين المدنيين الذين تجمعوا للحصول على حصص الطعام، داس عليهنّ الآخرون أثناء اندفاعهم نحو المساعدات، وجاء في الملف: "حتى وهما في تلك الحالة العاجزة، واصل ضربهما"، وهي أفعال عدّتها النيابة جزءًا من استخدام التجويع كجريمة حرب، إذ حرم "محمود أ."، بحرمان المرأتين من الغذاء الذي كانتا في أمسّ الحاجة إليه.
يُعدّ "محمود أ." واحدًا من خمسة رجال يواجهون اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في أحدث محاكمة تُقام في ألمانيا ضمن إطار الولاية القضائية العالمية المتعلقة بسوريا، لتعود المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنتس، المعروفة بمحاكمتها التاريخية لضابطي مخابرات سوريين سابقين بين عامَي 2020 و2022، مجددًا ساحة لملاحقة الجرائم المرتكبة من نظام الأسد والميليشيات المتحالفة معه.
ويُمكّن مبدأ الولاية القضائية العالمية، السلطات الألمانية من ملاحقة مرتكبي الجرائم الدولية الجسيمة في سوريا، حتى في غياب أي صلة مباشرة بألمانيا، وقد استخدم هذا المبدأ مرارًا خلال السنوات الماضية، غير أن هذه المحاكمة تختلف عن سابقاتها؛ فهي الأولى التي تُفتتح بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024. كما أنها أول قضية تُوجَّه فيها تهمة التجويع كجريمة حرب، في إجراء عدّه البعض نقطة تحول في ملاحقة جريمة شديدة القسوة لطالما تم تجاهلها.
ميليشيا فلسطينية موالية للنظام السوري
بعد مضي أكثر من عشر سنوات على الحادثة، لم يعد "محمود أ." يشبه الرجل الضخم الموشوم الذي ظهر في الصور المتداولة على الإنترنت والتي تعود إلى عام 2014. كان مقيَّدًا وهو يُدفَع على كرسي متحرك إلى قاعة المحكمة في كوبلنتس، ومن مقاعد الجمهور، نهضت امرأة ولوّحت له بحماس، وقد شغل أصدقاء المتهمين وأفراد عائلاتهم، في يوم الجلسة الافتتاحية في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، أكثر من نصف المقاعد الخشبية داخل القاعة.
وحين دخل بقية المتهمين تباعًا، مكبّلي الأيدي والأقدام، ظهرت عائلاتهم تبكي وتلوح وتبتسم، بينما اكتفى البعض بالإشارة إليهم للحفاظ على هدوئهم.
يواجه المتهمون قائمة عريضة من الاتهامات، إذ انضمّ كلّ من "محمود أ."، "وائل س."، "سمير س."، و"جهاد أ." في عام 2012 إلى ميليشيا "حركة فلسطين الحرة"، وهي فصيل سوري-فلسطيني عمل جنبًا إلى جنب مع نظام الأسد لقمع الاحتجاجات المناهضة له في اليرموك، والمشاركة في إحكام الحصار على المخيّم منذ ذلك العام وما تلاه.
فيما أسندت الاتهامات إلى المتهم الخامس "مظهر ج." أنه كان ضابطًا في فرع فلسطين التابع للاستخبارات السورية، حيث احُتجز فيه أشخاص جرى اعتقال معظمهم بشكل تعسّفي، وتعرّضوا للتعذيب وتركوا في ظروف تهدد حياتهم، أحيانًا لسنوات متواصلة، وتذكر لائحة الاتهام أن عددًا كبيرًا من المعتقلين لقوا حتفهم هناك "بسبب التعذيب وسوء ظروف الاحتجاز"، ويُنسب إلى "مظهر ج."، مسؤوليته عن اعتقال المدنيين وإساءة معاملتهم داخل فروع الأمن، إضافة إلى مشاركته في قمع سكان اليرموك باستخدام العنف.
"أنتَ تخاطر بحياتك"
تتناول لائحة الاتهام، واحدة من أبرز الحوادث التي وقعت أثناء مظاهرة خرجت في اليرموك عقب صلاة الجمعة في 13 يوليو/تموز 2012، ومع تحرّك المتظاهرين شمالًا على شارع فلسطين، أخذت أعدادهم بالتزايد، إلى أن وصلوا إلى نقطة واجهتهم فيها قوات الأمن، وكان بين أفرادها أربعة من المتهمين، وجاء في ملف القضية أن "عددًا من الأشخاص، بينهم المتهمون، أطلقوا النار بشكل متعمّد ومفاجئ على المتظاهرين، وأسفر إطلاق النار عن مقتل ثلاثة أشخاص، من بينهم إياس فهد، الذي كان يبلغ من العمر 21 عامًا آنذاك".
وعند ذُكر اسم الضحية، بدأ رجل طويل ذو شعر مجعّد وملامح متعبة بالبكاء بصمت، جالسًا برفقة محاميه في الجهة اليسرى من قاعة المحكمة، مقابل المتهمين. كان هذا الرجل والد إياس فهد، وقد انضمّ إلى المحاكمة بصفة مدعي بالحق المدني، وبحسب لائحة الاتهام، تعرّض الأب للمضايقة من المتهمين في الأيام التي تلت مقتل ابنه، إذ حاول النظام إرغامه على توقيع شهادة وفاة تتضمن سببًا مزيفًا للوفاة، لكنه رفض، وورد بأوراق التحقيقات أنهم قالوا له: "أنتَ تخاطر بحياتك. ألم يكفِ أنك فقدت ابنًا؟ هل تريد أن تخسر آخرًا أيضًا؟".
"أمنيتي أن تكون عائلتي معي في ألمانيا...ثم العودة إلى فلسطين"
أيهم أحمد، عازف البيانو الشهير الذي اعتاد أن يبث الأمل عبر ألحانه والأصوات الطفولية البريئة. أصوات شاركته أوقات الجوع والحصار في شوارع مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، المُدمَّر في دمشق جنوب سوريا. أيهم يروي رحلته انطلاقاً من المخيم وصولاً إلى ألمانيا، وكيف انتهى المطاف به متألقاً بالحصول على جائزة بيتهوفن الدولية، وهو في سن السابعة والعشرين. ريم ضوّا التقت عازف البيانو في ألمانيا وأجرت معه الحوار التالي.
بالإضافة إلى هذه الحادثة وإساءة معاملة المرأتين عند الحاجز، نُسب للمتهمين التورط في حوادث أخرى تتعلق بواحد أو أكثر من المتهمين مثل إطلاق النار على المتظاهرين، وضرب المدنيين واعتقالهم تعسفيًا عند نقاط التفتيش، وإرسالهم إلى فروع المخابرات حيث لقوا حتفهم لاحقًا - مما أسفر عن مقتل ستة أشخاص على الأقل.
التمس دفاع المتهم "سمير س."، من المحكمة بإسقاط التهم عن موكله لأنه "لم يسبق له امتلاك سلاح أو الانضمام إلى أي ميليشيا"، ولم يردّ المتهمون الآخرون ومحاموهم على الاتهامات بعد.
ووفقًا للائحة الاتهام، فإن موفق دعاء، المقاتل السوري الفلسطيني الذي حُكم عليه بالسجن المؤبد في برلين في فبراير/شباط 2023، متورط أيضًا في العديد من الجرائم. ويُزعم أن رجلًا آخر، محمود سويدان، هو من أصدر الأوامر في بعض القضايا. هاجر لاحقًا إلى السويد، حيث أُلقي القبض عليه العام الماضي في نفس الوقت مع المتهمين في قضية كوبلنتس، ويُحاكم حاليًا بتهمة ارتكاب جرائم حرب في مخيم اليرموك.
فهم اليرموك
لا يمكن فهم الوضع في اليرموك بسهولة والظروف التي دفعت ميليشيات فلسطينية لقتل مدنيين فلسطينيين لحساب نظام الأسد، فبينما يُصور المجتمع الفلسطيني-السوري غالبًا ككتلة واحدة متجانسة، إلا أن الواقع مختلف تمامًا؛ اتخذت مجموعات فلسطينية متعددة مواقف متباينة من الثورة السورية. تغيّرت هذه المواقف بمضي الوقت، وقد تشكّلت توجهاتهم بفعل عوامل عديدة، من بينها تدخّل نظام الأسد الطويل في الشأن الفلسطيني، وهو تدخّل عمّق الانقسام داخل الفصائل الفلسطينية بين منَ دعم النظام ومنَ عارضه؛ إضافة إلى التوترات المتراكمة مع الميليشيات الفلسطينية التي كانت تسيطر على الأحياء الفلسطينية نيابة عن النظام.
كان يعيش في سوريا نحو 560 ألف فلسطيني مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، كان يقيم ثلثهم في اليرموك، وقد قدمِ معظمهم إلى سوريا بعد النكبة، أو بعد حرب يونيو/حزيران أو الأيام الستة عام 1967.
كانت سوريا آنذاك من أكثر الدول استقبالًا للفلسطينيين، إذ منحتهم معاملة قريبة من معاملة المواطنين السوريين، بما في ذلك معظم حقوقهم، ولم تكن المخيمات عبارة عن أحياء مهمّشة أو معزولة، بل تحولت، مثل اليرموك، إلى جزء أساسي من دمشق وإلى مراكز تجارية مهمة.
خطة إعمار من أنقاض الحرب
يسعى أستاذ العمارة السوري عارف السويداني، من مختبره بمدينة فايمار الألمانية، على تحويل أنقاض الحرب في سوريا إلى موردٍ أساسي لإعادة البناء، وهو مقتنع تمامًا بأنّ "الاقتصاد الدائري" قد يشكّل مفتاح إعادة إعمار مستدامة لسوريا.
اليوم، لم يبقَ الكثير من الحي النابض بالحياة الذي كان عليه اليرموك، حيث كان أحد أكثر المناطق التي دارت فيها معارك طاحنة خلال الحرب الأهلية السورية، حوّلت غارات النظام معظم مبانيه إلى هياكل رمادية أو أكوام من الركام، وفي بدايات الانتفاضة عام 2011، كان كثير من الفلسطينيين-السوريين حذرين من الانخراط المباشر، لكن سرعان ما أصبح اليرموك مقصدًا لآلاف السوريين النازحين من مناطق أخرى، حيث استقبل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف منهم، كما شكّل منطقة عازلة بين وسط دمشق والضواحي الجنوبية التي كانت الفصائل المعارضة تكسب فيها نفوذًا متسارعًا.
وكان قادة الفصائل المعارضة يصفون اليرموك كثيرًا بأنه “الرئة| التي يتنفسون عبرها. فقد كان الجرحى يُعالجون هناك، وتجد عائلات المقاتلين ملاذًا آمنًا، كما كان بعض شباب المخيم يساعدون أحيانًا في تهريب السلاح والذخيرة، وبينما حاولت قيادات محلية الإبقاء على حياد اليرموك، سرعان ما تشكّلت مجموعات جديدة من المحتجّين ردًّا على قمع النظام داخل المخيم وعلى حدوده.
وكان "الجيش السوري الحر"، وهو فصيل مسلح مناهض للنظام، قد شنّ هجومًا على وسط دمشق انطلاقًا من الضواحي الجنوبية المحاذية لليرموك في يوليو/تموز 2012. وبعد بضعة أشهر فقط، بدأت غارات النظام تستهدف المخيم، وسرعان ما سيطرت قوى المعارضة على اليرموك، الأمر الذي دفع نظام الأسد وميليشياته الموالية إلى فرض واحد من أوائل حصاراته وأكثرها وحشية.
قضى المئات جوعًا على مدى السنوات الثلاث التالية، وقد قدّم الناجون روايات صادمة عن اضطرار الناس لأكل القطط والكلاب، أو عن سقوطهم برصاص القناصة أثناء محاولتهم البحث عن أي شيء لأكله، وفي عام 2015، وصف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون اليرموك بأنه "أعمق دوائر الجحيم".
التجويع كجريمة حرب
وسط هذا المشهد القاتم قُدّمت لائحة الاتهام في كوبلنتس، وجاء فيها أنه "رغم أن السكان كانوا قادرين في البداية على الدخول إلى الحي أو الخروج منه ضمن قيود مشددة، فإن المنطقة أُغلقت بالكامل ابتداءً من يوليو/تموز 2013"، وأكد الادعاء، أن مليشيا "حركة فلسطين الحرة" و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة"، اللتين ينتمي أربعة من المتهمين إليهما وفق المزاعم، شاركتا في فرض الحصار، وذكرت لائحة الادعاء: "لم يعد بالإمكان شراء الطعام أو الدواء، وبحلول ذلك الوقت، كانت الكارثة الإنسانية قد بلغت ذروتها".
ورغم سماح نظام الأسد، لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بإدخال المساعدات الإنسانية مطلع عام 2014، إلا أن السكان اجبروا على استلام تلك المساعدات من الجهة الشمالية لليرموك الخاضعة لسيطرة النظام، "حيث كانوا معرّضين لخطر العنف"، ومع ذلك، ومن أجل تجنّب الموت جوعًا لهم ولعائلاتهم، كان كثيرون يتوجّهون إلى نقاط التوزيع في الأيام المحددة للحصول على ما توفر من غذاء.
لأول مرة على الإطلاق، يُقدَّم اتهام التجويع إلى المحاكمة كجريمة حرب مستقلة، على الرغم من أن ذات الاتهام ورد أيضًا في مذكّرات التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
ماذا تُعلمنا مذكرة اعتقال نتنياهو عن القانون الدولي
تضع مذكرات الاعتقال الصادرة بحق كبار السياسيين الإسرائيليين القانون الدولي أمام الاختبار. هل تدعم الدول الغربية محاكم الأمم المتحدة فقط عندما يخدم ذلك مصالحها الخاصة؟ وهل يمكن أن ينقذ "مبدأ الولاية القضائية العالمية" العدالة الجنائية الدولية؟
تقول كاتريونا مردوخ، من منظمة "فيدر" الهولندية لحقوق الإنسان، وهي خبيرة بارزة في ملف التجويع كجريمة حرب: "لطالما اعتُبر التجويع مشكلة إنسانية أكثر منه جريمة دولية. كان يُنظر إليه كأمر يحدث خلال الحروب بشكل تلقائي – المؤن تنفد، الناس يضطرون للتحرك – كأنه نتيجة لا يمكن تجنّبها".
عملت مردوخ مع منظمات سورية غير حكومية في ما يتعلّق بحصار اليرموك، وكانت على تواصل مع المدّعين الألمان الذين يتولّون القضية، ومن وجهة نظرها، فإن الحصارات في سوريا تكشف الطبيعة الإجرامية المتعمّدة وراء تجويع المدنيين، وتوضح: "كان شعار النظام السوري: اخضع أو جُعْ، وقد كتبوا هذا الشعار على جدران العديد من المدن والبلدات السورية".
تضيف أن التجويع لا يشكّل سوى جزء صغير من لائحة الاتهام في محكمة كوبلنتس، لكن المحاكمة قد تكشف الأنماط الأوسع للحصار والتجويع في سوريا، وهي تأمل أن يشجّع هذا الملف الأول هيئات قضائية أخرى على التحقيق في استخدام التجويع كسلاح حرب، بما في ذلك ما يحدث في غزة أو السودان.
وترى مردوخ، أن حالة اليرموك تُعد مثالاً واضحًا وبداية مناسبة لإظهار حجم الدمار الذي يخلّفه هذا النوع من الجرائم، فآثاره تمتد من الصدمات النفسية إلى صعوبات التعليم، والتقزّم لدى الأطفال، مرورًا بالتدهور الاقتصادي وانخفاض معدلات الولادة، وتقول: "إنها جريمة بطيئة الأثر، تمتد نتائجها لتطاول الأجيال القادمة".
ترجمة من الألمانية: م. تايلور
قنطرة ©