أداة للتحرر والقمع
منذ إعلان الاتحاد الدولي لكرة القدم فيفا (فيفا) في عام 2010 عن استضافة قطر بطولة كأس العالم، وصلت هذه الدولة الصغيرة إلى مستوى غير مسبوق من الشهرة. ولكن هذه الشهرة لا ترتبط بصورة إيجابية فقط. يبيِّن يان بوسه ورينيه فيلدأنغل في مجموعة مختاراتهما "اللعبة المتمردة" كيف تمكَّنت هذه الدولة، التي لم تسبق لها المشاركة في بطولة كأس العالم لكرة القدم، من استضافة مثل هذا الحدث الكبير.
يرسم مؤلفو مجموعة المختارات هذه صورة لكرة القدم في الشرق الأوسط تتجاوز مونديال قطر بكثير وتضع الرياضة ضمن سياق تاريخ الشرق الأوسط. ويسلطون الضوء على خلفية بطولة كأس العالم السياسية في قطر، بالإضافة إلى دور الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وقوة كرة القدم السياسية ودورها في مختلف الحركات الاحتجاجية. ويتضح من خلال ذلك أنَّ كرة القدم في الشرق الأوسط تعتبر أكثر من مجرَّد رياضة وأنَّها بالتالي سياسية للغاية.
مونديال قطر: حركة سياسية
يعرض في الجزء الأوَّل من مجموعة المختارات يان بوسه ورينيه فيلدأنغل بالتفصيل بطولة كأس العالم 2022 وقرار اختيار قطر لاستضافتها. ويصف المؤلفان كيف اكتشفت دول الخليج خلال العقود القليلة الماضية الرياضة وخاصة كرة القدم كأداة "للقوة الناعمة" وعملت على توسيعها باستمرار. وهذه المساعي السياسية تتناقض بشكل صارخ مع شعار الفيفا، الذي يرفعه حتى يومنا هذا المسؤولون الرياضيون، والذي يفيد بأنَّ: "الرياضة لا علاقة لها بالسياسة".
يوضح المؤلفان مارلون سعدي وغيدو شتاينبيرغ في مقاليهما المنشورين ضمن هذه المختارات أنَّ النظر حصرًا إلى قطر بصفتها الدولة المضيفة لبطولة كأس العالم 2022 لا يكفي، لأنَّ دول الخليج المجاورة تستغل هي أيضًا الرياضة وخاصة كرة القدم لأهداف سياسية.
جميع دول الخليج مرَّت في "عملية تحوُّل جذري" - على أبعد تقدير بعد اندلاع الربيع العربي في عام 2011، مثلما تكتب سينزيا بيانكو وسيباستيان زونس. والقيادة القطرية ليست الوحيدة، التي ترى في كرة القدم فرصةً من أجل توسيع تأثيرها الوطني والدولي: "دول الخليج تتَّبع بواسطة كرة القدم استراتيجية لإبراز القوة وتعزيزها من خلال استغلال هذه الرياضة وتسييسها على المستوى الوطني والإقليمي والدولي". وهنا يزداد الصراع باستمرار بين دول الخليج خلال عملها على تكوين هويَّات جديدة.
قطر: إمارة صغيرة لكنها "أكبر من أن تفشل"
فقد أدَّت هذه المنافسة والصراع على القوة الإقليمية إلى أزمة قطر في الفترة بين عامي 2017 و2021. وتمكَّنت قطر من التغلب على الأزمة بفضل شبكة علاقاتها الدولية الجيِّدة أثناء الاستعدادات لبطولة كأس العالم، وضمن هذا السياق كثيرًا ما كانت توصف بأنَّها "أكبر من أن تفشل". يبيِّن المؤلفان بوضوح كيف يتم استغلال بطولة كأس العالم الحالية في الخليج استراتيجيًا وسياسيًا.
ومع ذلك فإنَّ كرة القدم لها أكثر من جانب القوة السياسية السلبي: إذ إنَّ "دبلوماسية كرة القدم يمكن أن تلعب دورًا في عودة التقارب مع الخليج" ويمكن لجميع دول الخليج في النهاية أن تستفيد من بطولة كأس العالم في قطر. وبالتالي فإنَّ تشابك بطولة كأس العالم 2022 مع استراتيجية القوة القطرية هو مجرَّد مثال على الترابط المحلي بين الرياضة وأصحاب السلطة السياسة.
وبالإضافة إلى خلفية سياسية القوة هذه، يتناول الكتاب دور الاتحاد الدول لكرة القدم (فيفا) ووضع العمال الوافدين، الذي لا يزال كارثيًا في قطر. حيث تصف ريغينا شبوتل طريق العمال الوافدين الصعب في قطر خلال استعداداتها لبطولة كأس العالم. حتى يومنا هذا، تعتبر إصلاحات قانون العمل القطري غير كافية ولا تزال ظروف حالات وفاة العديد من العمَّال غير واضحة.
تنهي الكاتبة ريغينا شبوتل فصلها بدعوة واضحة إلى النظر -حتى بعد كأس العالم- إلى حقوق العمَّال وتنفيذها في قطر ودول الخليج المجاورة وإلى مواصلة الضغط.
بين مستعمريين وحكام سلطويين
يُقدِّم الجزء الثاني من هذه المختارات منظورًا تاريخيًا وإقليميًا أكبر. يسلط المؤلفون الضوء على تاريخ كرة القدم الوعر في الشرق الأوسط والتشابك الموجود دائمًا بين الرياضة والسياسة.
ويصف ناشرا مجموعة المختارات "التناقض بين قدرة كرة القدم على التعبئة والقيود الصارمة المفروضة عليها" بأنَّه "سمة مميِّزة لتاريخ كرة القدم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". غالبًا ما يرتبط تاريخ تأسيس الدول في الشرق الأوسط مع كرة القدم بطرق مختلفة، وحتى يومنا هذا يستخدم رؤساء دول المنطقة هذه الرياضة كوسيلة لتوطيد سلطتهم.
ومع ذلك فقد كانت القوى الاستعمارية أوَّل من استغل كرة القدم سياسيًا. والعديد من أندية كرة القدم الأولى انقلبت وعن وعي ضدَّ هذه القوى من أجل المشاركة في تشكيل مسار أوطانها السياسي. ونتيجة لحركات الاستقلال المختلفة، استخدم العديد من الحكام الجدد هذه الرياضة لتوطيد سلطتهم الوطنية.
وهذا الاتجاه مستمر حتى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، يصف الصحفي روني بلاشكه بشكل مثير للإعجاب كيف دعم الرئيس السوري بشار الأسد كرة القدم في السنوات الأخيرة من أجل استعادة الاحترام على الصعيدين الوطني والدولي.
كرة القدم كمنبر للاحتجاجات السياسية
تشكِّل مسألة المواقف السياسية تجاه كرة القدم الفكرة الأساسية أيضًا في مقال كتبه الصحفي موريتس باومشتيغَر حول مدرِّب جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) السابق بيرند شتانغه، الذي كان مدرِّبًا للمنتخب السوري بين عامي 2018 و2019. وتؤكِّد المقالات المنشورة في هذه المختارات حول كرة القدم في تاريخ إسرائيل وفلسطين وإيران أنَّ كرة القدم تعني أكثر من مجرَّد تسعين دقيقة موزعة على شوطين في أرض الملعب وهي لا تعتبر أبدًا غير سياسية. وهنا يُبيِّن المؤلفون أيضًا الصراع الداخلي بين مختلف الأطراف الفاعلة في كرة القدم.
ولكن كرة القدم في الشرق الأوسط لا يتم تسييسها من قِبَل الحكَّام وحدهم. فكرة القدم أصبحت منصة للاحتجاجات السياسية، خاصةً خلال الربيع العربي.
يقدِّم الصحفي كريستوف بيكر وصفًا مؤثِّرًا لكفاح النساء الإيرانيات من أجل المساواة في كرة القدم، وهو في المقام الأوَّل كفاح من أجل دخول النساء إلى الملاعب، ولكنه يمتد أيضًا إلى رياضات أخرى وخارج مجال الرياضة.
وتوجد أيضًا دول أخرى في الشرق الأوسط تعتبر بعيدة عن منح النساء حقوق متساوية في كرة القدم سواء في داخل الملعب أو خارج الملعب.
ومن أسباب ذلك بحسب رأي الكاتبة آنا رويس حقيقة أنَّ النساء ما زلن يعتبرن "شاشةً لعرض التقاليد والهوية" ومن المستحيل التوفيق بين ذلك والنشاط الرياضي والمنافسة.
ولكن مع ذلك فقد تم في السنوات الأخيرة اتخاذ خطوات إيجابية صغيرة في مختلف بلدان المنطقة. على سبيل المثال تعمل المملكة العربية السعودية على تشكيل فريق كرة قدم نسائي وعيَّنت في عام 2021 لاعبة كرة القدم الألمانية السابقة مونيكا شتاب كمدربة لهذا الفريق.
وبالإضافة إلى الكفاح من أجل المساواة في الحقوق، فإنَّ الكفاح السياسي لمشجعي كرة القدم المشاغبين في مصر وكذلك الاحتجاجات الموسيقية في الجزائر تمثِّل أشكالًا جديرة بالملاحظة من أشكال التعبير عن الاحتجاج الاجتماعي خلال مباريات كرة القدم في الشرق الأوسط.
ومثلما يتَّضح في هذين الفصلين فإنَّ قدرة كرة القدم على جمع الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية وتعبئتهم تتجاوز بكثير ما يحدث في الملاعب.
وتعرض المقالات المنشورة في مجموعة المختارات هذه اللعبة المتمردة في الشرق الأوسط -داخل الملعب وخارجه- بجميع جوانبها المظلمة.
ومع ذلك يبقى السؤال حول من يملك كرة القدم مفتوحًا. كما أنَّ بطولة كأس العالم الحالية في قطر -والتي تعتبر أداة قوة بيدّ الأمير وحدثًا رياضيًا كبيرًا يُفترض أنَّه غير سياسي بالنسبة للاتحاد الدولي لكرة القدم وكذلك أوَّل بطولة محلية لكأس العالم بالنسبة للناس في الشرق الأوسط- تحمل في طياتها أيضًا تعقيدات تاريخ كرة القدم في المنطقة.
ولكنَّ مؤلفي هذه المختارات يبيِّنون مرارًا وتكرارًا أنَّ كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في الشرق الأوسط وأنَّ قصتها متشابكة جدًا مع تاريخ المنطقة منذ أكثر من قرن من الزمن.
ميريام شميت
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022
يان بوسه ورينيه فيلدأنغل ناشران لكتاب "اللعبة المتمردة - قوة كرة القدم في الشرق الأوسط وكأس العالم في قطر"، صدر عن دار نشر دي فركشتات، سنة 2022، في 272 صفحة.