أدب جنسي في عصر أوروبي اتسم بروح الاحتشام الشرقية
عرضت دار الأوبرا في بون أوبرا "فارس الوردة" للموسيقار الألماني ريشارد شتراوس (1864 - 1949) الذي اشتهر في كل ألمانيا وفي المحيط الأوروبي ومن بعد العالمي، لكنه ظل في موطنه البافاري طيلة عمره تقريبا.
وقد خلط الكثيرون بينه وبين ملحن شهير آخر هو يوهن شتراوس النمساوي الذي اشتهر بتلحين موسيقى الفالس واعداد أعمال الأوبريت وأشهرها وأكثرها مرحا ونغما "الخفاش".
هناك قواسم مشتركة بينهما فالنمساويون والبافاريون - لا الألمان عامة - يتفقون في أنماط الحياة وفي اللهجات وفي ميلهم لديارهم الجميلة القريبة من البحيرات وجبال الألب الشامخة، كما أنهم إن صح التعميم أكثر ميلا للمرح والفولكلور الشعبي مقارنة بسكان ألمانيا المقيمين شمالي نهر الماين لا سيما سكان الشمال منهم.
ريشارد شتراوس عشق الشرق خصوصا مصر
لكنَّ هناك أيضا فروقا بارزة بين شتراوس البافاري وشتراوس النمساوي. ففيما اعتنى النمساوي بموسيقى الفالس والأوبريت الشعبية الخفيفة ارتكزت أعمال شتراوس الآخر على الموسيقى الأكثر عنفوانا ودرامية ولم يهتم كثيرا بالأوبريت بل ألف العديد من الأعمال الأوبراهية ذات الأبعاد الميثولوجية والأسطورية الأكثر عمقا من النمساوي والأقل مرحا منه. ويرى بعض نقاد الموسيقى الكلاسيكية الحديثة بأن ريشارد شتراوس تأثر ولو سطحيا بالميثولوجيا الشرقية وتحديدا بأساطير ألف ليلة وليلة.
نشأ البافاري ريشارد شتراوس في بيت مشبع بحب الفن والموسيقى والأغاني الكلاسيكية والفلكلورية. وعاش حياة الرغد بحكم ثراء والدته وقوة نفوذها في المجتمع عامة وأوساط الفن خاصة. ولم يمل شتراوس للدراسة الأكاديمية النظرية ليتفرغ بالكامل لهوايته الموسيقية المفضلة . فدرس مواد العلوم الموسيقية والتأليف الموسيقي.
عشق شتراوس بلاد الشرق ومصر على وجه التحديد. وكان قد قصدها للاستشفاء، فتمتع بدفء شمسها وتماثل فيها تدريجيا للشفاء من مرض كاد يفتك بحياته. لكن موضوع الحياة وتحديدا الموت انعكس بحكم المرض الذي عاني منه طويلا على إبداعه الفني وأعماله الموسيقية التي اتسمت بالدرامية وإلى نوع ما بالروح التشاؤمية.
بالتالي فقد أعجبته الأعمال الفلسفية لكل من الفيلسوفيين الألمانيين نيتشه وشوبنهاور الحافلة بالرؤية التشاؤمية من جانب وبحب العظمة من جانب آخر . وكحال نيتشه في أعماله الفلسفية آمن شتراوس بما يسمى بالإنسان المثالي الذي يخترق حواجز الضعف الإنساني كالطمع والشهوانية وحب الذات ليكون منفتحا نحو مجتمعه وأبناء بلده.
يعتبر ريشارد شتراوس من رواد الحركة الرومانسية في الموسيقي في أواخر القرن التاسع عشر وهي ذات المدرسة التي انتمى إليها أيضا ريشارد فاغنر المتأثر بالميثولوجيا الجرمانية من وجهتي العرق والتاريخ، والذي أبدع في أعمال الأوبرا ذات النمط الجديد المختلف محتوى وتلحينا عن أنماط الأوبرا الإيطالية. لكن شتراوس اختلف عن النمط الموسيقي لفاغنر فلم يسرف مثله في العرض الدرامي الأسطوري بل حاول أن يضفي على أعماله الموسيقية حدا كبيرا من الواقعية.
محتوى أوبرا "فارس الوردة"
الجزء الأول: قضت زوجة الضابط الكبير ماري تيريز ليلة حب مع عشيقها الشاب الأصغر منها سنا الكونت أوكتافيان. وعندما تناولت الفطور معه في صباح اليوم التالي دقت أجراس البيت فخشيت أن يكون زوجها قد عاد مبكرا من رحلة الصيد في إحدى غابات كرواتيا. لكن الخوف فارقها بعد أن أدركت بأن الزائر من أقربائها وإن كان غير محبب لنفسها، أي البارون أوكس الذي جاء يطلب منها أن تقترح عليه نبيلا يقدم لخطيبته صوفي وردة فارس تمهيدا لعقد قرانهما كما جرت العادة إزاء تدبير الزواج الذي لم يعرفه الشرق المسلم فحسب بل الغرب المسيحي أيضا.
فاقترحت عليه عشيقها الكونت أوكتافيان الذي ارتدى في هذه الأثناء زي فتاة خوفا من كشف سر العلاقة بينه وبين زوجة الضابط. وعندما أظهرت له صورة الكونت وافق على الفور ولكنه دهش لكون "الفتاة" التي رآها تعمل في خدمة قريبته صورة طبق الأصل من الكونت الشاب نفسه. ورتب بالخفاء موعدا مع الفتاة المزعومة التي لم تجد ذريعة لرفض دعوته السافرة رغم أن الحديث كان طيلة الوقت يدور حول زواجه المرتقب مع صوفي ابنة رجل ثري أدخل مؤخرا في سجل النبلاء.
الجزء الثاني: أجواء تهيب لاستقبال فارس الوردة ومدبر الزواج الكونت أوكتافيان. صوفي وأوكتافيان يقعان فجأة في حب بعضهما ويتقاسمان الاحساس بالازدراء حيال البارون الانتهازي أوكس الطامع في وراثة والد خطيبته الثري. لكن البارون يحاول كسب حب صوفي له من خلال أغنية فالس برع في أدائها.
فشى أشخاص يعملون عند البارون أوكس ويضمرون له في ذات الوقت مشاعر الكراهية وحب الانتقام بسر الحب بين الكونت وصوفي فأثار ذلك غضبه ولا سيما غضب الأب مما جعله يعزم إرسالها إلى دير راهبات.
ونجم بعد ذلك خلاف وعراك بين الكونت أوكتافيان عاشق صوفي والبارون أوكس الوالع في ثروة عائلتها وقوة نفوذها مما أسفر عن توجيه ضربة له بالسيف من الكونت حيث أصيب بجروح طفيفة لكنه تعامل معها كحال من كان في حكم الاحتضار.
الجزء الثالث : تأتي امرأة إلى منزل والد صوفي ومعها عدد كبير من الأطفال زاعمة بأن البارون أبو الأطفال وأنه ترك العائلة برمتها للاستمتاع باللهو والمتعة وغيرها من أسباب "الحياة الحلوة" (دولتشه فيتا). هنا تنقلب الموازين حيث يشتعل غضب الأب على البارون ويرى فيه محتالا مفتقدا إلى روح الصدق والإخلاص.
يرى المشاهد في فصل جانبي البارون ملتقيا بـ "الفتاة" المزعومة التي هي في واقع الأمر الكونت بنفسه. هنا تظهر على المسرح زوجة الضابط الكبير وتفسد أحلام البارون في كسب محبة "الفتاة". ورغم أن ماري تيريز ما زالت تضمر الحب للكونت الشاب، إلا أنها أيقنت بحكمة أصحاب الخبرة بأن فرص الشابة الجميلة صوفي تفوق واقعيا ومنطقيا فرصها. من هنا آمنت بالأمر الواقع وباركت علاقة الحب بين صوفي والكونت. انتهت الأوبرا بمنظر الاثنين يعانقان بعضهما تمهيدا لعلاقة مستدامة على أنغام الفالس وعطير الورود.
أدب جنسي في عصر اتسم بروح الاحتشام
كان الأديب النمساوي أرتور شنتسلر محقا نوعا ما في لب تقييمه لنص الأوبرا فارس الوردة (ليبريتو) الذي كتبه الأديب النمساوي الآخر هوفمانستال ولحنها الموسيقي البافاري ريشارد شتراوس كما سبقت الإشارة.
شنتسلر الذي كان من رواد الأدب الجنسي في عصر اتسم بروح الاحتشام والتعرض إلى مجالات العشق بالادوات الأدبية العذرية، ما جعل الكثيرين من قراء الألمانية يعتبرونه اما منحرفا لا يمت للأدب بصلة وإما رائدا بارزا للرواية الحديثة القريبة من الواقعية الحياتية والمتذمرة من أساليب التنميق القريبة من النفاق والمثالية الفارغة.
بعد أن قرأ شنيتسلر نص الأوبرا رأى بأنها بحكم ما تضمنته من تفاصيل فكرية وتاريخية تعكس صورة الأديب الضالع في الثقافة والمعرفة من الجانب اللغوي البحت، إلا أنها تتسم من جانب آخر بالضحالة من حيث المحتوى والموضوع. وانتقد شنيتسلر أغاني العشق في نص الأوبرا بكونها تميل إلى الاسراف إلى حد اللامعقولية كما رأى بأن الجوانب الفكاهية افتقدت إلى القواعد الأساسية للدعابة والمرح مما جعلها فارغة ومثيرة للضجر.
أما بشأن الموسيقى التي لحنها شتراوس فجاء نقده إيجابيا في مجمله. ويبدو أن تهجمه على النص جاء نابعا من الحزازات التي كانت تربطه أو بالأصح تفصله عن عدد كبير من أدباء اللغة الألمانية. لا شك أن الإشارة إلى "ضحالة" نص أوبرا فارس الوردة صحيحة من ناحية وحافلة بالتجني من ناحية أخرى. مصدر التجني الحزازات الأدبية والشخصية التي أشرنا إليها سابقا والتي لا تصلح بالتالي لأن تكون معيارا موضوعيا بهذا المعنى.
لكن هذه الإشارة محقة بصورة إجمالية عامة أي بشأن نصوص أعمال الأوبرا على وجه كامل. فنصوص الأوبرا (ليبريتو) سواء كانت من أروع الأعمال التى ابتدعها الرواد الإيطاليون فيردي أو بوتشيني أو روسيني أو مسكنيي أو في حالة النمساوي موتزارت أو الفرنسي بيزي لايحق التعامل معها والحكم عليها بذات المعايير السائدة حيال الأعمال الأدبية الكبرى. خاصة وأن نصوص الأوبرا تستند في المقام الأول على روايات أسطورية خيالية ومن هنا اتسمت ولو ظاهريا بالسطحية بل حتى بالسذاجة.
عارف حجاج
حقوق النشر: عارف حجاج / موقع قنطرة 2019