ليبيا صنيعة الآخرين
الحدود الفاصلة، بين إقليم برقة في الشرق وإقليم طرابلس في الغرب، حددها ورسّمها اتفاق بين الفينيقيين والإغريق لفض النزاع المستمر بينهما على أراضيها.
وعند نقطة ترسيم الحدود، في وسط البلاد تقريباً على الطريق الربط بين الإقليمين بالقرب من (سرت) الحالية، شيدوا قوساً تذكارياً.
ليبيا من الفينيقيين إلى الفتح العربي الإسلامي والعثمانيين فالإيطاليين
ثم مر، ببقايا أثره المندثر، الجيش الروماني الذي قهر القوتين الفينيقية والاغريقية معاً، ووحدوا البلاد تحت سلطانهم الجامع المانع.
ومر به جيش الفاتح الإسلامي عقبة بن نافع داحراً الرومان في طريقه إلى آخر نقطة في شمال القارة بالمغرب الأقصى.
ويُقال في الأخبار القديمة ذات المخيال الأسطوري إنه، بعدما أتم فتح المغرب الأقصى، توجه إلى المحيط وخاض بفرسه في مياه المحيط حتى بلغت السرج، وقال:
"اللهم إني أطلب السبب الذي طلب عبدك ذو القرنين"، فقيل له: "يا ولي الله وما السبب الذي طلبه؟" فقال: "ألا يُعبَد في الأرض إلا الله وحده".
وعبرتْ قبائل بني هلال وبني سليم (العدنانية) التي هاجرت من الجزيرة العربية إلى الشام ثم صعيد مصر ومنها انتقلت إلى باقي شمال أفريقيا، بعدما هجّرها الخليفة الفاطمي المستنصر بالله بسبب تمردها على سلطانه.
فكانت وراء تعريب معظم القبائل "البربرية" (السكان الأصليون) التي اندمجت في الإسلام ولغة القرآن العربية.
وفي العهود العثمانية الأربعمئة ظل موضع القوس المندثر باقيا كنقطة ترسيم مُقَّراً بها في الفصل بين ولاية طرابلس وولاية برقة.
"ليبيا الإيطالية" – حين وحَّدَ الإيطاليون ليبيا لمصلحتهم الكولونيالية
ولما جاء الغزاة الإيطاليون (1911) في صورة رومان جديد متماهين بعظمة روما القديمة، قاموا (العام 1934)، ولمصلحتهم الكولونيالية، بتوحيد ليبيا بأقاليمها الثلاث: برقة وطرابلس وفزان في الجنوب الصحراوي. وعرفت باسم "ليبيا الإيطالية". لكنهم افتتنوا بحكاية نصب القوس المندثر.
العظمة الرومانية الجديدة الموهومة التي حاربها الشيخ الجهادي الأسطوري عمر المختار
ولما كانوا قد عبّدوا بالأسفلت الطريق الساحلي الممتد من حدّ البلاد غرباً إلى حدّها شرقاً (1800 كيلومتر) استهواهم أن يعيدوا تشييد النصب التذكاري القديم كي يمجد عودتهم بعد أكثر من 2000 عام. فشيدوا نصباً تذكارياً ذا فخامة وهيبة، مزيناً بقوس نصر.
وكان الدوتشي موسوليني (قيصر روما الفاشستية) هو من أزاح الستار عن النصب أثناء زيارته لمستعمرته الليبية بتاريخ 16 مارس 1937م ناظراً بعظمته المسرحية المعهودة إلى أعلى القوس حيث نُقشت العبارة اللاتينية:
ALME SOL POSSIS NIHIL VRBE ROMA VISEREMAIVS
وتعني:
"لن ترى شيئاً في العالم أكبر من روما "
إنها العظمة الرومانية الجديدة الموهومة التي حاربها الشيخ الجهادي الأسطوري عمر المختار لعشرين سنة متواصلة، مبتدعا مفهوم حرب العصابات الحديثة، حتى القبض عليه جريحاً في ساح القتال وإعدامه (16 سبتمبر 1931) وكان في سن الثالثة والسبعين حينها.
دحر الغزاة الإيطاليين وحلفائهم الألمان من جهة مصر وعودة الأمير إدريس السنوسي إلى ليبيا
ومن جهة مصر (العام 1942) جاء الجيش البريطاني، مرفقاً بحوالي 5000 مقاتلٍ ليبي مسانِدٍ من المهاجرين الليبيين في مصر، داحراً جنود الغزاة الإيطاليين وحلفائهم الألمان.
العام 1944 عاد الأمير إدريس السنوسي من منفاه في القاهرة إلى بنغازي عاصمة برقة، برعاية البريطانيين الذين وضعوا برقة وطرابلس تحت الإدارة البريطانية. وتُرك إقليم فزان تحت السيطرة الفرنسية.
حاول الأمير السنوسي إعلان برقة إمارة مستقلة وبدستور مستقل من جانب واحد في 1 مارس / آذار 1949 بدعم من المملكة المتحدة. لكن النخب الوطنية الفاعلة، مدنياً وقبلياً، رفضت المشروع بقوة.
وفي نهاية نالت ليبيا استقلالها كأول بلاد تستقل بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة (في حقبة تصفية الاستعمار).
وهي أول دولة يُعين لها مبعوث دولي يشرف على إصدار دستور (عام 1949) من لجنة مكونة من ستين شخصية وطنية مختارة بالتساوي بين الأقاليم الثلاث، حتى قبل أن تنال البلاد استقلالها رسميا المحدد في 24 ديسمبر 1951.
وفي دولة الاستقلال طُمست العبارة اللاتينية في تمجيد روما ونُقش بدلا عنها أبيات شعر وطني ركيك على منوال:
شاد البغاة بناءً يبتغون به/ تخليد روما وشاء الله أن يقعوا/ ما شأن روما بقوم أصلهم عرب/ ودانوا بما قال خير الخلق واتبعوا/ هذي بلادى هدى الإسلام يحفظها/ والله أكبر في الآفاق ترتفع.
انقلاب ضباط صغار قومجيين بقيادة الملازم أول معمر القذافي
وقبل أن تصل دولة الاستقلال الملكية الدستورية إلى سنّ رشدها الثامن عشر، انقلب عليها، في الأول من سبتمبر 1969، مجموعة ضباط صغار قومجيين بقيادة الملازم أول معمر القذافي الذي حكم البلاد والعباد لأربعة عقود ونيف حكماً فردياً مطلقاً.
وكان من أولى إنجازاته القومجية هدم النصب من أساسه بحسبانه رمزاً تاريخياً مهيناً، يرسخ نزعة الانفصال الجهوية بين الشرق والغرب، وهو الذي ثار في سبيل توحيد الأمة العربية برمتها.
لكن هدم الحجر لا يُزيل الأثر. فها هي تعود، اليوم، الحكاية البائدة لتطرح نفسها عند ما صار يُعرف بخط سرت-الجفرة، حيث يتواجه الجمعان، في بلاد شبه منفصلة جهويا بين شرقها وغربها.
ميليشيات إسلامجية مقابل مرتزقة شركة "فاغنر" الروسية
ميليشيات الغرب الإسلامجية المدعومة بمئات الخبراء العسكريين الأتراك وقد جلبوا معهم آلاف المرتزقة السوريين. يقابلهم القوات العسكرية المُوحَّدة بقيادة الجنرال خليفة حفتر، مستعينا بمرتزقة شركة "فاغنر" الروسية.
والحال أن البلاد بين خيارين: أما عبور الاختبار الانتخابي في 24 ديسمبر / أيلول 2021 والشروع في توحيد مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، أو الرسوب في الاختبار الديمقراطي والدخول في احتراب أهلي ضروس، يهدد بانفصال البلاد بين الشرق والغرب عند موضع نقطة الترسيم القديمة ما بين الإغريق شرقاً والفينيقيين غرباً.
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021