وليد الركراكي: طفلًا ولاعبًا ومدربًا
درجة الحرارة تصل الصفر أو أقل قليلًا. يبدو الجليد من نافذة القطار رهيفًا كحرف شفرة وهو يغطي العشب. وما أخرجني من داري وأبعدني عن موقدي في هذا الطقس المجنون، سوى المدرب المغربي وليد الركراكي. كان صباحَ المباراة التاريخية بين فرنسا والمغرب في نصف نهائي كأس العالم، الوقتُ المناسب كي أتجه جنوب باريس، وتحديدًا إلى مدينة كوربي إيسون، حيث ولد وليد وتعلّم كرة قدم. حياة هذا الرجل دزينة من المفارقات المعقّدة. وكما نجح في إخراجي من داري، نجح خلال أيام قليلة في إخراج ملايين العرب والأفارقة إلى الشوارع فرحًا، وفي إخراج منتخباتٍ، جاءت الدوحة تبحث عن الكأس، من السباق. تسعون يومًا في تدريب المنتخب المغربي اختصر بها عقودًا من إنجازات أسلافه. لقد تم كل شي في أقل من تسعين يومًا، وكأن رجلًا فتح باب قاعة المجد ودخل.
منذ واقعة البلجيك الكبيرة، التي أوقع فيها المغرب هزيمة بالمنتخب البلجيكي، ثالث كأس العالم 2018، لم تتوقف رحلات الصحفيين الفرنسيين إلى كوربي إيسون. يتتبعون آثار الركراكي في المدينة الصغيرة وأخبار طفولته حيث بدأ ممارسة كرة القدم. قبل هذا التاريخ كانت الصحافة لا تزور المدينة سوى لتغطية أعمال العنف التي تندلع بين الأحياء الشمالية والجنوبية. ينتصر الركراكي في هذه المعركة دون أن يخوضها، أو أن يشعر بها أصلًا. هو لا يغير قواعد اللعبة الرياضية فقط، بل قواعد التغطية الإعلامية لما يدور داخل الهامش الباريسي الموصوم دائمًا بالعنف والفشل.
كوربي إيسون: لكِ يا منازل في القلوب منازل
لقد ترعرعت في كوربي، في الأحياء الشعبية. لكن ليست لدي الرغبة للعب دور شاب الضواحي الذي نجح والذي جاء من القاع وكل هذه السردية المظلومية. وقد شاهدتُ الكثير من الصحفيين الذين ذهبوا إلى كوربي ليقولوا للناس كم هذا مذهل، شاب من الضواحي وناجح، لا يعجبني هذا الدور، أريد أن تتغير العقلية، العمل والكفاءة وحدهما الطريق. صحيح أن من يأتون من الأحياء الشعبية يبذلون جهدًا أكبر، لكن ذلك الجهد الأكبر هو خبرة أكبر وقدرة أكبر.
بهذه الكلمات أجاب وليد الركراكي صحفيًا ربط بين ما حققه وبين جذوره الاجتماعية. بدا الركراكي ميالًا نحو التواضع في هذه الإجابة، أو عدم الوعي التام بثقل هذه الجذور. لكن مسيرته، لاعبًا أو مدربًا، طبعتها جذوره العرقية والطبقية على نحو شديد الوضوح. فقد بدأت القصة قبل ولادته في عام 1975. وصل والده إلى فرنسا قادمًا من المغرب الأقصى في ستينيات القرن الماضي. جاء ذلك في أعقاب توقيع المغرب اتفاقيات ثنائية لتوظيف العمالة مع فرنسا عام 1963. كان ذلك دأب أغلب المستعمرات الفرنسية السابقة، والتي عانت بعد موجة الاستقلالات من أزمات اقتصادية حاولت حلها من خلال تصدير فوائض اليد العاملة. كانت هذه الهجرة مكوّنة من شباب، بدون مؤهلات مهنية، من طبقات ريفية متواضعة، وتهدف إلى تلبية احتياجات العمل لإعادة الإعمار بعد الحرب العالمية الثانية، ثم خلال فترة الثلاثين المجيدة (1945 – 1975)، ولا سيما في المناجم وأعمال الصلب والبناء والصناعة والزراعة. بدايةً من عام 1974 أصبحت الهجرة المغربية إلى فرنسا تتخذ طابعًا عائليًا، حيث التحقت مئات النساء بأزواجهنّ، ولم تعد المسألة مجرد مغامرة عمل مؤقتة بل استقرارًا نهائيًا. في هذا السياق، شرعت الدولة الفرنسية في بناء أحياء في الحوض الباريسي لاستيعاب هذا المتغير الاجتماعي وتخلت عن مخيمات العمال التي بنيت في باريس في أعقاب الحرب. الأحياء الجديدة، ذات تصميم سوفياتي، وظيفية إلى أبعد الحدود، وزهيدة الإيجار. لكنها تضمّ أغلبية من العرب والأفارقة لا يمكن للعين أن تخطئها.
"يكرر الركراكي في كل ندوة صحافية قولًا مغربيًا شعبيًا «ديروا النية فينا»، أي آمنوا بنا، بقدرتنا على كسر كل هذه الحواجز النفسية التي تراكمت على مدى عقود من الهيمنة لمنعنا حتى من مجرّد الحلم بالذهاب بعيدًا في كأس العالم"
كانت كوربي إيسون مدينة صغيرة إلى حدود منتصف الستينيات. تحيط بها الأراضي الزراعية. لكن هذا المشهد الريفي ما لبث أن تبدّد بعد مشاريع التحول الحضري في المدينة. بعد موجات الهجرة المغاربية والإفريقية الواسعة شيدت الدولة أحياء عمالية لاستيعاب الوافدين الجدد مع عائلتهم. شمالًا حي «تارتيري»، وجنوبًا حي «مونكونساي»، حيث عاشت عائلة محمد عبد السلام الركراكي. الحيان اللذان يفصل بينهما وسط المدينة، ستتشكل حولهما أساطير وسرديات وعصبيات، وربما حروب وضحايا.
في أغلب زياراتي السابقة للمدينة كنت لا أتجاوز وسطها، فهو المكان الذين يمكن أن تعقد فيه موعدًا والأقرب لمحطة القطار. لكن الركراكي، كما دفعني للخروج في البرد، يدفعني للتوغّل جنوبًا في حي «مونكونساي»، الذي لا أعرف عنه شئيًا، سوى ما تبثه الصحف من أخبار حول معارك يخوضها شبابه مع حي «تارتيري» لم تتوقف منذ عقود. يقول صديقي أشرف اليعقوبي، والذي تعرفت عليه في القطار قادمًا إلى كوربي: «مونكونساي لم يعد ذلك الحي الشعبي الذي كان قبل سنوات. شكل الحي وبنيته التحتية والأجيال، كل شي تغير. بعد انتفاضة الضواحي (2005) بدأت الدولة في تحطيم المباني القديمة وبناء أخرى مكانها بأشكال ومواصفات جديدة. اكتشف الفرنسيون أن شعلة اسمها شباب الضواحي يمكن أن تندلع في موقد الجمهورية وتحرقها. هذه التحوّلات خفضت قليلًا من التوتر بين أحياء المدينة ودفعت أجيالًا جديدةً للمراهنة على الدراسة والغناء والتمثيل والرياضة بدلًا من العنف والمخدرات. مع أن الوصم الإعلامي والسياسي تجاهنا لم ينتهي أبدًا».
شأنه شأن مدربين أخرين، لم تكن مسيرة وليد الركراكي كلاعب متوهجةً ومبهرةً مثل مسيرته كمدرب
الوحش وليد الركراكي pic.twitter.com/7HMNapCSZd
— محمد (@MohamedEhab65) December 11, 2022
ي مونكونساي بدأَ وليد الركراكي مسيرة الكرة التي قادته إلى نصف نهائي كأس العالم. بدأت الكرة صغيرة في شوارع مونكونساي، وكان رهانها وقتها قطعًا من البيتزا الرخيصة أو كيس «العشرة كرواسون» من محل «البريوش دور». ثم تطوّر الأمر إلى منافسات بين الأحياء الأعداء. كان مونكونساي ينافس باسم «إيه سي ميلان» في مواجهة حي «تارتيري» الذي ينافس باسم «برشلونة». وكثيرًا ما تنتهي هذه المنافسات بالعنف أو تكون خسارة أحد الفريقين قادح حرب قادمة بينهما. منذ وصولي إلى كوربي، لا أحد يريد أن يتحدث عن العنف بين الخصمين. يلوّح الجميع بالتحية لوليد الركراكي، بوصفه واحدًا منهم، وليس فردًا من حي مونكونساي. يبدو لي أن الركراكي ينتصر في معركة أخرى دون أن يدري. إنه يسد فجوة عنف واسعة لم تنجح الشرطة الفرنسية في سدها منذ عقود.
في بداية التسعينيات قرّر وليد أن يغلق قوس كرة القدم في الشوارع وأن ينقل شغفه نحو طبقة أعلى. تتلقفه الجمعية الرياضية بكوربي إيسون، النادي المحلي للمدينة. يلعب دون كلل، حتى يأتيَ النادي المدربُ رودي غارسيا في موسم 1994، والذي يعطيه أخيرًا فرصة اللعب بقميص الكبار. لتبدأ رحلة الركراكي مع كرة القدم بوصفها مهنةً. رحلة ستقوده خلال عشر سنوات إلى ثلاثة فرق: راسينغ فرنسا ونادي تولوز ونادي أجاكسيو. رحلة لم يحقق فيها الكثير. ثم بدايةً من عام 2004 تحول إلى الدوري الإسباني للعب في صفوف نادي راسينغ سانتاندير. كان الدوري الإسباني في ذلك الوقت يضم مجموعة ساحرة من نجوم الكرة، لكن حظ وليد العاثر لم يسعفه لفعل الكثير، حيث لاحقته الإصابات ليقفل عائدًا إلى فرنسا بعد ثلاث سنوات فقط. لعب قبلها دوليًا في صفوف المنتخب المغربي منذ عام 2001، ولم يحقق معه الكثير، سوى بلوغ نهائي كأس إفريقيا للأمم في تونس عام 2004، دون الظفر باللقب. العودة إلى فرنسا كانت من بوابة نادي ديجون في دوري الدرجة الثانية لعامٍ واحد ثم ثلاثة أعوام أخرى مع نادي كرة القدم بغرونوبل لتنتهي المسيرة في نادي فلوري غير بعيد عن منزل العائلة في كوربي إيسون عام 2010.
شأنه شأن مدربين أخرين، لم تكن مسيرة وليد الركراكي كلاعب متوهجةً ومبهرةً مثل مسيرته كمدرب.
في شارع سلفادور أليندي بحي مونكونساي كانت الأعلام المغربية الحمراء تتدلى من نوافذ الشقق. وغير بعيد، في وسط المدينة، بضعة أعلام فرنسية تتدلى من نوافذ محلات وبيوت هناك. مفارقات هائلة يعيشها سكان هذه المدينة. ولدوا في فرنسا من آباء وأمهات جاءوا من بعيد. فريق الآباء ينازل فريق الأبناء: فرنسا ضد المغرب. بعضهم يشجع المغرب والبعض فرنسا والبعض الأخر ممزّق بين هويتين. يقول أحدهم :«المهاجر تبدو له الصورة واضحةً. يشجع بلده. فرنسا في النهاية ليست بلده، هو هنا لمجرد العمل أو الدراسة أو حتى الاستقرار. لكن كيانه وروحه وعجينة فكره ونفسه واضحة الاتجاه. نحن الذين ولدنا هنا من أناس جاؤوا من هناك، لا شيء واضح عندنا. في فرنسا يعتبرنا اليمين مهاجرين، وفي بلدان الآباء غرباء. لاعبو المغرب يمثلوننا لأنهم مثلنا ولدوا وعاشوا في مجتمعات غير مجتمعات آبائهم. ولاعبو فرنسا يمثلوننا لأنهم من آباء وأمهات جاؤوا ليلدوا أبناءهم في فرنسا».
ولادة المدير الفني: لن نلعب، سنشتغل
مدرب #أسود_الأطلس وليد #الركراكي: سنلعب من أجل إخوتنا الجزائريين والتونسيين #المغرب_فرنسا #كأس_العالم_قطر_2022 pic.twitter.com/HKzpOqt7sU
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) December 14, 2022
ولد الركراكي لاعبًا في سياق تحوّلت فيه كرة القدم إلى مهنة، حيث يبيع اللاعب قوة عمله لصاحب العمل، والمضاربات المحمومة بين النوادي. كان العالم حينذاك، أي ما بعد انهيار جدار برلين، يسير نحو جنة السوق الحر. وكرة القدم ومن ورائها الفيفا كان سباقةً قبل الجميع في ولوج هذا العالم الملوّن من الأرباح. لكن وليد، وعلى مدى عشرين عامًا من اللعب، هي عمر التحوّل الجذري للكرة نحو الرأسمالية، لم يحقق الكثير. لعب لحفنة من الفرق تهتز بين الدرجة الأولى والثانية وعاصر فترة مخيبةً في تاريخ المنتخب المغربي لم يصل فيها إلى نهائيات كأس العالم (2001 – 2010). ستكون هذه الخيبة عاملًا محددًا وأساسيًا في رؤية الرجل للتدريب. في مكان ما من كتابه «كرة القدم فـي الشمس والظل»، يعقد إدواردو غاليانو مقارنة بين المدرب والمدير الفني، قائلًا: «فـي السابق كان المدرب، ولم يكن أحد يوليه كبير اھتمام. ومات المدرّب وھو مطبق الفم عندما لم يعد اللعب لعبًا، وصارت كرة القدم بحاجة إلى تكنوقراطية النظام. عندئذٍ ولد المدير الفني، ومھمته منع الارتجال، ومراقبة الحرية، ورفع مردودية اللاعبين إلى حدودھا القصوى بإجبارھم على التحوّل إلى رياضيين منضبطين. كان المدرب يقول، سنلعب، أمّا المدير الفني فيقول، سنشتغل».
تبدو لي هذه المقارنة دالةً على رؤية وليد الركراكي لنفسه كمدرب. إنه لا يبحث إلّا عن النتيجة. النتيجة بوصفها بنت النجاعة وسطوة أفكار «المانجمنت». منذ دخوله عالم التدريب في 2012 مساعدًا لمدرب المنتخب المغربي رشيد الطوسي سيتخذ الركراكي نهج البحث عن النتيجة دون الاهتمام بشكل اللعب أو جودته، وسيظهر ذلك بوضوح في أول فرصة تدريب رئيسية له مع نادي الفتح الرباطي (2014 – 2020) والذي حقق معه بطولة الدوري في 2016 وقبلها كأس المغرب في 2014. ثم مع الوداد البيضاوي، أحد أعرق فرق كرة القدم في البلاد، والذي حقق معه ثلاثية تاريخية: الدوري والكأس ودوري أبطال إفريقيا. رغم أن هذا النهج كان دائمًا محل نقد واسع من الصحافة الرياضية في المغرب، إلا أن الركراكي كان دائمًا يدافع عن تكتيكه الذي يسيمه بـ«الواقعي»، ساخرًا من الذين يبحثون عن «الأداء الجميل»، حتى أنه قال في إحدى الندوات الصحفية: «لقد تعلمت في المغرب كلمة أداء من الصحافة المغربية، أريد أن ألعب كي أربح، الكرة هي النجاعة».
في مقابل هذه العقلانية الكروية المفرطة والواقعية الجافة، يحدث أن يفاجئك الركراكي بوجه آخر؛ المدرّب، وليس المدير الفني، غير المنفصل عن مجموع اللاعبين. واحد منهم، ربما شقيق أكبر. يتبادلون النكت والسخرية في حصص التدريب وعلى منصة النقاط الصحفية. وجه المدرب الذي لا يؤمن بقواعد العقل والمنطق بقدر ما يؤمن بالطالع وعناية الأولياء والقديسين. يكرر في كل ندوة صحافية قولًا مغربيًا شعبيًا «ديروا النية فينا»، أي آمنوا بنا، بقدرتنا على كسر كل هذه الحواجز النفسية التي تراكمت على مدى عقود من الهيمنة لمنعنا حتى من مجرّد الحلم بالذهاب بعيدًا في كأس العالم. الكرة عالم سحري، وتحتاج لهذه الجرعة من الغيبيات كي تزيد من أسطورتها. يعي وليد الركراكي هذا جيدًا وكأنه قرأ إدواردو غاليانو: «يظن المدير الفني أن كرة القدم عِلم وأن الملعب مختبر، ولكن المسؤولين والمشجعين لا يطالبونه بامتلاك عبقرية آينشتاين وبعد نظر فرويد وحسب، بل وبقدرات عذراء لورديس الإعجازية وقدرة غاندي على التحمل».
يلعب وليد الركراكي لعبة الكرة واعيًا بأن المُتعة فيها لم تعد هدفًا أساسيًا. يتقن هذه اللعبة بأسلوب يبحث عن النقاط لا عن جودة اللعب، مستفيدًا من دروس تجربة شخصية أدرك خلالها أن اللعب من أجل المتعة مجرّد جري وراء السراب. لكنه لا يحاول أن يبنيَ فوق تلك النجاعة أساطير. على العكس تمامًا، يطلق على نفسه لقب «رأس الأفوكادو»، لقب أُطلِق عليه في المغرب تنمرًا على صلعته المستطيلة. يذهب بعيدًا في نقد الذات ويتبنى اللقب حتى يحوّله إلى رمز. يكسب هنا معركة أخرى. وتعزز الفيفا هذا النصر الرمزي من خلال صورته مع صورة نصف ثمرة أفوكادو على حسابها الرسمي في تويتر.
دخل الركراكي تاريخ المغرب والعرب والأفارقة وسيستقرّ داخلها حتى يأتي أحدهم ليخرجه. ربما يكون ذلك قريبًا أو بعيدًا، لا يهمّ. ولكنه عندما سيغادر المنتخب ويهمّ بنصف استدارة نحو مستقبله سيأخذ في طريقه إنجازًا، قليل ممن جاؤوا من حيث جاء وممن عاشوا ظروفه، قد حققوه.