فرنسا: اقتراع على النظام لا الأحزاب
وجد الفرنسيون أنفسهم، بعد إعلان نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية مطلع شهر إبريل/ نيسان الجاري، أمام حتمية تكرار سيناريو عام 2017، بتجدد المواجهة بين الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون "الجمهورية إلى الأمام" (28.1%) وزعيمة "التجمع الوطني" اليمينية المتطرّفة مارين لوبان (23.3%) في الجولة الثانية، لاختيار الرئيس التاسع للجمهورية الفرنسية الخامسة. مع تسجيل فارق بيِّن بين المواجهتين؛ فالنزال الانتخابي لعام 2022 مختلف عن سابقه لعام 2017، من حيث السياق والتفاصيل .. والتطلعات.
جرت مياه كثيرة في جدول السياسة في فرنسا، طوال السنوات الخمس الفاصلة ما بين المحطتين الانتخابيتين؛ ففرنسا اليوم غير التي ورثها الرئيس ماكرون عن سلفه الاشتراكي فرانسوا هولاند، وطبعا المختلفة جذريا عن فرنسا جاك شيراك وفرانسوا ميتران .. حتى شاع الحديث؛ في أوساط الباحثين والمراقبين، عن أمركة النموذج الفرنسي (أوليغارشية النموذج الأميركي). صحيح أن خطة الاستيراد انطلقت مبكرا مع الرئيس ساركوزي، لكنها ظلت محتشمة حتى تولى ماكرون؛ خريج مدرسة روتشيلد المالية، رئاسة الدولة، فأطلق العنان لها.
تجري الانتخابات في مشهد لم يسبق لفرنسا؛ القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي والدائم العضوية في مجلس الأمن، أن شهدته في التاريخ المعاصر، فالانقسام السياسي في تزايد، والهوة داخل المجتمع في اتساع، والوضع الاقتصادي آخذ في التفاقم، فسياسة الترقيع المعتمدة لإخماد لهيب حركة السترات الصفراء، لم تصمد طويلا أمام جائحة كورونا التي كشفت عورة اقتصادٍ قوامُه نهب المستعمرات. خارجيا، لم تظفر فرنسا بأي نصر، مهما كان رمزيا، في كل الجبهات التي شهدت حضورها الدبلوماسي (ملف لبنان، القضية الليبية، الأزمة الأوكرانية ..) أو العسكري (أفريقيا الوسطى، مالي ..).
زمن الكبار من طينة ديغول وميتران وشيراك انتهى
يعد الخروج المبكر للحزبين التاريخيين اللذين تعاقبا على السلطة في فرنسا، نصف قرن، أول المؤشّرات على تداعي الجمهورية الفرنسية، فمرشّحو الثنائي الحزبي؛ الجمهوري والاشتراكي، ممن كانا يتنافسان على كرسي الإليزيه، خلال الجمهورية الخامسة، وصلا إلى الحضيض، بعد حصول آن هيدالغو؛ عن الحزب الاشتراكي، على نسبة 2% من الأصوات، واكتفى فاليري بيكريس عن اليمين المحافظ الديغولي، بنسبة 5% من الأصوات، ليعجز الحزبان الرئيسيان في الحياة السياسية الفرنسية معا عن تخطي عتبة 10% من إجمالي الأصوات في هذه الانتخابات.
يظهر أن المنظومة السياسية التقليدية في فرنسا آخذة في التفكك، فالنظام القديم، إن صحّ الوصف، هو المنهزم الأكبر في هذه الانتخابات، أمام الصعود الجارف لممثلي أقصى التيارات السياسية؛ فالمتطرّفون في اليمين (حزب التجمع الوطني 23%، حزب الاسترداد 7%) واليسار (حزب فرنسا الأبية 21%) حصدوا أكثر من نصف الأصوات (52%). واستطاعت موجة التطرّف هذه أن تخترق كل مؤسسات الدولة بما في ذلك الجيش، فقد كشفت نتائج الدور الأول أن نصف أصوات الجنود كانت لصالح اليمين المتطرّف، ما يثبت عملية التحول الإيديولوجي داخل الجيش الفرنسي، وينذر بمخاطر العملية على الديمقراطية في البلد.
انزلاق فئات من الفرنسيين نحو التيارات المتطرّفة يقابله تفريط آخر في اللعبة السياسة برمتها؛ فالأرقام تفيد بأن معدل الامتناع عن التصويت جد مرتفع في الدور الأول، فأزيد من ربع الناخبين لم يتوجّهوا إلى صناديق الاقتراع؛ وهذا معدّل قياسي لم يسجل منذ عشرين عاما، حتى قيل إن المركز الثاني كان من نصيب الممتنعين بعد تسجيلهم نسبة 26.5% من إجمالي الأصوات. يحمل هذا الاحتجاج الانتخابي في طياته أكثر من رسالة، إحداها موجّهة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون الذي وعد بعد فوزه على مارين لوبان، عام 2017، بأن يفعل كل ما في وسعه حتى لا يكون هناك أي "سبب للتصويت لفائدة المتطرّفين في فرنسا"، قبل أن يرتدّ عن ذلك، بعد دخوله متاهات المزايدة على أحزاب اليمين المتطرّف (الانفصالية الإسلاموية، إصلاح الإسلام ..).
المواجهة في جوهرها بداية انهيار البنية التقليدية للدولة في فرنسا
يدرك الفرنسيون جيدا أن زمن الكبار من طينة شارل ديغول وفرانسوا ميتران وجاك شيراك انتهى، فأداء الرئيس الحالي لم يكن مقنعا، في قضايا وملفاتٍ كثيرة. ولا تردّد فئة عريضة في اعتباره ممثلا للشركات الكبرى ورجال الأعمال، لا مدافعا عن مصالح الشعب والمستضعفين في المجتمع، ودليلهم على ذلك مواجهة الرجل بواحدة من أكبر الحركات الاحتجاجية في تاريخ فرنسا المعاصر؛ "السترات الصفراء". دفعٌ يتصدّى له ماكرون بأكثر من ورقة رابحة في يده؛ فجائحة كورورنا التي هزّت العالم منحته هامشا من المناورة؛ ومنحته فرصة التنصل من الوعود التي قطعها في بداية ولايته الرئاسية.
في غياب الحصاد، صار ماكرون الذي لم يكن يمينيا في جوهر إيديولوجيته مستعدّا ليغدو كذلك متى فرضت الضرورة ذلك. وجد الفرنسيون أنفسهم واقعيا يتراوحون بين يمينين؛ يمين مارين لوبان الذي يحاول تخفيف حدّة الأدلجة في خطابه، سعيا وراء توسيع قاعدته الانتخابية. ويمين ماكرون الذي يعمل، بين الفينة والأخرى، على الرفع من هذه الأدلجة، مستهدفا الوعاء الانتخابي لأحزاب اليمين المتطرّف. بذلك تكون مواجهة اليوم الأحد 24 أبريل/ نسيان في جوهرها انتصارا لليمين؛ الظاهر (التجمع الوطني) أو الخفي (الجمهورية إلى الأمام)، وبداية انهيار البنية التقليدية للدولة في فرنسا، وتفريطا واضحا في قيم الأنوار ومبادئها وإرثها، وربما بداية أفول الجمهورية الخامسة التي أقامت بموجب دستور 1958 نظاما سياسيا فريدا، يمزج بين خصائص النظامين الرئاسي والبرلماني.
حقوق النشر: قنطرة 2022
محمد طيفوري كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية.
اقرأ/ي أيضًا
النزعة الشعبوية...العنصر المهدد لمستقبل أوروبا
ذراع الكرملين الطويلة: أحزاب شعبوية متهمة بالتواطؤ مع بوتين
قبل الانتخابات الأوروبية قادة أوروبا يحشدون ضد "تيارات شعبوية متواطئة مع بوتين تريد تدمير أوروبا"