موانع الاتفاق ومواطن الخلاف

يتضمن الدستور العراقي الكثير من القضايا التفصيلية غير المحلولة، الأمر الذي سيؤثر على تطور مشروع الدستور في بلاد الرافدين، ما يجمد ديناميكية دولة مقبولة من جميع القوى السياسية على الساحة العراقية. اختصاصي القانون الدستوري ناصيف نعيم يوضح أسباب ذلك.

حين استبشر الرأي العام العالمي وجزء كبير من النخب السياسية في العراق بالتصديق على الدستور في تشرين الأول/ أكتوبر 2005 باعتباره خطوة أولى باتجاه إعادة سلطة الدولة، لم يكن يعرف أحد كم سيستغرق الأمر وقتاً حتى تكتسب فقراته طابعها الدستوري النهائية.

فعلى الرغم من طبيعته الدائمة يتضمن الدستور العراقي الكثير من القضايا التفصيلية غير المحلولة. وبسبب التعقيدات التي تنطوي عليها تلك القضايا، تُرك حلها للاعبين السياسيين من خلال عملهم البرلماني. إضافة إلى ذلك نصت المادة 142 على إجراء عملية مراجعة لكل الأحكام الدستورية من خلال لجنة برلمانية. لقد تمت إضافة هذه المادة في اللحظة الأخيرة على أساس فرضية القبولً المبدئي للصفات المميزة لشكل الدولة الدستورية في العرق من قبل القوى السياسية.

شكل الدولة العراقية

تأسيساً على النصوص الدستورية قام مجلس النواب العراقي بتلبية تكليفاته تدريجياً من خلال تشريعه للقوانين. وعلى عكس ذلك لم تنه لجنة مراجعة الدستور عملها حتى بعد انقضاء ثلاث سنوات على التصديق على الدستور. ولا تكمن أسباب ذلك فقط في الوضع الصعب الذي يمر به العراق، بل يمكن ردها إلى افتقار الساسة إلى تصور كامل عن شكل الدولة العراقية وما يرتبط بهذا الأمر من أسس نظرية لتعديل النصوص الدستورية.

في كانون الثاني/ ديسمبر 2005 جرت في العراق الانتخابات البرلمانية، واستغرق الأمر خمسة أشهر حتى التأم البرلمان في جلسته الأولى. خلال هذه الفترة – في بداية أيار/ مايو 2006 – اتُخذ قرار بتأجيل تأسيس لجنة مراجعة الدستور إلى ما بعد تشكيل الحكومة. ولم يتم تشكيل الحكومة إلا بعد شهرين من ذلك، لكن تشكيل اللجنة لم يتم حتى ذلك الوقت.

صراع على لجنة مراجعة الدستور

لم يتم التوصل إلى اتفاق بين القوى البرلمانية بشأن تأسيس لجنة مراجعة الدستور إلا في نهاية أيلول/ سبتمبر 2006. ونص الاتفاق على ضرورة تشكيل اللجنة من 27 عضواً بشكل يعادل حجم كتلهم في البرلمان، ومن ثم صدق البرلمان على جميع الأسماء من خلال تصويت موحد. كما تم إضافة عضوين من الأقليات إلى اللجنة فيما بعد من أجل التقيد بمعطيات الفقرة الأولى من المادة 142 والمتعلقة بتمثيل جميع مكونات المجتمع العراقي. لكن اللجنة لم تلتئم للمرة الأولى إلا بعد مرور شهرين على ذلك.

ووفق الجدول الزمني توجّب على اللجنة تقديم مقترحاتها المتعلقة بالتعديلات الدستورية بعد أربعة أشهر إلى مجلس النواب. لكن نهاية هذه المهلة رُبطت بنهاية دورة اجتماعات مجلس النواب وحُددت بمنتصف أيار/ مايو 2007، إلا أنه لم يتم بعد ذلك التقيد بالمضمون والإطار الزمني، كما لم يكن التقرير المقدم من اللجنة إلى مجلس النواب نهائياً أيضاً.

في النهاية جرت مناقشة تقرير اللجنة الثاني في جلسة مجلس النواب في مطلع آب/ أغسطس 2008. ومنذ ذلك الوقت تتواصل النقاشات في اللجنة ومجلس النواب والسلطة التنفيذية حول الحلول الممكنة للنقاط الخلافية، من دون التوصل إلى نتائج حقيقية حتى الوقت الراهن أو على الأقل اتخاذ قرار واضح بشأن عمل اللجنة.

الشكل الاتحادي للدولة كإشكالية دائمة

أوضح آخر تقرير للجنة أنه لا يوجد توافق بشأن كل سمات الدولة الاتحادية في العرق، كوضع العاصمة وثروات النفط والغاز وصلاحيات المركز والأقاليم وتوزيع الصلاحيات بشأن السياسة المائية وتحديد أسبقية قوانين المركز أو الأقاليم وصلاحيات المجلس الاتحادي وحل إشكاليات التغييرات الديموغرافية (ومن ضمنها مشكلة مدينة كركوك).

من جهتهم يصر النواب الأكراد على وضع خاص لإقليم كردستان يشبه حالة الاستقلال. طبقاً للتوقعات ما تزال القوى السياسية الأخرى ترفض هذا الموقف، فالسنة العرب مازالوا حتى يومنا هذا ينظرون إلى الفيدرالية بتشكك، أما الشيعة فليس لهم موقف موحد بخصوص هذه المسألة، مما يعكس الصراع المحتدم بين القوى الشيعية على السلطة على المستوى الاتحادي.

في هذا الوضع المشحون بالاختلاف يظهر الجانب "التوحيدي"، الذي بات في طي النسيان تقريباً، كعنصر لا يمكن الاستغناء عنه من أجل الحفاظ على نظام الدولة الاتحادي في العراق. لكن ومن الواضح بأن جميع القوى العراقية قد نست أو تناست بأن التعاون القائم على مفهوم الالتزام السياسي في مرحلة التأسيس يشكل وسيلة عقلانية لاتخاذ القرار على كافة مستويات الدولة الاتحادية.

تحفظات على الأحوال الشخصية المدنية

إن الكيفية التي تنظمها المادة رقم 41 في تحديد الأحوال الشخصية أحدثت خلافات وانقسامات كبيرة قبل التصديق على الدستور وبعده. فالاتحادات والجمعيات النسائية تخشى تقويض حقوق المرأة من خلال تطبيق أكثر مطاطية للشريعة الإسلامية طبقاً للانتماء الطائفي نتيجة لإلغاء أو تحجيم دور القانون المدني. بينما تخشى الأقليات الدينية من فقدان استقلاليتها في تنظيم شؤونها الدينية لصالح الدين الإسلامي.

ويكفي إلقاء نظرة على نص المادة رقم 41 لإثبات أن مثل هذه المخاوف غير مبررة من وجهة نظر القانون الدستوري. فهذه المادة تمنح لكل مواطن عراقي حرية اختيار فيما إذا كان الالتزام بأحواله الشخصية وفق الانتماء الديني والمذهبي أو وفق معتقده أو "حسب الاختيار الحر"؛ من جهة أخرى تلزم المشرع الاتحادي بوضع حق التقرير هذا موضع التنفيذ، ما يعني إذاً تحقيق إمكانية الاختيار بين هذه الاتجاهات الأربع.

وهذا ما يتضمن الالتزام بخلق النظام المدني، الذي يمكن أن يكفل حرية اختيار الالتزام بالأحول الشخصية خارج إطار الدين أو المذهب. على أن أحد مقترحات لجنة التعديل يهدف تحديداً إلى إلغاء هذه الإمكانية. فإن تم إجراء مثل هذا التغيير، سيشكل ذلك هزيمة قاسية لكل العراقيين الذين يريدون تنظيم أحوالهم الشخصية بعيداً عن الأسس الدينية.

الخلاف بشأن الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية

ترتبط مسألة توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية بإشكالية توزيع السلطات بحكم العادة بين مكونات المجتمع العراقي. فرئيس الجمهورية الكردي يمارس حسب الدستور مقارنة برئيس الوزراء الشيعي مهاماً ذات طابع تمثيلي. لذلك فالأكراد طبعاً غير راضين عن توزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية.

لجنة مراجعة الدستور ثبتت مبدئياً من جهتها، وعلى الرغم من التأكيد على أهمية منصب رئيس الجمهورية بالنسبة لنظام الدولة العراقية، طريقة بتوزيع الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، معللة ذلك استناداً إلى النظرية البرلمانية في القانون الدستوري، والتي ترتكز على أن رئيس الجمهورية العراقية لا يُنتخب بصورة مباشرة من قبل الشعب وبذلك فإن منصبه لا يجب أن تكون له قوة رئيس الدولة في نظام الحكم الرئاسي. على أنه تم وضع بعض المقترحات الإضافية من أجل إعطاء رئيس الجمهورية منصب أقوى مقارنة برئيس الوزراء.

بشكل عام فإن آراء اللجنة منقسمة في هذه المسألة: فمن جانب تؤيد اللجنة ضرورة تحديد صلاحيات رئيس الجمهورية مستقبلاً من خلال قانون.؛ ومن جانب آخر تقول بوجوب منحه حق المشورة والاطلاع في كافة شؤون الدولة إضافة إلى جعله قائداً عاماً للقوات المسلحة في حالة إعلان حالة الطوارئ أو الحرب.

البحث المضني عن حلول وسط

على الرغم من المسيرة العاصفة لعملها والمواقف المتباينة بشكل كبير بين القوى الممثلة فيها تحاول اللجنة أن تصور عملها دائماً بالناجح. يمكن قراءة ذلك في تصريحات العديد من أعضائها، الذين يتحدثون دائماً عن توافق اللجنة في العديد من القضايا، ولا يشيرون بشكل مقصود إلى أن هذا التوافق يقتصر في غالبه على التعديلات الدستورية التي تتناول اللغة أو الصياغة أو التركيب، بينما لم يتحقق أي تقدم يُذكر بشأن النقاط الخلافية الأساسية.

بذلك يُخشى أن تضيع لجنة مراجعة الدستور في العبارات الجوفاء، حالها حال لجنة كتابة الدستور، وأن تأجل البحث عن الحلول الوسط. مما يعني بأنها تغامر في عدم تطوير مشروع الدستور وتضيع فرصة الارتقاء بالأحكام الدستورية الحالية إلى ديناميكية دولة مقبولة من جميع القوى السياسية.

وعليه يبقى في حكم التكهنات مسألة فيما إذا كان المجتمع العراقي مستعداً أيضاً بعد المحاولتين الفاشلتين للجنتي كتابة الدستور ومراجعته، للدخول في محاولة ثالثة للانتقال إلى دستورية محدِّدة بشكل واضح لخصائص الدولة.

ناصيف نعيم
ترجمة: عماد م. غانم
حقوق الطبع: قنطرة 2009

ناصيف نعيم حصل على درجة دكتوراه عام 2007 من كلية القانون في جامعة هانوفر في موضوع "النظام الاتحادي الجديد في العراق". وقد تم نشر الأطروحة عام 2008 ضمن سلسلة "دراسات لايبزج لأبحاث الشرق" الصادرة عن دار نشر بيتر لانغ. ويعد نعيم حالياً دراسة في جامعة غوتنغن للحصول على درجة الأستاذية، كما يلقي محاضرات في جامعة برلين الحرة حول النظام الدستوري في الدول ذات الطبيعة الإسلامية.

قنطرة

الدستور العراقي الجديد:
هل من الممكن أن تكون الفيدرالية الألمانية نموذجا للعراق؟
قام وفد من أعضاء لجنة صياغة الدستور العراقي بزيارة إلى ألمانيا قام خلالها أيضا بالإطلاع على النموذج الألماني للفيدرالية. يتحدث أعضاء الوفد في المناقشة التالية عن العديد من النقاط التي ما تزال تثير الجدل كموضوع الفيدرالية وعروبة العراق والشريعة.

مدينة كركوك، بؤرة الخلاف الداخلي في العراق:
خوف من المصير المجهول
رغم النزاعات القائمة منذ سقوط نظام صدام حسين بين الأكراد والتركمان والعرب حول السيطرة على مدينة كركوك، فمن الممكن أن تصبح هذه المدينة رمز العراق الجديد. هذا ما لاحظه الباحث الألماني فولكر بيرتيس أثناء رحلته الأخيرة في المنطقة.

الشرق الأوسط
أسس وقواعد جيوسيايسية جديدة
يقدم الباحث الألماني فولكر بيرتيس تحليلا لموازين القوى في المنطقة العربية بعد مرور سنة على سقوط النظام العراقي. ما هو دور الدول المجاورة الآن؟ وهل هناك أمل في أن تستعيد الجامعة العربية نشاطها الدبلوماسي؟