قطيعة بين الأجيال في الجزائر
يعرف مَنْ زار مدينة الجزائر في شهر شباط/فبراير أنَّ هذه "المدينة البيضاء" تغرق في هذا الوقت من العام ليس فقط في سيول الأمطار والوحل، التي تجري من الأحياء المرتفعة وتغمر مدينة الجزائر كلها. في هذا الوقت من العام أيضًا، تغرق مدينة الجزائر في تشاؤم كئيب يوحي بنهاية الزمن، لأنَّ سكَّانها يشاهدون مرة أخرى أمام أعينهم -وبصورة مثيرة- مدى قلة اهتمام الدولة بمصالحهم وراحتهم.
وحتى كوثر عظيمي -نجمة الأدب الجزائري الصاعدة، التي كتبت عنها صحيفة لو فيغارو الفرنسية بحماس أنَّها تحمل "رياح الحرية إلى الأدب"- بدأت روايتها الأحدث "صغار ديسمبر" بمشهد في الجزائر العاصمة خلال شهر شباط/فبراير كثير الأمطار. وذلك في عام 2016؛ أهالي حيّ 11 ديسمبر -وهو منطقة سكنية صغيرة تابعة لضاحية دالي إبراهيم في الجزائر العاصمة ومسرح أحداث الرواية- يتذمَّرون ويشتمون بهدوء بسبب المطر.
ولكنْ هناك ثلاثة أطفالٌ -صَبِيَّان وفتاة- فرحون: فأخيرًا أصبح ملعب كرة القدم الصغير القديم -الواقع على قطعة أرض بوسط الحيّ يملكها أفرادٌ من الجيش- لهم وحدهم وليس للشباب الأكبر سنًا. تقف في حراسة المرمى -مثلما تفعل دائمًا- إيناس ذات الأحد عشر عامًا، وهي ابنة لأم تقوم على تربيتها بمفردها وحفيدة مجاهدة قديمة من مجاهدي حرب الاستقلال معروفة خارج حدود الجزائر العاصمة.
وتمسك إيناس -مثلما تفعل دائمًا- جميع كرات صديقيها جميل ومهدي البالغين من العمر عشرة أعوام. يعود الثلاثة سعداء ومرهقين إلى منازلهم في مساء الثاني من شباط/ فبراير 2016. ولكن بعد يوم واحد، تنقلب الجزائر كلها رأسًا على عقب: إذ يظهر جنرالان في الأرض (ملعب كرة القدم الصغير) ويدَّعيان أنَّها ملكهما - ويتعرَّضان بشكل تلقائي للضرب والمطاردة من قِبَل مجموعة من الأطفال الغاضبين.
قصة خيالية تستند إلى حدث حقيقي
وبطبيعة الحال فإنَّ ما فعله الأطفال يعتبر أمرًا فظيعًا في الجزائر ما بعد الاستعمار. وهو في الرواية بمثابة الشرارة التي أشعلت انتفاضة ضدَّ نظام سياسي جامد عفا عليه الزمن في هذا البلد، تتولى قيادتها بالذات إيناس ذات الأحد عشر عامًا. في البداية يبدو هذا أجمل من أن يكون واقعيًّا: فتاةٌ صغيرة تلعب كرة القدم تتمكَّن خلال فترة قصيرة وفي الجزائر الذكورية من تحقيق ما كان يحلم به جيلُ الآباء منذ عقود من الزمن.
وكوثر عظيمي، التي وُلِدَت عام 1986 ونشأت هي نفسها في دالي إبراهيم، كتبت روايتها بالاستناد إلى قصة واقعية. ففي عام 2016 عادت هي -المقيمة في باريس منذ عام 2009- مرة أخرى إلى مسقط رأسها، وعثرت على خبر في إحدى الصحف يفيد بأنَّ صغارًا قد اشتبكوا مع جنرالين رفيعي المستوى كانا يريدان شراء ملعب كرة القدم بحي 11 ديسمبر وبناء فيلتين لهما هناك.
تُقدِّم كوثر عظيمي في روايتها انطلاقًا من قصة معركة الصغار من أجل ملعبهم، الذي يرمز للجزائر كلها والسؤال حول من يملك هذه الجزائر في الواقع، صورةً دقيقة جدًا ومتعدِّدة الأوجه عن الجزائر: حكم اللصوص (حُكم القادة الفاسدين: الكليبتوقراطية) والفساد والمحسوبية وسلطة العسكريين العليا وفشل الأحلام بجزائر حرة ومُوَحَّدة في الواقع - كلُّ هذا يجد مكانه تقريبًا في هذه الرواية محبوكًا في حلقات صغيرة وخيوط فرعية.
الكتابة لمواجهة النسيان والسكوت
قد يقع القارئ في خطر اعتبار "صغار ديسمبر" رواية سطحية أو حتى مقبولة، وذلك بسبب العفوية، التي تلمس بها كوثر عظيمي جذور البلاء في الجزائر. غير أنَّ هذه الرواية تغلي تحت سطحها الجذَّاب، لأنَّ كوثر عظيمي تكشف أيضًا من خلال شخصيَّاتها عن تاريخ الجزائر الطويل الدموي والمليء بالضحايا منذ الاستقلال.
وهي تفعل ذلك بسهولة أيضًا. سهولةُ -وفطنةُ- شابةٍ من الجيل الجديد، يمكنها النظر من مسافة زمنية ومكانية بعيدة بشكل نقدي -ومن دون مراعاة أية التزامات أيديولوجية- إلى الذين قاتلوا في السابق من أجل استقلال البلاد. وتُنبِّه بلدها إلى عدم اعتبار تاريخه الخاص مثاليًا -مثلما كان يفعل منذ فترة طويلة- وكذلك عدم نسيانه، مثلما كان ذلك شائعًا في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي اعتبر مجدَّدًا في عام 2017 معالجة ماضي الجزائر الدموي من دون تجميله عملًا من المحرَّمات.
ولهذا السبب فإنَّ كوثر عظيمي تتحدَّث في روايتها بوعي حول دور وأصوات النساء، اللواتي ناضلن في الماضي من أجل حرّية البلاد، مثل عديلة جدة إيناس في الرواية، التي تعرَّضت هي نفسها -مثل والدة إيناس- للقمع من قِبَل محرِّري البلاد بموجب قانون أحوال مدنية إسلامي يزداد جُمودًا باستمرار ويجعلهن خاضعات للرجال.
تكتب كوثر عظيمي حول الخوف، الذي أصاب البلاد بشلل وبصدمة طيلة عقود من الزمن وجعل "الربيع العربي" في الجزائر أمرًا لا يمكن تصوُّره لفترة طويلة - وكذلك حول جيل الآباء، الذين كانوا من الناحية العُمْرية أصغر من أن يُقاتِلوا من أجل الاستقلال ثم تصالحوا باستسلام مع النظام. وتكتب -أخيرًا وليس آخرًا- حول دور وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت بشكل تدريجي الظلمَ المُمارس منذ عقود والسكوتَ أمرًا مستحيلًا في الجزائر أيضًا.
رواية تُوَثِّق للقطيعة بين الأجيال
رواية "صغار ديسمبر"، التي ترجمتها إلى الألمانية بشكل رائع ووضعت لها خاتمة مفيدة الكاتبة والناشرة ريغينا كايل-سَغافه، هي أيضًا رواية مفعمة بالأمل وجريئة تُوَثِّق للقطيعة بين الأجيال. وذلك لأنَّ إيناس ذات الأحد عشر عامًا لا تُمثِّل فقط انتفاضة النساء الجزائريات، بل تُمثِّل جميع الذين يقولون في الجزائر "كفى"، كما في حالة حركة "الحراك"، والذين يريدون تغييرًا حقيقيًا، يجب ألَّا يتحقَّق بعد الآن بالقوة، بل بالوسائل السلمية.
ورواية "صغار ديسمبر" تمنحهم جميعهم صوتًا بأثر رجعي. وأقول بأثر رجعي لأنَّه عندما بدأت حركة "الحراك" النزول إلى الشوارع في شهر شباط/فبراير 2019، كانت كوثر عظيمي قد انتهت من كتابة روايتها تقريبًا. وهذا يُثبت أكثر أنَّ المؤلفة قريبة من نبض الحياة في الجزائر. فهناك التغيير واضح وملموس -حتى وإن كانت جائحة فيروس كورونا أدَّت إلى إبطاء حركة "الحراك" على المدى القصير.
كلاوديا كراماتشك
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2021
رواية كوثر عظيمي "صغار ديسمبر". ترجمتها عن الفرنسية إلى الألمانية ووضعت لها خاتمة ريغينا كايل-سَغافه. صدرت عن دار نشر لينوس، زيورخ، سنة 2020، في 256 صفحة.
[embed:render:embedded:node:43335]