تركيا: إنهاء للوصاية العسكرية وقبول بالاستبداد المدني؟
فشل اعتقال الجنرال إلكر باشبوغ، رئيس أركان القوات المسلحة التركية السابق، في إثارة الاضطرابات السياسية التي توقعها البعض. بل على العكس، فقد أسهمت هذه الخطوة في تحريك النقاش الدائر حول الدور المهيمن عادة للجيش في السياسة. فقد اعتقل الجنرال باشبوغ، الذي تقاعد عام 2010، في بداية شهر يناير بتهمة الاشتراك في حملة على شبكة الإنترنت لتشويه سمعة حزب العدالة والتنمية، الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء رجب طيب إردوغان. ويعتبر باشبورغ الضابط الأرفع رتبة الذي يتم اعتقاله حتى اللحظة في إطار التحقيقات حول "شبكة إرغنيكون"، وهي مجموعة وطنية متطرفة يتهمها الإدعاء التركي بالتخطيط لقلب الحكم في البلاد.
وبدلاً من أن يحتسب اعتقال هذا الجنرال ضمن الصراع المتواصل على السلطة بين حزب العدالة والتنمية والمؤسسة العسكرية، فإن كثيراً من المحللين المرموقين، ومن بينهم الأستاذ الدكتور محمد ألتان، يعتقد بأن هذا الاعتقال جزء من عملية التحول إلى دولة عصرية. ويوضح ألتان أن الجمهورية التركية تم تأسيسها من قبل نخبة عسكرية وإدارية في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، وأن هذه الجمهورية، المسيطرة على السياسة الاقتصادية والاجتماعية، أقيمت على أطلال اقتصاد الإمبراطورية العثمانية المهلهل، وبالتالي فإن هذه النخب أوجدت أيضاً طبقة برجوازية تعتمد على الدولة – طبقة دعمت بحكم طبيعتها الوصاية العسكرية والإدارية على البلاد.
النخب والانقلابات
ويضيف ألتان أنه وبدءً من انقلاب عام 1960 وما تلاه، فإن النخب العسكرية والإدارية، إضافة إلى الطبقة البرجوازية التي أوجدوها، قامت تدخلات عسكرية كلما شعرت بأنها مهددة. لكن بموازاة ما يحدث، فقد دخلت تركيا وبقية العالم عملية تحول سريع أدت إلى ظهور طبقة برجوازية جديدة في منطقة الأناضول لا تدين للدولة إلا بالنزر اليسير، وتحدت السيطرة اللامنطقية للدولة على كل نواح الحياة. هذه الطبقة الجديدة أنشأت حزبها السياسي الخاص بها، ألا وهو حزب العدالة والتنمية.
وفي حديثه لموقع قنطرة، يعتبر الأستاذ الدكتور محمد ألتان أن "هدف هذه الطبقة الجديدة هو الاندماج في الاقتصاد العالمي. والعالم بحاجة إلى نموذج أيضاً – نموذج لدولة عصرية وديمقراطية، ومسلمة في نفس الوقت"، مضيفاً أن المؤسسة العسكرية التركية لم تكن قادرة على تحليل هذا التغير، ما أدخلها في صراع على السلطة مع الحكومة. ويشير ألتان إلى أن صراع السلطة هذا يهدف أيضاً إلى تسوية الحسابات بين المحافظين الأتراك والجيش، الذي يعتبر نفسه الضامن لفلسفة العلمانية التي قامت عليها تركيا الحديثة.
لقد قام الجيش التركي، الذي يعتبر ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي، بين الأعوام 1960 و1980 بتنفيذ ثلاثة انقلابات، بالإضافة إلى الإطاحة بحكومة في الثامن والعشرين من فبراير عام 1997. فبعد أن قام بعض قياديي حزب الرفاه – الذي تم حظره عام 1998 – بتكوين حزب العدالة والتنمية، وبسبب التخوف من وجود حزب محافظ ضمن الحكومة، سعت قيادة أركان الجيش التركي إلى التخلص من هذا الحزب. فقام مجلس الأمن القومي بتقديم بعض القرارات، أثناء اجتماع في الثامن والعشرين من فبراير، لرئيس حزب الرفاه ورئيس الوزراء آنذاك نجم الدين أربكان، من أجل الموافقة عليها. بعد موافقته على هذه المطالب، قدم أربكان استقالته، وبهذا تمت الإطاحة بالحكومة. وفرض الانقلاب سلسلة من القيود الصارمة على الحياة الدينية، بما في ذلك حظر ارتداء الحجاب لمن يعملون في المؤسسات الرسمية وفي الحرم الجامعي. كما تم تطهير الجيش أيضاً ممن يشتبه في ارتباطهم بمجموعات دينية.
شبكة إرغنيكون
ويعتقد أحمد تاشغتيرين، الذي يكتب عموداً صحفياً في جريدة "بوغون" اليومية، أن من قاموا بعملية 28 فبراير هم من يُحاكمون اليوم في قضية شبكة إرغنيكون، مشيراً إلى أن "الاتهامات الموجهة حالياً إلى المشتبه بهم في هذه القضية كانت مثل جزء من النظام الذي أنشئ عبر عملية 28 فبراير. فالرجعية كانت أحد "التهديدات الداخلية" المذكورة في أجندة مجلس الأمن القومي. لكن هذا تغير الآن، فالرجعية لا تعتبر الآن تهديداً داخلياً. هذا التغير يمكن أن يكون أهم خطوة تم اتخاذها في عملية التحول الديمقراطي في تركيا".
وبالرغم من ذلك، فإن نفوذ المؤسسة العسكرية وسلطتها لا يزالان ممتدين إلى كافة مجالات الحياة في تركيا، بسبب القوانين والتعليمات واللوائح الداخلية والبروتوكولات والقرارات التي لها قوة القانون، ما يجعل هيئة أركان الجيش، التي تخضع لرئاسة الوزراء وليس لوزارة الدفاع، وكأنها مؤسسة مستقلة بذاتها. وفي هذا السياق، فإن الفقرة 35 سيئة السمعة من قانون الخدمة الداخلي للقوات المسلحة التركية، التي يعتقد البعض أنها تمنح الجيش صلاحية تنفيذ انقلابات، تنص على أن "واجب القوات المسلحة التركية هو حماية أرض تركيا وجمهوريتها وحراستهما، بحسب ما هو منصوص عليه في الدستور". وبالرغم من أن هذه الفقرة لا تحوي أي نص واضح يبيح القيام بانقلاب عسكري، إلا أنها استخدمت لإضفاء الشرعية على هذه الانقلابات.
ويؤكد بعض المحللين، مثل نوراي ميرت من صحيفة "ميلييت" اليومية، أن منظومة العلاقات الجديدة بين الجيش والمدنيين لم تدخل الإطار المؤسساتي بعد، لافتاً إلى أن الحد من دور الجيش لا يعني بالضرورة المزيد من الديمقراطية. ويؤكد ميرت، في حديثه مع قنطرة، أن "الوصاية العسكرية على السياسة المدنية شرط ضروري لتحقيق الديمقراطية، إلا أن هذا ليس المعيار الوحيد. فالعملية الديمقراطية التي تهدف للحد من قوة المؤسسة العسكرية فقط تخاطر بالاستسلام لسياسة استبدادية مدنية".
فاطمة كايابال
ترجمة: ياسر أبو معيلق
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2012