مسرحية الإصلاح في العالم العربي
الأنظمة العربية تقف عائقا أمام التحول الديمقراطي، والغرب ما ينفك يجامل ويختلق الأعذار لذلك، يقول أستاذ العلوم السياسية عمرو حمزاوي، ويدعو بالمقابل إلى التعامل مع الإسلاميين المعتدلين لأنهم يحظون بدعم كبير داخل مجتمعات بلدانهم حسب رأيه.
منذ سنة تتهاطل –بالمعنى الحرفي للكلمة – مبادرات الاصلاح التي تستهدف العالم العربي الإسلامي. آخر هذه المبادرات جاءت من قمة بلدان مجموعة الثمانية G8 التي انعقدت في أيزلاندة. هناك قدم رؤساء الدول والحكومات برنامج "شراكة من أجل التقدم ومستقبل مشترك بالنسبة لمنطقة الشرقين الأدنى والأوسط وشمال إفريقيا".
تأتي هذه المبادرة في نفس السياق مع بيان الإصلاح الذي قدمه مثقفون عرب ورجال أعمال ومنظمات غير حكومية في الإسكندرية وكذلك تصريح قمة الجامعة العربية بتونس. وهذه المبادرات جميعها توحدها سمة مشتركة: إنها جاءت كلها مثيرة للاهتمام بتحليلاتها العميقة للنواقص السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية.
كما أنها اقترحت وصفات جديرة بالذكر من أجل إصلاح الأوضاع. إلا أن فعاليتها وحظوظ تطبيقها تتراءى متواضعة.
جيوب مقاومة ضد الاصلاح
تصطدم الإصلاحات في العالم العربي بصعوبات ومقاومة كبرى. فبرامج الإصلاح يقع ابتذالها لتستحيل إلى خطابات جوفاء، الأمر الذي يجعلها في أعين الناس داخل المنطقة غير قادرة لا على دعم مصداقية الإصلاحات ولا على إزعاج الحاكمين بصفة جدية.
وغالبا ما يعزى ذلك بصفة كلية إلى الإفلاس الذي لحق سياسة الدمقرطة الأميركية بسبب الوقائع الجارية في العراق المحتل، أو إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
إلا أن الأمر المحدد أكثر من غيره يتمثل في واقع أنه بعد عشرات السنين من "الحض على الديمقراطية" ومن الضغوطات المزعومة على "الأنظمة الصديقة" من قِبل الغرب لم يحصل في الحقيقة، وبكل بساطة، سوى القليل في هذا المضمار.
منذ السبعينات والكلام يدور بدون انقطاع عن الخطوات المنجزة باتجاه التحديث والديموقراطية في منطقة الشرق الأدنى. وما انفكت كل من مصر والأردن والمغرب تُخرج وتستعرض بصفة فوقية مسرحيات المسارات الديمقراطية.
كما ظلت الانتخابات البرلمانية ونشاطات المجتمع المدني وبرامج التنمية الديمقراطية الممولة من الخارج كلها من ضمن قائمة العناصر الاستعراضية المرغوبة، تماما مثل الزيارات التي يقوم بها مشاهير الدبلوماسيين الغربيين للقيادات الحكومية العربية. وفي الندوات الصحفية الاختتامية تتكرر على الدوام معزوفة التهليل بالإنجازات الجديدة في مجالات "التسيير السياسي الحسن" و "إمكانيات المشاركة".
إصلاحات محل شكوك
إن كل التوقعات تشير إلى أنه لن يطرأ أي تغيير على هذه الممارسات خلال السنوات القادمة أيضا. وكل ما في الأمر هو أن دائرة البلدان المعنية تبدو سائرة باتجاه التوسع؛ وقد انضمت إليها مؤخرا كل من الجزائر واليمن.
ما الذي سيجعل المواطنين العرب يعتقدون فجأة بأن الأوضاع السياسية في بلدانهم ستعرف تحسنا في المستقبل؟ إن المسألة تظل محل ريبة وشكوك وذلك أساسا بسبب النبرة المحتشمة التي تعزف بها المعزوفة الدولية المرافقة لمبادرات الإصلاح: نعم للإصلاح، لكن بخطى بطيئة. لكن شعوب المنطقة لم تعد ترضيها مجرد الخطابات الرنانة. والكلام عن الاصلاحات غدا يتراءى في ضوء الأوضاع الحياتية المعاشة مجرد دعابة ساخرة ليس إلا.
لا تغير في عقلية الحكام
هناك مأزق آخر ويتمثل في العقلية المتحجرة للنخب الحاكمة. فهؤلاء لا مصلحة لديهم في مسيرة تحول ديمقراطي جدي، لأن ذلك قد يعني، منظورا إليه من موقعهم الخاص، إضعافا لسلطتهم. هكذا يفضلون إذًا انتهاج سلوك العرقلة.
هؤلاء الحكام لم ينضجوا بعد بما فيه الكفاية كيما يتخلوا ولو على جزء من سلطتهم المطلقة من أجل الدفع بمجتمعاتهم نحو التقدم. ومع ذلك يفسحون مجالا لمواطنيهم للنقاش حول الإصلاحات ويتبنون جزءا من برامج الإصلاح. إلا أن ذلك لا يقود إلاّ إلى إضفاء طابع بيروقراطي على الإصلاح. وهكذا تنشأ نواتات نخب تقنوقراطية تطمح دون شك إلى عصرنة المجتمع وتجديد هياكل الأحزاب الحاكمة، لكنها تقصي من برامجها مسألة التداول على السلطة وخضوع كل المسؤولين الحكوميين إلى سلطة القانون.
والآن يزعم البعض بأنه قد غدا من باب المصلحة الخاصة للحاكمين أن يعملوا على القيام بإصلاحات. ذلك أنه لا يمكن تجاوز الأوضاع الكارثية للمجتمعات العربية الإسلامية إلاّ عن طريق الإصلاح من ناحية، ومن ناحية أخرى بسبب ما يمارسه العالم الغربي من ضغوطات مكثفة من أجل إجراء إصلاحات.
لكن مثال هذا الهرج الإصلاحي الذي تشهده البلدان العربية منذ حرب العراق قد أبان مرة أخرى بأن النخب الحاكمة هناك تتقن بصفة جيدة فن التجميل الديموقراطي الاستعراضي. إن تبني خطاب حقوق الإنسان والإخراج الجيد للعمليات الانتخابية الصورية ظلت إلى حد الآن تفي بالغرض المطلوب كعناصر للتنفيس، وليس هناك في المبادرات الإصلاحية العربية الأخيرة ما من شأنه أن يدعو إلى الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بتغير ذهني ما لدى الحاكمين.
الحكم الاستبدادي يفي بالغرض على ما يرام
كما أنه يصعب الاعتقاد بأن الشرائح التي تميل إلى الإصلاح من ضمن الفئات العليا للمجتمع بإمكانها التحرر من سطوة تأثيرات أنظمتها السياسية. فالحكم بطريقة استبدادية يفي بالغرض على مايرام داخل الفضاء العربي الإسلامي، كما أنه قليل التكلفة ولا تنجر عنه أية مفاعيل جانبية بالنسبة للحاكمين.
وإن مثال كل من مصر والعربية السعودية وتونس تمثل نماذج استعراضية نموذجية عن ذلك؛ وليس من باب الصدف أن تقاطع هذه البلدان الثلاثة قمة مجموعة الثمانية G8 رغم الدعوة التي وجهت إليها.
أما العائق الثالث الذي يقف حائلا في طريق مسار ديموقراطي حقيقي فيتمثل في غياب مجموعات قوية وواعية توظف نفسها في النضال من أجل التحول الديموقراطي. وهناك مثل مصري يروي قصة حاكم فرعوني قد سئل ذات مرة لماذا يحكم بصفة فردية، فكان جواب هذا الأخير بأن ليس هناك بكل بساطة من وقف ليريه حدود سلطته.
كما أن قوى المعارضة في المنطقة لا تقل ضعفا عن بقية المجموعات؛ فالأحزاب السياسية التي لا تعدو كونها نمورا من ورق، ومنظمات المجتمع المدني التي كان بمستطاعها أن تتجرأ على مزيد من الديموقراطية وإنتاج خطابات مختصة، كلاها غير قادرة على تجنيد الجماهير وخلق أجواء مناسبة للتغير. بل إنها على العكس من ذلك تظل معزولة عن المجتمع ولا تمانع في أن يقع احتواؤها من طرف السلط الحكومية. وإن لجان المرأة وحقوق الإنسان في مصر ومنابر الإصلاح في العربية السعودية من أحسن الأمثلة التي يمكن أن تذكر بخصوص هذه الظاهرة.
ليس هناك إذًا أية ضغوطات مجتمعية من أجل الإصلاح. فالساحة العمومية العربية تبدو كما لو أنها تعيش حالة ازدهار بفضل النقاشات حول الديموقراطية، لكن القطيعة القائمة بين جدالات المثقفين والواقع السياسي تبدو بحجم منقطع النظير.
حجة الخصوصية
أما الإشكال الرابع فيتمثل في غياب فئات وسطية تنافح من أجل الديموقراطية. وقد شهدت أغلب البلدان العربية منذ الثمانينات صيرورة توجه إسلاموي أصولي في الحياة الإجتماعية داخل المدن على وجه الخصوص. لكن لا كلام عن الديموقراطية داخل هذا التوجه، بل عن البحث عن الأصالة أو العودة إلى نمط السلف.
وتظل الخصوصية الثقافية والموقع التاريخي المتميز للأمة (في مفهومها الإسلامي) هي التي تحدد النقاشات. وبطبيعة الحال لا تفوت النخب الحاكمة أن تستعمل بكل سرور هذا التوق إلى الخصوصية لتليح به في وجه الغرب، وبصفة خاصة في ما يتعلق بالمسائل الدينية أو تلك التي تقدمها على أنها كذلك، شعارها في ذلك: " إننا نسلك طريقنا الخاص".
لقد دعت مجموعة الثمانية نفسها تنقاد إلى حل توفيقي وهو عندما تحدثت في بيانها الاختتامي عن "إصلاحات حسب الاحتياج" و "أخذ المعطيات المحلية بعين الاعتبار". ذلك أن الخصوصية الوحيدة التي تعرفها دول المنطقة لا تعني سوى نمط الحكم الاستبدادي.
بين المصالح الاستراتيجية ودفع المسار الديموقراطي
إضافة إلى ذلك فإن السياسة الغربية، الأميركية منها والأوروبية على حد سواء، تجد نفسها في وضع إشكالي يتمثل في حالة التمزق الواضح بين متطلبات المصالح الإستراتيجية للغرب ودفع المسار الديموقراطي في الشرق.
لنأخذ مثال السعودية مرة أخرى: عندما يتعلق الأمر بالأمن يغدو من الضروري دعم النظام الحاكم من أجل مواجهة موجة الأعمال الإرهابية وحماية استقرار منطقة الخليج من مزيد من المخاطر التي تتهددها.
أما إذا ما تعلق الأمر بمزيد من الديموقراطية فإنه سينبغي التباين مع النظام وممارسة ضغوطات سياسية واقتصادية من أجل السماح للمعارضة بشيء من التنفس. أما أن تتوخى السياستان معا وفي نفس الوقت فذلك أمر غير ممكن. فتقديم المساعدات العسكرية بيد وممارسة شيء من الضغط الودي من الجهة الثانية بدعوى "قليلا من الانفتاح الليبرالي، رجاء!" لا تؤدي إلى أية نتيجة كما يثبت ذلك مثالا تونس ومصر.
الإسلاميون المعتدلون كطرف للكسب
إن الغرب في حاجة إلى أطراف شريكة من أجل إنجاز برامجه الطموحة. شركاء لهم جذور راسخة في المجتمع وقادرون على تحريك فئات جماهيرية واسعة. ومثل هذه المجموعات موجودة، إلاّ أنه يقع تجاهلها في أغلب الأحيان من قبل حكومات البلدان الغربية: إنهم الإسلاميون المعتدلون.
ويبدو أن الانغلاق الدوغمائي لهذه التيارات يسير شيئا فشيئا باتجاه التليّن. فالإسلاميون المعتدلون من أمثال حزب العدالة والتنمية بالمغرب أو بعض شرائح من حركة الإخوان المسلمين بمصر والأردن وكذلك حزب الوسط المصري الذي لم ينل بعد الاعتراف القانوني، يتمتعون بمستوى جدي من تقبّل الديمرقراطية ويطمحون إلى ممارسة دور في المسار السياسي لبلدانهم. وبحكم تجذرهم عميقا في مجتمعاتهم فإنه بإمكانهم أن يستنهضوا عملية الضغط الاجتماعي الضروري من أجل إرساء المسار الديموقراطي.
بقلم عمرو حمزاوي، أستاذ العلوم السياسيةفي جامعة القاهرة
عن صحيفة Die Zeit 17.06.2004
ترجمة علي مصباح