سلبيات وإيجابيات ظاهرة الهجرة إلى الدول الغنية
لا تزال المناقشة حول ":هجرة العقول Brain Drain" من بلادهم إلى دول الخارج حاضرة في ذاكرة الكثيرين. كان يُقصد في الستّينات والسبعينات بهذا الشعار، إعاقة هجرة الكوادر المختصة ذوي الكفاءات العالية من الدول النامية. لكن لا يمكن إعاقة الهجرة عنوة أو بطرق قانونية. فالهجرة تعتبر حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، حتى وإن لم يتسنى للمرء ممارسة حقه هذا إلاّ عندما تمنحه دولة أخرى تأشيرة سفر.
هجرة الأطباء والممرضات
وفضلاً عن ذلك لم تحل المشكلة أو يصغر حجمها. فعلى العكس من ذلك تمامًا، بقيت تتفاقم منذ تلك المناقشة. ينطبق هذا قبل كل شيء على شعار "هجرة الأطباء والممرضات Care-Drain". حيث يسد الأطباء والممرضات القادمون من البلاد الفقيرة احتياجات الدول الغنية إلى عاملين في قطاع الصحة، رغم أن النقص الموجود في أوطانهم أكبر بكثير مما هو في الدول الغنية. لكن ينبغي أن لا ينظر إلى الهجرة من هذا الجانب فقط. فكذلك يجب النظر إلى الحوالات المالية الضخمة التي يحولها المهاجرون إلى أوطانهم والتي لها أهمية اقتصادية ضخمة، خاصة في أوطان المهاجرين الفقيرة. وخلا ذلك يدور الحدوث اليوم عن "مكاسب العقول Brain-Gain" أيضًا. وهذا الشعار يعني الفوائد التي يقدّمها المهندسون ومبرمجو الحاسوب المهاجرون لاقتصاد أوطانهم.
نقص في الطواقم الصحية في أوطان المهاجرين
ينجم عن هجرة الطواقم الصحية من أفريقيا الجنوبية نتائج مأساوية. إذ أصبحت أفريقيا جراء هجرة الأطباء والممرضين الجماعية ذوي الكفاءات، في أمس الحاجة إلى الطواقم الصحية؛ فمرض فقدان المناعة/الإيدز اتخذ شكل الوباء العام، لكن عدد الطواقم الصحية الضرورية من أجل علاج المرضى يتناقص بشكل دائم. ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يعمل أكثر من ٢١٠٠٠ طبيب نيجيري. و٦٠ ٪ ممن تخرجوا من كليّات الطب في جامعات غانا غادروا البلاد منذ عام ١٩٨٠ . في بداية التسعينات كانت نسبة المسجلين حديثًا في سجل الطواقم التمريضية البريطاني الرئيسي القادمين من الدول النامية تساوي واحد من عشرة. وارتفع هذا العدد حتى عام ٢٠٠٠/٢٠٠١ إلى نسبة ٤٠٪، وللمرة الأولى زاد في فترة ٢٠٠١/٢٠٠٢ عدد المسجلين الجدد القادمين من عبر البحار عن عدد المسجلين من داخل المملكة المتحدة.
خسائر اقتصادية فادحة
يشير كل شيء إلى أن هذا الاتجاه العام سيتفاقم في الأعوام القادمة.
ويرجع سبب ذلك إلى النمو السكاني في الدول الصناعية. بالإضافة إلى المشاكل التنظيمية، مثل انخفاض أجور المهن التمريضية الذي يؤدي في المجتمعات الثرية إلى تناقص دائم في عدد الذين يختارون هذه المهن. لازالت الهجرة تقترن بالخسائر المالية الفادحة التي تفقدها دول المهاجرين. فطبقًا لمعلومات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD بلغ العجز المالي فقط في جنوب أفريقيا في الفترة من عام ١٩٩٥ حتى عام ٢٠٠٢ أكثر من مليار دولار. رغم هذا الواقع المؤلم يتم التركيز في النقاش العالمي أخيرا على حسنات الهجرة. ويركز في هذا النقاش بصورة متزايدة على المعادلة التالية: ينتج أيضًا عن الهجرة (التي لا يمكن تجنبها) مكاسب لبلاد المهاجرين. لكن يظهر إن أمعنا النظر، أن الآثار الإيجابية مبالغ بها. ت
دفق المليارات
يدور الحديث قبل كل شيء عن الحوالات المالية التي يحولها المهاجرون إلى ذويهم في أوطانهم. وبالفعل ازداد حجم هذه الحوالات بشكل مطرد في السنين العشر الأخيرة. إذ أصبحت تشكل ثاني أكبر مصدر مالي خارجي للبلدان النامية. وأصبح حجم الحوالات المالية المرسلة سنويًا إلى الوطن قريبًا من المائة مليار دولار. وتعادل تقريبًا الاستثمارات المباشرة، كما أنها أعلى بكثير من المبالغ التي تتدفق من مساعدة التنمية الرسمية Official Development Assistance. تشمل هذه الأرقام الحوالات المالية التي تُـجرى عن طريق البنوك الرسمية فقط. فالتقديرات تخلص إلى نتيجة مفادها أن ما ينقل عبر الحدود بصورة غير رسمية يعادل هذا المبلغ. تزيد المبالغ المحولة إلى البلدان ذات الدخل المنخفض عن المبالغ المقدمة من مساعدة التنمية الرسمية ODA بنسبة ١٢٠،٦٪. حتى أنها تتجاوز هناك الاستثمارات المباشرة بنسبة ٢١٣٪. وهذه الأموال المرسلة إلى الوطن تلعب دورًا هامًا في استقرار البلاد خاصة في الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة.
الحوالات المالية ترفع القدرات الاقتصادية
تأتي ألمانيا التي يحوّل منها ما نسبته ٨،١٪ من مجموع الحوالات المالية المرسلة من دول المهجر في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة الأمريكية (٢٨،٤٪) والمملكة العربية السعودية (١٥،١٪). وتحظى الدول الأوروبية مجتمعة بنصيب أكبر بقليل من نصيب الولايات المتحدة من هذه الحوالات. وصارت تعقد على هذه الأرقام الضخمة آمال مفرطة. إذ جاء في تقرير لبنك النقد الدولي عنوانه "تمويل التنمية العالمي ٢٠٠٣" Global Development Finance: "تزيد الحوالات المالية التي يحوّلها المهاجرون إلى ذويهم من دخل متلقيها ومن احتياطي العملات الأجنبية في البلد المتلقي. وإذا استثمرت هذه الأموال، فهي تساهم في رفع القدرات الاقتصادية، أما إذا استهلكت فهي تحدث تأثيرات مضاعفة مختلفة". أثنت مجلة نيوزويك الأمريكية في عددها الصادر في الـ١٩ من كانون الثاني/يناير ٢٠٠٤ على الحوالات المالية التي يحوّلها المهاجرون إلى ذويهم، معتبرة إياها شكلا جديدا لمساعدة خارجية
طبقًا لمعلومات لجنة شؤون المغتربين الصينيين يعيش نحو ٣٥ مليون صيني خارج الصين. وقد غادر الهند أكثر من ٢٠ مليون هندي. كما يعيش في الخارج زهاء نصف المواطنين الصرب البالغ عددهم سبعة ملايين تقريبًا. وزيادة على الحوالات التي ترسل من المهجر إلى الوطن، يلعب أبناء هذه الأقليات الضخمة دورًا في تنمية أوطانهم. وحقًا لم تعد تعني الهجرة في زمن طرق النقل والاتصالات الرخيصة والسريعة انقطاعًا عن الوطن أبدًا، مثلما كانت الحال فيما مضى. كما لا تشكل جاليات المهجر شبكات للقادمين الجدد من المهاجرين فقط، بل صاروا كذلك قادرين على ممارسة نفوذ واسع في بلورة السياسة والمجتمع في أوطانهم. يهتم علم الهجرة بصورة متزايدة بقدرات "الشبكات التي تتخطى حدود الدول".
يتمتع أبناء الأقليات بميزات خاصة أثناء عمليات التمهيد للصفقات التجارية والاستثمارات وتنفيذها. فهم يعرفون أوطانهم ويحسنون تقييم الشركاء المحليين من حيث الكفاءة والأمانة. وهم موهوبون في فهم حالة السوق واستغلال الفرص التجارية. زد على ذلك أن لديهم فرصًا أحسن للمطالبة بحقوقهم بفضل ارتباطاتهم الاجتماعية، وهم سبّاقون في نفس الوقت إلى التمتع بثقة شركائهم في العمل داخل بلاد المهجر. وهكذا هم وسطاء مثاليون بين بلادهم التي أتوا منها وبلاد المهجر. وكذلك كثيرًا ما يقومون بنقل التكنولوجيا عندما تتوفر لديهم خبرات تقنية.
تَفوّق في الصناعة المعلوماتية والاتصالات
أحسن مثال هي صناعة المعلوماتية والاتصالات في الهند. تُظهر دراسة غير منشورة بعد، أعدّها أوفه هونغر، إلى أي حدّ شارك أبناء الأقلية الهندية المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية في بناء هذه الصناعة. هناك عشر شركات من بين العشرين شركة الأكثر تفوقًا في إعداد البرامج الإلكترونية، والتي جنت حوالي ٤٠٪ من إيرادات هذا القطاع، يديرها هنود عادوا من الولايات المتحدة أو قاموا بتأسيسها.
ومع أن الهند كثيرا ما تذكر في هذا الصدد، إلاّ أنها ليست على الإطلاق مثال النجاح الوحيد من نوعه. إذ ينبغي ملاحظة مثل هذه التطورات في كوريا وتايوان والصين. لاشك أن النجاح في هذه الدول يعكس دائمًا وأبدًا سياسة اقتصادية، تدعم المبادرات في إنشاء شركات. وخلا ذلك لا يستطيع إلاّ ذوي الكفاءات من المهاجرين أن يحققوا نجاحًا في تطوير مثل هذه النشاطات. أما بلاد المهاجرين ذات السياسة الاقتصادية الخاطئة و/أو بالأحرى المهاجرين الذين ليس لديهم كفاءات، فلن يجنوا تقريبًا أرباحًا من هذه الميّزات.
يجدر بألمانيا أن تستغل قدرات المهاجرين
يمكن لسياسة التنمية الألمانية أن تكتشف الكثير فيما يخص قدرات الأقليات في ألمانيا. صدرت مجموعة من الاقتراحات عن مؤتمر عقدته في هذا العام الوكالة الألمانية للتعاون التقني GTZ من أجل التعاون مع الأقليات. فمن الضروري طبقًا لهذه المقترحات أن يُعمل على تحسين الظروف المالية الاقتصادية لصالح الحوالات المالية التي يحوّلها المهاجرون إلى ذويهم.
وعليه ينبغي خفض تكلفة تحويل المال إلى الخارج، لكي يتسنى للبنوك الرسمية أن تحل محل القنوات غير الرسمية (مثل نظام الحوالة الإسلامي). كما يجب أن يضمن للمهاجرين الوضع القانوني للإقامة - فلا يمكن للمهاجرين غير الشرعيين أن يستخدموا البنوك الرسمية. كذلك من الحكمة أن تقدم النصائح المباشرة والمساعدات للمستثمرين الذين يخططون للاسثمار في وطنهم. تظهر مثل هذه المبادرات نحو أي اتجاه يمكن أن تتجه السياسة الحكيمة للتعامل مع الأقليات. وبلا شك سيكون من الضروري لذلك، أن يتم الاعتراف بجاليات المهاجرين في البلاد التي هاجروا إليها كعناصر ضرورية وتشجيعهم على التعاون. نأمل أن لا تشكل المناقشات الحادة التي يجريها أرباب السياسة الداخلية حول موضوع الهجرة إلى ألمانيا عائقًا، في أن تستغل ألمانيا قدرات الأقليات استغلالاً أفضل مما هو الآن.
هانس فرنر موند
© Entwicklung und Zusammenarbeit 10/2004
ترجمة: رائد الباش
يدير الدكتور هانس فرنر موند مشروع الوكالة الألمانية للتعاون التقني GTZ "هجرة وتنمية"