معرض ''الطرق العربية''.....رحلة زمنية عبر الكنوز السعودية
هذا المعرض – الذي يجذب الأنطار في الوقت الراهن إلى المملكة العربية السعودية - توقف في ثلاث محطات قبل أن يحط الرحال في برلين. المحطة الأولى كانت في باريس ثم انتقل إلى برشلونه قبل أن يصل إلى سان بطرسبرغ. وفي كل محطة كان بإمكان الزائر أن يتمعن في الإرث الثقافي التاريخي للمملكة العربية السعودية الذي يدهش أيضاً – حسبما وتقول الدعاية للمعرض - الزوار المتخصصين في تاريخ الفن.
بعد هذه المحطات الثلاث احتضن متحف الفن الإسلامي في برلين المعرض الذي يُقام الآن تحت عنوان "الطرق العربية – كنوز أثرية من المملكة العربية السعودية". وتستعرض المعروضات البالغ عددها 400 تاريخاً حافلاً لشبه الجزيرة العربية، من العصور القديمة حتى العصر الإسلامي الحديث. والعدد الأكبر من المعروضات يأتي من متاحف سعودية، إلى جانب 80 قطعة تم انتقاؤها من المقتنيات البرلينية لعرضها في المعرض الحالي.
وتعتبر االسعودية من المناطق الجديدة حتى بالنسبة إلى متحف الفن الإسلامي المرموق الذي يحقق رقماً قياسياً في عدد الزوار، بلغ في العام الماضي 732 ألف زائر. ويرى مدير المتحف شتيفان فيبر أن مهمة متحفه هي التثقيف الجماهيري: "ما يهمنا هو إضافة البعد الثقافي التاريخي إلى النقاش الدائر حول الإسلام".
عقود من الجهل
وسوف تنتقل معروضات متحف الفن الإسلامي بحلول عام 2013 إلى القسم الشمالي من متحف "برغماون" خلال تجديده. وتغطي معروضات المتحف البرليني العالم الإسلامي كله تقريباً. الاستثناء الوحيد كان حتى الآن هو السعودية. ولهذا كان الحظ حليفاً للمتحف عندما وقع اختياره على تنظيم معرض "الطرق العربية" الذي يتلاءم بشكل تام مع المعروضات الموجودة بالفعل. "إننا لا نكاد نعرف شيئاً عن هذه المنطقة. طوال عقود كان العديد من العلماء يعتقدون أنه ليس هناك شيء يستحق البحث"، يقول فيبر. غير أن الوضع تغير الآن، فالمعرض الجديد تعبير عن التحول في المفاهيم، من الصورة النمطية للسعودية كشعب يعيش في صحراء مقفرة إلى بلد كتب فصلاً من فصول تاريخ الفن. لقد أهملت المملكة العربية السعودية كنوزها سنوات طويلة، ولكن في الأعوام الأخيرة، يقول فيبر، فعلت المملكة الكثير من أجل الحفاظ على إرثها الثقافي.
وللتأكيد على ذلك حضر علي الغبّان، نائب رئيس اللجنة السعودية للسياحة والآثار، إلى المؤتمر الصحفي الذي عُقد في متحف برغماون. هناك من خلف الطاولة، وأمام عمودين ضخمين من الحجر، توجه الغبان في البداية إلى الحاضرين بالشكر على إتاحتهم الفرصة له لكي "يعرض للرأي العام الألماني الماضي المجيد للمملكة العربية السعودية"، ثم يضيف أن حاضر السعودية ليس بالإمكان تصوره بدون ماضيها. هل يمكن من ذلك فهم أن السعودية تنفتح بتاريخها على العالم؟ "لم يتأخر الوقت على ذلك قط. إن الإرث الثقافي مهم لمستقبلنا. كما أننا نرى فيه مصدراً اقتصادياً"، يقول الغبان. في الوقت الحالي تقوم المملكة ببناء أحد عشر متحفاً جديداً، وفيها ستكون هناك مساحة رحبة لعرض تاريخ المملكة.
وبالطبع فإن المعرض هو أيضاً دعاية للمملكة العربية السعودية. هذا الانتقاد يتحتم على شتيفان فيبر أن يسمعه المرة تلو الأخرى. فالسؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً هنا: هل يمكن التعاون مع دولة استبدادية مثل السعودية؟ ما يزعج مدير المتحف في هذا الانتقاد هو أنه لا يُثار سوى في مجال العمل الثقافي، غير ذلك لا يكاد يرى أحد أي مشكلة في ملء خزان وقوده بالنفط السعوي. بحذر يتحدث فيبر عن "التحول من خلال التاريخ الثقافي". هل يمكن اعتبار الآثار وسيلة من وسائل التغيير؟
التغير في النظر إلى التاريخ
"
الطرق العربية" هي إذن رحلة زمنية يقوم بها الزائر، وتأخذه على طول طريق التجارة والحجيج. وتبدأ الرحلة بالآثار الأولى التي خلفها البشر هناك، فيرى الزائر رؤوس السهام من عصور ما قبل التاريخ، ثم يمر بالحقب التاريخية اللاحقة، فيرى شواهد من الحجر صُنعت في الألف الرابعة قبل ميلاد المسيح، إلى أن يصل إلى الآثار التي خلفتها القوافل القديمة. وبهذا يتمحور المعرض الذي جرى التخطيط له لمدة تزيد عن أربع سنوات حول التاريخ القديم، وهو شيء ليس بالبديهي في الدولة التي شهدت مولد الإسلام.
وينظر الإسلام إلى العصر السابق على الوحي المحمدي على أنه "عصر الجاهلية". أي أن عصر ما قبل الإسلام هو، وفق المفهوم الصحيح للدين، عصر الهمجية والشرك بالله. في المعرض يرى الزائر عزوفاً عن صورة "الجاهلية" المظلمة. ويتسع النظر ويمتد ليشمل التاريخ بكل استمراريته في شبه الجزيرة العربية. ويعتبر هذا بالفعل علامة على التحول، لا سيما بالنسبة للسعودية.
ويمر الزائر بعد ذلك على التماثيل الضخمة التي كانت منصوبة في مملكة ديدان قبل نحو ألف عام من ميلاد المسيح. وضعت هذه التماثيل في قاعة سوداء عاكسة، وهناك تلقي التماثيل العملاقة المتحجرة نظرة من أعلى على الزائر. وتظهر التأثيرات المصرية القديمة في أسلوب نحت التماثيل الحجرية، ولهذا فهي تعد شهادة على التأثير الفني العابر للحدود.
قسم آخر من المعرض يدور حول طرق الحجاج التاريخية التي كانت تمثل حتى قبل ظهور الإسلام دروباً تجارية مهمة، غير أنها تطورت في ظل حكم الخلفاء الأموييين والعباسيين.وهكذا نشأت بنية تحتية ضخمة على جانبي الطريق من دمشق وبغداد وصولاً إلى المدينة المنورة، تقوم بتزويد أفواج الحجاج بالطعام والشراب. وتبين معروضات عديدة من الحياة اليومية وكذلك الأواني الفخارية المستوردة أن الحياة الاجتماعية آنذاك كانت مزدهرة.
الحج إلى مكة
وينتاب الزائر شعوراً بأنه قام بنفسه برحلة الحج، إذ يجد نفسه بعد أن ينزل درجاً صغيراً في مواجهة الكعبة. وتتوقف أنفاس الزائر عندما يرى الكعبة ببهائها وضخامتها تحت أضواء كشافات المعرض المصمم بذكاء. هناك يرى الزائر البوابة المصنوعة من الفضة الخالصة والمنقوشة بالنقوش النباتية والزخارف الخطية والتي تم صنعها في العهد العثماني، ثم استبدلت بأخرى خلال أعمال تجديد الكعبة. في أحد جوانب القاعة عُلقت كسوة ضخمة كانت تغطي باب الكعبة والتي يتم تغييرها في كل عام. وكانت الكسوة تُقطع إلى قطع حسب تقاليد من فترة ما قبل الإسلام، ثم توزع على الشرفاء. وبعض قطع الكسوة نجدها معروضة بجانب الكتب الملونة للحجاج الإيرانيين.
إن هذه المتعلقات الخاصة بالكعبة وتاريخ مكة تعرض للمرة الأولى في متحف ألماني. "ترتبط السعودية في أذهان الناس عندنا بأشياء قليلة، مثل الرمال والأمراء وكون النساء هناك لا يُسمح لهن بقيادة السيارة"، كما يقول كريستيان غيرليشس الذي قام بتنظيم هذا المعرض. إن معرض "الطرق العربية" يتيح لنا نظرة مختلفة وكاشفة لبلدٍ يعتقد المرء أنه يعرفه، لكنه غريب للغاية بالنسبة لكثيرين منا.
ماريان بريمر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق الطبع: قنطرة 2012