إسلام براغماتي في ظل تعدد عرقي
في ظهيرة يوم الجمعة في مسجد مدينة الماتي الرئيسي، وفي مكان غير بعيد عن السوق الأخضر في وسط هذه المدينة الكزخية ذات المليوني نسمة؛ بينما يرفع المؤذِّن عبر مكبرات الصوت الأذان لصلاة الجمعة، حيث يتدفَّق الناس بالمئات على المسجد. ويمتلئ صحن المسجد الرئيسي بالمصلِّين وكذلك يسجد بعض الرجال في الممرَّات الضيِّقة وكذلك على السلالم. وحتى أنَّ باحة المسجد غُطِّيت في بداية الصلاة بسجَّاد ملوَّن وتركت الأحذية على أطرافها، أما الذين يصلون متأخرين فلا يكادون يجدون أماكن لهم. وبعض الفتيات اللواتي يرتدين جِزَمًا مرتفعة وتنانير قصيرة ويغطين شعرهنَّ بمناديل - يسرعن إلى دخول المكان المخصَّص لصلاة النساء.
لا يمكن تجاهل عودة الإسلام من جديد إلى كازاخستان. وكذلك أصبح المسلمون يشكِّلون بعد سبعة عشر عامًا من انهيار الاتِّحاد السوفييتي واستقلال كازاخستان أكثر من ثلثي الكازاخستانيين البالغ عددهم خمسة عشر مليون نسمة - ويتألّف مسلمو كازاخستان من الكازاخيين ولكن أيضًا من الأوزبكيين والويغوريين والأذريين والأكراد والإيرانيين والأتراك.
ويقول ييرشات أونغاروف Yershat Ongarov مؤكِّدًا: "أجل كازاخستان دولة مسلمة ولكنها ليست إسلامية. فالدولة والدين منفصلان في بلدنا عن بعضهما فصلاً تامًا". ويعمل ييرشات أونغاروف مديرًا لقسم التعليم في إدارة الشؤون الروحية الخاصة بمسلمي كازاخستان DUMK، والتي قام تحت سقفها مسلمو كازاخستان بتنظيم أنفسهم. وبينما كان عدد المساجد لا يبلغ إبَّان الاستقلال سوى ثمانية وستين مسجدًا، صار تبلغ حاليًا أكثر من ألفين ومائتي مسجد تم بناء معظمها في الأعوام الأخيرة. ويقول ييرشات أونغاروف: "يزيد عدد المساجد كلَّ شهر نحو ثلاثة مساجد جديدة. ولدينا نقص في الأئمة".
استثمارات تعليمية من مصر والإمارات
ولهذا السبب تم في عام 2001 وبمعونة من الحكومة المصرية تأسيس جامعة "نور مبارك" للثقافة الإسلامية. وكانت هذه الجامعة هي الأولى التي يتم فيها تخريج الأئمة في كازاخستان. ولم يكن ذلك ممكنًا قبل تأسيس هذه الجامعة إلاَّ في دول الخارج العربية. وفي هذه الأثناء صار هناك مدرسة ثانية لتخريج الأئمة تتم إدارتها من قبل إدارة الشؤون الروحية الخاصة بمسلمي كازاخستان. "ولكن على الرغم من ذلك فنحن لا نستطيع تغطية كلِّ الحاجة إلى الأئمة في كازاخستان"، حسب قول مدير جامعة "نور مبارك"، الأستاذ محمد حجازي.
ويبلغ عدد الطلبة في هذه الجامعة نحو خمسمائة طالب. وهذه الجامعة لا تعتبر مجرَّد جامعة دينية - فمن الممكن فيها التخرّج بدرجات البكالوريوس والماجستير في تخصّص الدراسات العربية أو الأدب الإنكليزي أو العلوم الإسلامية المقارنة أو العلوم التربوية؛ كما أنَّ الدولة لا تشرف على الامتحان النهائي من أجل تخريج طلبة العلوم الإسلامية التي تعتبر التخصص الديني الوحيد في هذه الجامعة؛ إذ إنَّ وزير التعليم الكازاخستاني رفض منح شهادات من الدولة لهذا التخصّص مع إشارته إلى أنَّ كازاخستان دولة علمانية.
وكذلك تعمل في كازاخستان بلدان عربية أخرى. فهكذا تم في مدينة شيمكينت ذات الأغلبية المسلمة الواقعة في جنوب كازاخستان وبمعونة من مؤسسات عربية تأسيس كلّ من الجامعة الكازاخستانية العربية والجامعة الكازاخستانية الكويتية. أما أكبر مسجد في كازاخستان فموجود في العاصمة أستانا وقد تم تقديمه كهدية من أمير دولة قطر.
إقبال المتحمِّسين للدين
ولا يرى ييرشات أونغاروف مدير قسم التعليم في إدارة الشؤون الروحية الخاصة بمسلمي كازاخستان أنَّ هناك مشكلة في كون الإسلام يعود إلى الحياة في كازاخستان بمعونة من قبل مسلمين أجانب أتوا إلى آسيا الوسطى مباشرة بعد انهيار الاتِّحاد السوفييتي. ويقول ييريشات أونغاروف: "لقد نسي الكازاخستانيون في العهد السوفييتي ما الذي يعنيه الإسلام، حتى وإن كانوا يعلمون دائمًا أنَّ الإسلام يعدّ من حياتهم". وهو يرى أنَّ تعلّم الكازاخيين الإسلام من جديد وبمساعدة فقهاء من المملكة العربية السعودية أو مصر يعتبر أمرًا مشروعًا.
غير أنَّ إقبال الدعاة العرب بنشاط على كازاخستان جاء أيضًا بجماعات أصولية متطرِّفة إلى البلاد. ففي بداية فترة التسعينيات كان يدور الحديث حتى حول تأسيس دولة إسلامية مستقلة فوق تراب كازاخستان وقرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان. وعلى الرغم من أنَّ هذه الفكرة لم تعد تناقش في يومنا هذا بشكل جاد فإنَّ خطر التطرّف الديني ازداد كثيرًا في كازاخستان في الأعوام الأخيرة حسب تقدير العديد من الخبراء.
لقد سجَّل المركز الكازاخستاني لبرامج مواجهة الإرهاب ZAP الكائن في مدينة الماتي زيادة في عدد الحالات التي تم فيها نشر دعوات ومنشورات مخالفة للدستور. وتم فقط في العام الماضي إلقاء القبض على مائة وسبعة وستين عضوًا ينتمون لحزب التحرير الإسلامي وتم توجيه التهم إليهم. وكذلك يعتبر كلّ من تنظيم القاعدة وحركة أوزبكستان الإسلامية وحزب شرق تركستان الإسلامي منظَّمات إرهابية في كازاخستان ويمنع نشاطها في كازاخستان ويتصدى لها جهاز حماية الدستور.
"الإسلام الكازاخستاني براغماتي"
ولكن لا توجد للإسلام أي علاقة بالتطرّف بالنسبة لمعظم الكازاخيين؛ إذ تعتبر نسيب نفسها امرأة مسلمة، بيد أنَّها تذهب إلى المسجد على أبعد تقدير فقط في عيد الأضحى. وهي في منتصف الخمسين، كما أنَّها تربَّت تربية اشتراكية في الاتِّحاد السوفييتي وكانت تعتبر نفسها طيلة أعوام امرأة ملحدة. ولكن لقد أثير اهتمامها هي الأخرى وذلك عندما كان يزداد اهتمام أقربائها وأصدقائها بالإسلم.
"حاولت قراءة القرآن باللغة الروسية، بيد أنَّني وضعته جانبًا. فكلّ هذه التعليمات لا تعني لي أي شيء"، على حدّ قول نسيب. وهي تعمل في شركة سياحية في كازاخستان، كما أنَّ زميلاتها ينظرن إلى الإسلام على أنَّه جزء تقليدي من ثقافتهنَّ. وتضيف نسيب قائلة: "وأنا ألتزم منذ ثلاثة أعوام بصيام شهر رمضان. غير أنَّني أميل إلى فعل ذلك لنفسي ولصحَّتي الروحية والجسدية".
وتقول جلنار نظيروفا Gulnar Nadirowa من قسم الدراسات العربية في معهد المشرق في جامعة الفارابي الوطنية الكازاخستانية إنَّ "الإسلام الكازاخي الحديث براغماتي للغاية. ولم يكن الإسلام بالنسبة للكازاخستانيين - هذا الشعب البدوي ذي الجذور الدينية الممتدة إلى الديانة الشامانية والتنغيرية - دينًا عقائديًا". وقد لعبت دائمًا الصلة بالأجداد والأسلاف دورًا أقوى بكثير من المحافظة على الطقوس والالتزام بها، حسب قول جلنار نظيروفا؛ ويعدّ هذا أيضًا من ثقافة الكازاخستانيين، كما أنَّه لم يضيع قطّ في ظلِّ حكم السوفييت.
دعم الدولة للأديان والكنائس والجالية اليهودية
ولكن ما سبب هذه الحاجة الجديدة إلى التبعية الدينية في الوقت الحاضر؟ تقول جلنار نظيروفا: "يعتبر انهيار الاتِّحاد السوفييتي بالنسبة للكثير من الكازاخستانيين خسارة للضمانات الاجتماعية بعيدة الأمد. وكذلك تمت إعادة ملء الفراغ الذي حدث من خلال زوال المنظَّمات الإيديولوجية مثل اتِّحاد الشباب الشيوعي Komsomol من خلال الإسلام". وما يزال المرء يجد نفسه حتى الآن في فترة انتقالية، لهذا السبب يبحث الناس عن أي نوع من الضمان، على حدّ قول جلنار نظيروفا التي تضيف: "والإسلام يقدِّم ذلك بالنسبة للكثير من الكازاخستانيين".
وتشهد جميع الأديان في كازاخستان - على عكس ما هي عليه الحال في الجمهوريات الأخرى ذات الصبغة الإسلامية في آسيا الوسطى - من جديد إقبالاً شديدًا، كما يتم دعمها من قبل الدولة. وما يزال نحو عشرين في المائة من مواطني كازاخستان ذوي أصول روسية وعليه فإنَّ أيضًا الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية ازدادت قوة من جديد، وكذلك تشهد الجالية اليهودية تجدّدًا في شعور التضامن والارتباط، حيث تم قبل عامين في العاصمة أستانا بناء أكبر كنيس يهودي في كازاخستان. وتعدّ الأعياد الدينية الروسية الأرثوذوكسية وكذلك أعياد المسلمين عطلاً رسمية.
هوية مستقلة عن روسيا
ويبدو أنَّ الإسلام يشكِّل قبل كلِّ شيء لدى الكازاخستانيين الشباب الذين يعرفون بلدهم فقط كدولة مستقلة عاملاً مساعدًا في البحث عن هوية كازاخستانية خاصة مستقلة عن روسيا. "وهم يريدون أن يكونوا كازاخستانيين مسلمين ومتطوِّرين"، حسب تعبير محمد حجازي من جامعة "نور مبارك".
وتفاجأت في البدء قبل بضعة أعوام الفتاتان إلمار ورنرجسة البالغتان من العمر سبعة عشر عامًا عندما بدأ والد الأولى وأخو الثانية بالمواظبة على الذهاب إلى المسجد؛ بيد أنَّ الإسلام صار يشكِّل في يومنا هذا جزءًا أساسيًا من حياتهما. وهما تظهران ذلك، إذ يرتدين الحجاب وتعدّ إقامة الصلوات الخمس بالنسبة لهما طقسًا أساسيًا.
وهاتان الشابتان تدرسان العلوم الإسلامية في جامعة "نور مبارك". وتريد نرجسة متابعة دراستها في مصر، أمَّا إلمار فتريد دراسة الحقوق بعد إتمامها دراسة العلوم الإسلامية. وتقول إلمار: "أنا أدرس هذا التخصّص الآن لنفسي، ولكني أريد العمل في مجال القانون - إذا كان زوجي سيسمح لي في المستقبل بذلك". ولأنَّها لا تدري - مثلما تقول - كيف سيكون رأي زوجها الذي يجب أن يكون مسلمًا صالحًا، فهي تدرس تقريبًا دراسة وقائية. وتقول إلمار: "أنا أريد أن أبقي جميع الإمكانيات مفتوحة أمامي".
إدّة شلاغَر
ترجمة: رائد الباش
قنطرة 2008
قنطرة
استراتيجيا أوروبية جديدة تجاه آسيا الوسطى:
الانفتاح المنتظر نحو الغرب
استأثرت آسيا الوسطى بعد انهيار الآتحاد السوفييتي باهتمام خاص من قبل الإتحاد الأوروبي بسبب احتياطيها الهائل من النفط في بحر قزوين. هذا هو ما دفع ألمانيا الى إطلاق مبادرة إستراتيجية لتقوية العلاقات مع دول المنطقة. بقلم ماركوس بينسمان
أذربيجان دولة قائمة على النفط والمخابرات:
سحر الأرقام
تؤدي مليارات الدولارات المستحصلة من بيع النفط في أذربيجان إلى تقوية دعائم السلطة الاستبدادية التي يملكها رئيس الدولة إلهام علييف، حيث تدخل العوائد في جيوب الأقارب والمنتفعين، كما أنها تشكّل في الوقت ذاته خطرا على اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة مع أرمينيا. مقال كتبه توبياس اسموت.
جمهوريات آسيا الوسطى ومنظمة الأمن والتعاون في أوربا:
في أسر الدكتاتوريات الجديدة
. الحكم الاستبدادي والفساد يخيمان على آسيا الوسطى، مثلما تسود أَنظمة استبدادية، لا تعرف أَي اعتبارات لحقوق الإنسان ولا لسيادة القانون، وهذا يعود أيضا إلى فشل منظمة الأمن والتعاون في أوربا حسب رأي المعلق ماركوس بينسمان