الإنجيل الخامس لنيتشه
فيلسوف مشاغب
"ما من مفكر أشد اخلاصا من نيتشه" كتب إميل فاكيه، وتابع:"إذ لم يبلغ أحد قبله ما وصل اليه وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قراراتها أو من انتهائه إلى لا شيء".
ولكن أيضا ما من مفكر أكثر إثارة للجدل والخصام من هذا الفيلسوف الألماني الذي تنكرت له أمته، لأنه كفر بتقاليدها البروسية الدوغمائية، بانغلاقها على نفسها، بجديتها الأخلاقية الكاذبة ونفاق علمويتها.
فيلسوف فرنسي يكتب بالألمانية
نيتشه سيشهد ولادة جديدة في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، خصوصا مع فوكو و جيل دولوز، حتى أن الفرنسيين لم يلبثوا يؤكدون بأنه فيلسوف فرنسي كتب بالألمانية. سينتظر الألمان طويلا، إلى أن يأتي بيتر سلوتردايك، هذا العدو اللدود للكانطية الجديدة المتمثلة في أعمال هابرماس. فكتابه الأخير الذي جاء احتفاء بالذكرى المئوية لوفاة نيتشه، يتحدث عن هذا الفيلسوف "ككارثة في تاريخ اللغة".
ديناميت للقيم والأخلاق
نيتشه نفسه من يؤكد "أن مجمل فلسفتنا هي عمل تعديل لاستعمالنا للغة". لقد كان فعلا عبوة ديناميت، كما ظل يردد، عملت على تفجير كل القيم والحقائق السائدة من المثالية الألمانية الى المسيحية، الى التقاليد البروسية في التفكير والحياة.
لكنه لم يكن يطلب التفجير من أجل التفجير، بل كان يريد أن يؤسس لحقيقته، أن يعيد كتابة الإنجيل بطريقة تتوافق مع تمجيده للفرد. إنجيل ضاحك من كل الحقائق. إذ كما كتب واصفا مؤلفه الأساسي "هكذا تكلم زرادشت":"... لقد تحديت كل الأديان ووضعت "كتابا مقدسا" جديدا!
وبكل جدية أقول إنه على غاية من الجد كما لم يسبق لكتاب آخر أن يكون، وإن كان قد استوعب الضحك وأدمجه داخل الدين." إنه كتاب الباروديا بامتياز، يفتض اللغة الإنجيلية من الداخل، يدمرها، يعيد كتابتها من جديد، فكما كتب ميشيل فوكو عن ذلك:"لعبة التاريخ الكبرى تتمثل فيمن يفوز بالقواعد، ويستأثر بها، ويستعملها في معنى مغاير، ويعكسها لترتد الى نحور الذين فرضوها".
نيتشه والتحريف النازي
إن نيتشه يسمي نفسه الرسول المبشر بقدوم الإنسان الأعلى. هذا الإنسان الذي لن يغرس رأسه في تراب الميتافيزيقا بعد اليوم، بل سيرفعها عالية، فوق التحريف وفوق الوصايا التي اعتقلت حريته وعقله. ويدافع سلوتردايك عن نيتشه ضد العمل التحريفي للإيديولوجيا النازية، مؤكدا أن النازيين صنعوا نيتشه على مقاسهم.
ذلك أن صاحب زرادشت ظل دائما معاديا للقومية، ولاألمانيا إلى حد كبير في تفكيره وحياته وكتابته، و"معاد أكثر من اللزوم لمعاداة السامية"، ولكل الإيديولوجيات الشعبوية التي تحتقر الفرد. أليس هو القائل:"أن تكون عظيما يعني أن تغدو موضوع سوء فهم...".
عرض رشيد بوطيب
الكتاب: الإنجيل الخامس لنيتشه تأليف: بيتر سلوتردايك
ترجمة: علي مصباح منشورات الجمل 2003