من تسالونيكي إلى أنقرة
تتضارب أحكام الأجيال اللاّحقة بحقّ مصطفى كمال أتاتورك، بيد أنَّ معاصريه في الدول الأخرى الذين حكموا بلادهم بأساليب دكتاتورية حصلوا كلَّهم وكما يستحِّقون من التاريخ على درجات أسوأ.
إنَّ تأليه شخصية أتاتورك الذي بدأ في تركيا إبَّان حياته - إذ رُفع الستار في عام 1929 في إسطنبول عن أوَّل تمثال له، تبعته فيما بعد تماثيل كثيرة - لا يزال حتَّى يومنا هذا يحول دون إمعات النظر في شخصية هذا الرجل الخيالي ذي الجوانب المتعدِّدة والإرادة القوية.
"أبو الأتراك"
يعتبر "مصطفى كمال باشا" المولود في عام 1881 في المدينة المقدونية تسالونيكي، التي كانت حتَّى عام 1912 عاصمةً لأحدى الولايات العثمانية، مؤسس جمهورية تركيا الحديثة. أمَّا لقبه "أتاتورك" فقد أُطلق عليه بأمر منه فقط مع نهاية مسيرة حياته في العام 1934 من قبل مجلس الشعب التركي الكبير في أنقرة، أي برلمان الجمهورية التركية.
إلاّ أنَّ العالم يعرفه باسم "أتاتورك" (أبو الأتراك) - هذا الاسم الذي يختلف عن اسمه الأوَّل "مصطفى" والاسم الذي أطلقه معلِّمه عليه "كمال". كذلك لم ينسى الناس في تركيا أسميه الفخريين "غازي" و"خلاصكار" (أي المنقذ والمخلِّص).
يتعذَّر الوقوف على شخصية "أتاتورك" من خلال مجموعة من العقبات التي تحول دون البحث العلمي. لا يزال الكثير من المواد محفوظة في أرشيف هيئة الأركان العامة وفي دوائر أخرى تعتبر كذلك محظورة بالنسبة للباحثين الأتراك والأجانب. ينطبق هذا الحظر حتَّى على "النصّ الأصلي" الخاص بـ"خطبته الكبرى" (Nutuk)، التي وصف فيها أتاتورك في عام 1927 دوره في حرب التحرير في الفترة من عام 1919 حتَّى عام 1922.
تحقيق نجاح في الجيش
نشأ كمال أتاتورك في أسرة متواضعة وكذلك لم يكن لديه - على عكس الكثير من كبار معاصريه - أقرباء قريبين أو بعيدين كان من الممكن لهم أن يُسهِّلوا له الطريق لمتابعة مسيرته العملية.
كان الجيش وحيد فقط يمكِّن الصبيان الموهوبين الذين لا يوجد لديهم لا واسطة ولا ثروة من تحقيق نجاح اجتماعي. لا شكّ في أنَّ هذا الشاب الطالب في الكلية العسكرية كثيرًا ما نظر إلى خرائط أطلسه الصغير وتساءل عما إذا كانت البلدان العثمانية التي كانت حتَّى عام 1911 موزَّعة على ثلاث قارَّات قادرة على الصمود في وجه عدو قوي مثل روسيا.
استطاع أتاتورك بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى أن يتصدَّى لمحاولة إنزال أجراها فيلق استطلاع تابع للحلفاء في شبه جزيرة غاليبولي. لقد كان ذلك هو النجاح العسكري الوحيد الذي يستحق الذكر للعثمانيين في الحرب العالمية.
على الرغم من هذه المعركة التي دارت حول وفي بعض المضائق المائية - لم تتمكَّن الدولة العثمانية التي كانت متحالفة مع قوى المحور (ألمانيا والنمسا-المجر) من الصمود في وجه الضغط البريطاني والروسي. لم يتبقَّى لتركيا حسب معاهدة الصلح التي تمّ التوقيع عليها في عام 1919 في ضاحية سيفر الباريسية أكثر من جزء من المناطق الداخلية في هضبة الأناضول وإسطنبول ومنطقة شرق تراقيا التي تقع أمام إسطنبول.
بيد أنَّ مصطفى كمال لم يكن موافقًا على ضياع استقلال البلاد بعكس الخليفة-السلطان. إذ أنَّه ترأس منذ عام 1919 المقاومة في الأناضول التي قامت بها الكثير من القوى - الدينية منها والقومية.
رئيس للدولة الوطنية التركية الأولى
بدأت دول الخارج المندهشة تتساءل عما إذا كان هذا الجنرال السابق مصطفى كمال، والذي حكم عليه السلطان فيما بين بالإعدام، لا يسعى شخصيًا إلى منصب الخلافة. لم يكن هذا الانطباع تمامًا في غير محلِّه:
استطاع المنتصرون في عام 1923 بعد طرد الجيش اليوناني الغازي من منطقة غرب الأناضول إعلان قيام الدولة الوطنية التركية الأولى، التي بقي أتاتورك رئيسها منذ تأسيسها وحتَّى موته. تمّ التصديق في مؤتمر دولي عقد في لوزان على أهم هدف سعي أتاتورك لتحقيقه في سياسته الخارجية، أي إعادة استقلال الأتراك.
أصبح يجب على أتاتورك ورفاقه في الكفاح تكوين أمة متجانسة من قطاعات السكَّان المتنوِّعة. وفي ذلك كانت تصل نسبة المهاجرين إلى الأناضول - لاجئون ومهجَّرون مبعدون من بلاد القوقاس ومن منطقة البحر الأسود وجنوب أوروبا - ما بين أربعين وخمسين بالمائة من السكَّان.
تمَّ اتِّباع أسلوبي الإقناع والإكراه ("الترغيب والترهيب") في عملية-تكوين الأمة؛ هذه العملية التي كلِّلت في آخر المطاف بالنجاح وكانت ترفضها من دون شكّ أكبر قطاعات الأقلية الكردية.
إصلاحات حسب نموذج غربي
تمَّ في عام 1922 إبعاد آخر سلطان عثماني عن البلاد؛ وفي عام 1923 تمّ نقل العاصمة من إسطنبول إلى أنقرة وفي عام 1924 تمّ إلغاء الخلافة التي أصبحت عديمة الأهمية. إذن لقد بُدئ العمل في برنامج إصلاحات، كان يتطلَّب تطبيقه اتِّخاذ المزيد من الإجراءات الصارمة.
لقد استفرد حزب أتاتورك في حكم البلاد منذ عام 1925 من دون أحزاب معارضة. وبعد فترة وجيزة لم يعد يرد ذكر لصحافة حرَّة أو للحرية الأكاديمية. أصبح "حزب الشعب الجمهوري" الذي أسَّسه أتاتورك يندمج أكثر وأكثر في مؤسَّسات الدولة.
اتِّبعت في كلِّ الإصلاحات التي أجراها أتاتورك من دون استثناء نماذج غربية. لقد تمَّت ترجمة القانون المدني السويسري والقانون الجنائي الإيطالي ومن ثم الأخذ بهما بسرعة مذهلة.
استفاد من ذلك في الدرجة الأولى النساء اللواتي كنَّ مظلومات في القضاء الشرعي الإسلامي. لقد أُتيحت لهن المشاركة في الحياة السياسية من خلال منحهنَّ حق الانتخاب (في عام 1930 على مستوى المجالس البلدية وفي عام 1934 على مستوى المجلس الوطني). طالب أتاتورك على الأقل بشكل رمزي بمشاركة النساء في العديد من المجالات والمهن التي كانت حتَّى ذلك حكرًا على الرجال.
إذ لا يمكن للمرء تصوّر القانون المدني الذي تمَّ إقراره في عام 2001 من دون الثورة القانونية التي أحدثها أتاتورك.
الطربوش والعمامة
كذلك كان الإصلاح الذي أجراه أتاتورك عن طيب خاطر في اللغة والكتابة ذا أثر عميق. فقد ظهر النجاح في عملية محو الأمية لدى شرائح الشعب الواسعة بعد فترة قصيرة من استبدال الحروف العربية (في عام 1928) بالحروف اللاتينية.
لم يكن أتاتورك متعاطفًا مع كلِّ الأديان بما فيها الإسلام. إذ أمر في عام 1925 بإغلاق الزوايا والتكيات الصوفية التي كان يجتمع فيها الدراويش. كما كان مقتنعًا بأنَّ التردّد على المساجد لأداء الصلاة سوف يتضاءل عاجلاً أم آجلاً.
أثار في الغرب الإصلاح الذي عرف باسم "إصلاح الطربوش" الكثير من الاهتمام؛ أدَّى هذا الإصلاح الذي كان في الأصل عبارة عن قانون صدر بحقّ العاملين في الدولة إلى منع كلِّ أنواع أغطية الرأس التقليدية وقبل كلِّ شيء العمائم الخاصة بالرجال.
لم يكن خلع النقاب من ضمن هذه التدابير القانونية، بيد أنَّه اعتبر بمثابة أمر بديهي بالنسبة لأيّة مشاركة نسوية في الحياة العامة.
توجُّه ثقافي نحو الغرب
حتَّى وإن كان ليس من الممكن أن يُطلق اسم "الديموقراطية" على سياسة الإصلاحات الصارمة، التي اتَّبعها أتاتورك والتي كيثرًا ما توصف بأنَّها "دكتاتورية إصلاحية"، فإنَّ "النظام" الذي أقامه - الجمهورية كنظام حكم مع عناصر أساسية للفصل ما بين السلطات - قد أوجد الأسباب من أجل انتقال هادئ مدهش إلى نظام التعديدية الحزبية (في عام 1946).
ساعد توجُّه أتاتورك بشكل حازم نحو الثقافة الغربية في عملية انضمان بلاده إلى تحالفات غربية في عهد مَنْ حكموا تركيا من بعده. فمن الصعب تصوّر عضوية تركيا في تحالفات أوروبية من دون سياسة التوجُّه نحو الغرب، التي ليس لها مثيل والتي اتِّبعتها تركيا في العشرينيات والثلاثينيات.
بقلم كلاوس كرايزر
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2007
عمل كلاوس كرايزر حتَّى تقاعده مدرِّسًا جامعًا للغة التركية والتاريخ والثقافة التركيين في جامعة بامبيرغ الألمانية.