إرث احتلال الغرب للشرق...بذور حقد وانعدام ثقة
من المفهوم أنَّ الكثيرين من الناس يقفون في حيرة من أمرهم إزاء أعمال العنف والفوضى الحالية في منطقة الشرق الأوسط. وربَّما ينظرون إلى الصراع في سوريا ويتساءلون: كيف حدث ذلك؟
يكمن جزء من هذه المشكلة في كون وسائل الإعلام عادةً ما تركِّز بشكل سطحي فقط على الوضع وتُهمل في ذلك التركيز على الخلفية التاريخية المهمة للغاية - وخاصة حقبة الاستعمار، التي تم خلالها وضع أحجار الأساس لظهور الشرق الأوسط الحديث.
ومن أجل فهم الصراعات والأزمات الحالية في منطقة الشرق الأوسط، يجب علينا أن نعرف كيف تطوَّرت هذه المنطقة في نصف القرن من عام 1917 وحتى عام 1967 إلى شكلها الحالي.
لقد أثَّرت الحرب العالمية الأولى وتداعياتها بشكل مهم ومصيري في تشكيل منطقة الشرق الأوسط. حيث وقفت الدولة العثمانية -التي حكمت الشرق الأوسط أربعة قرون- إلى جانب الرايخ الألماني. وبعد هزيمة العثمانيين والألمان تقاسمت كلّ من بريطانيا وفرنسا المناطق العربية التي كانت تخضع للسيادة العثمانية. وتركت التسويات بعد نهاية الحرب العالمية إرثًا من انعدام الثقة العميق - وبذرت بذور العديد من الصراعات الحالية، بما فيها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ومشكلة لبنان وعدم وجود جنسية كردية لدى الأكراد.
العرب، الذين كانوا يحلمون بالاستقلال، باتوا يشعرون بالخيانة والغدر عندما أدركوا أنَّهم أصبحوا محكومين الآن من قبل الأوروبيين بعدما كانوا خاضعين لحكم العثمانيين الأتراك. "ومنذ ذلك الحين أصبح شبح اتِّفاقية السلام يطارد السياسة العربية"، مثلما كتب المؤرِّخ ألبرت حوراني.
الحصاد المر
لقد كانت للهيمنة الأوروبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عواقبُ وخيمة على المنطقة وعلاقاتها مع الغرب. أولاً: كان الحكم الاستعماري منذ البداية موضوع نزاع حاد.
فبعد عامين فقط من احتلال الجزائر من قبل الفرنسيين في عام 1830، قاد محاربٌ وعالمٌ صوفي شاب وجذَّاب اسمه الأمير عبد القادر ثورةً ضدَّ الفرنسيين، قُدِّر لها أن تستمر خمسة عشر عامًا. وقد تم قمع هذه الثورة وثورة أخرى في عام 1871 بوحشية كبيرة. وأدَّت المقاومة الجماعية لسلطة الفرنسيين إلى توحيد أكبر مجموعتين عرقيتين في البلاد، أي العرب والبربر. وقد كتب شاعر أمازيغي (بربري) مجهول حول المرارة التي تركها الفرنسيون بعد هذه الثورة:
في قُرانا بَذَرُوا بُذُورَ الحِقْدِ،
نَحفَظُهُ تحت الأرضِ، حيثُ يَظَلُّ،
المَحصولُ الوَفيرُ من حقلٍ مسلوبٍ.
وكان هذا الشعور بالاستياء سائدًا في الأمكان الأخرى. وباستثناء بعض الحالات القليلة واجه الحكم الاستعماري في جميع أنحاء المنطقة مقاومة - وصلت في حالات كثيرة حدّ العصيان والتمرُّد.
ففي العشرينيات تفاجأ الفرنسيون بالثورة السورية الكبرى، التي اندلعت في منطقة الدروز (جبل العرب) جنوبي دمشق وسرعان ما امتدت إلى جزء كبير من البلاد. وفي العراق ثار في عام 1920 الشيعة في الجنوب على حكم البريطانيين، وقد ردَّ المستعمرون البريطانيون باستخدام قوَّتهم الجوية ضدَّ هذه الثورة وغيرها من الثورات - سواء ضدَّ العشائر الشيعية في الجنوب أو ضدَّ الأكراد في الشمال. وفي فلسطين قامت الثورة العربية من عام 1936 وحتى عام 1939، لتزعزع رضا البريطانيين عن أنفسهم.
وفي الجزائر استمر عنف المستعمرين أطول فترة. وحتى يومنا هذا لا يزال عدد الأشخاص الذين قتلوا في الواقع هناك خلال حرب الاستقلال في الفترة من عام 1954 وحتى عام 1962 موضوع نقاش بين الخبراء، ولكن من الممكن أنَّ عددهم لا يقل عن نصف مليون جزائري.
ثانيًا، لقد تم تعريض أساس المجتمعات الشرق أوسطية للخطر من قبل الاستعمار. فقد كان الحكم العثماني -على الرغم من جميع نقاط ضعفه- لا يزال يمنح المنطقة على الأقل بعض التماسك الثقافي والسياسي، الذي لم تستعيده قطّ. وفي حين أنَّ مفهوم الدولة القومية كان بالنسبة للأهالي هناك جديدًا وغريبًا عليهم كليًا - على الأقل في البداية، كان يتم رسم الحدود الجديدة -تلك "الخطوط في الرمال" سيِّئة السمعة- من قبل مسؤولين بريطانيين وفرنسيين، من أجل حماية مصالحهم الاستعمارية. وهذه الحدود لم تراعِ في حالات كثيرة المعطيات الطبيعية. ونتيجة لذلك كانت عملية بناء الدولة والأمة محفوفة بصعوبات ومشكلات مستمرة.
وعلاوة على ذلك فإنَّ الدول الاستعمارية لم تفعل سوى القليل فقط من أجل تعليم الناس البسطاء، على الرغم من أنَّ هذه الدول كانت تؤكِّد دائمًا على "مهمتها الحضارية". وبدلاً من ذلك كانت تُعلِّم نخبة صغيرة متعاونة، ينحدر منها المعلِّمون وصغار الموظفين الذين يحتاجهم المستعمرون. على سبيل المثال عندما غادر البريطانيون مصر، كان سبعة وسبعون في المائة من سكَّانها أميين، وكان دخل الفرد السنوي نحو اثنين وأربعين جنيه، وكذلك كان متوسط العمر المتوقَّع للرجل المصري يبلغ ستة وثلاثين عامًا.
ثالثًا، وربَّما هذا هو العامل الأهم، فقد كان الحكم الاستعماري لا يمثِّل سوى جزء من خطة تدخُّل أكبر، تعود إلى عهد (السياسيَّين البريطانيَّين) بنيامين دزرائيلي ووليم غلادستون، عندما كانت القوى الأوروبية تُجْهِز على جثة الدولة العثمانية المتحللة، وتمتد بعد حقبة الاستعمار إلى التدخُّلات الحديثة - بما فيها خاصة غزو العراق واحتلاله في عام 2003.
وبصرف النظر عن أي شيء آخر اقترفه جورج دبليو بوش وتوني بلير، المسؤلان عن غزو العراق واحتلاله في عام 2003، يتَّضح على أية حال أنَّهما كانا يجهلان تاريخ الشرق الأوسط جهلاً مدهشًا. ويبدو أنَّهما سعيدان بجهلهما بحقيقة أنَّ التدخُّلات الغربية في الشرق الأوسط تسفر منذ أكثر من مائتي عام عن ردود فعل وطنية - وأنَّ الاحتلال الطويل الأمد يثير ثورات طويلة الأمد.
وحيثما يتم قمع الثورات، يتم أيضًا تخزين الحقد:
… تحت الأرضِ، حيثُ يَظَلُّ،
المَحصولُ الوَفيرُ من حقلٍ مسلوبٍ.
روجر هاردي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: أوبن ديموكراسي / موقع قنطرة 2016
روجر هاردي محلل لشؤون الشرق الأوسط لدى هيئة الإذاعة البريطانية، صدر مؤخرًا أحدث كتاب له تحت عنوان: The Poisoned Well: Empire and its Legacy in the Middle East، عن دار نشر هيرست في لندن، وهو من نشر مطبعة جامعة أكسفورد في الولايات المتَّحدة الأمريكية.