فروق اجتماعية وتسلسلات هرمية مجتمعية سعودية
الشخصية الرئيسية في رواية بدرية البشر القصيرة والمؤثِّرة هي امرأة اسمها "هند"، نشأت في محيط العسكر. وفي الوقت الذي تحاول فيه الكفاح من أجل نيلها استقلالها وحقِّها في تقرير مصيرها، تتعرَّض هند للتهديد من جميع الجهات من قِبَل العسكر.
ومن بين هؤلاء العسكر يوجد شخصان ينتميان للقوَّات المسلحة السعودية: والد هند الذي كان برتبة رقيب أوَّل، وزوجها منصور الذي يحمل رتبة ملازم. غير أنَّهما مجرَّد جنديَّين غير مهمَّين في جيش السيطرة الاجتماعية هذا، المكوَّن من الأقارب والزملاء وأفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحتى من المارة وعابري السبيل العاديين.
هذه الرواية، التي ترجمتها بمهارة إلى اللغة الألمانية المترجمة سانا ظاهر وصدرت في 128 صفحة - تصف بلغة مباشرة جدًا، ولكنها أيضًا عاطفية جدًا، الواقع الكئيب لحرب هند، وهي مع ذلك قصة تتخللها مرارًا وتكرارًا أوصاف الحياة اليومية بما فيها من التفاصيل والـ قيل والقال.
تبدأ الرواية وتنتهي عندما يتعيَّن على هند، وهي أمٌّ مطلقة من الرياض، أن تختار أخيرًا طريقها الخاص. وأثناء بحثها عن حياة جديدة، تتذكَّر هند قصصًا عائلية وحكايات شعبية، بالإضافة إلى الرومانسية والأحلام. وتبدأ القصص عندما تتحدَّث خادمة الأسرة حول والدة هند وحياتها الخاصة. وهذه الخادمة اسمها "نويِّر"، وهي عبدة سابقة تم اختطافها وبيعها لجد هند.
لقد تم إلغاء العبودية رسميًا في السعودية من قِبَل الملك فيصل في ستينيات القرن العشرين، غير أنَّ الفروق والتسلسلات الهرمية الاجتماعية الكبيرة تبقى حاضرة من دون تغيير في هذه الرواية. حيث تعيش الخادمة نويِّر مع الأسرة بدون أجر، وفي وقت لاحق تصبح ابنتها عموشة خادمة لهند. وعموشة تعتبر بمثابة الذاكرة غير المرئية للأسرة - فهي ترى وتتذكَّر كلَّ شيء، في حين أنَّها تظهر دائمًا وهي منقَّبة، وحتى أنَّ أطفال الأسرة لا يعرفون صورة وجهها .
تنتقل الرواية باستمرار بين الماضي والحاضر، وبين الواقع والرومانسية. القصة الأولى، التي أحبتها هند عندما كانت طفلة واكتشفتها في المدرسة، هي قصة "سندريلا" الخيالية. هذه القصة الخيالية تتناقض بشكل حادّ مع قصة سمعتها هند في بيت أهلها، اسمها "الفتاة ذات الجورب الأبيض".
في قصة "الفتاة ذات الجورب الأبيض" لا يتم إنقاذ البطلة من قبل أمير، كما أنَّها لا تعيش بسعادة حتى نهاية حياتها. بل يتم اغتصابها وقتلها. ولكن مع ذلك فإنَّ هذه الفتاة تعتبر بطلة، لأنَّها قامت بتدوين أسماء مغتصبيها على قصاصة من الورق وأخفتها في جوربها، من أجل معاقبة الجناة وحفظ شرفها.
تنشأ هند مع كلا الصيغتين؛ مع الحكايات الخرافية المكتوبة وكذلك مع القصص الخرافية الشعبية المتوارثة شفويًا. وتمتاز كلا القصَّتين بتحديد أدوار الجنسين بصورة صارمة، ولكن هند تشعر بأنَّها تنجذب أكثر إلى الحكايات الرومانسية، على الرغم من أنَّها غالبًا ما تجدها مضحكة.
يقع حدثٌ مؤثِّر للغاية في فترة مبكِّرة من حياة هند، وتحديدًا عندما تريد غناء أغنية رومانسية لأمِّها. وهذه الأغنية عبارة عن لحن سمعته في المدرسة. ومن خلال ذلك تأمل هند في أن تقيم علاقة حسنة مع أمِّها، التي يبدو أنَّها لا تهتم إلاَّ بأبنائها الذكور فقط.
ولكن والدة هند المُحبطة لا يوجد لديها وقتٌ للأغاني. تتذكَّر هند: "انتهت الأغنية التي لم تكن كما أردت لها تمامًا، فإبراهيم ظلَّ يبكي، ولم يهيئ لي اللحظة العاطفية التي رتبت لها، وظننت أنَّ أمِّي ستُحيطني بها بعد انتهاء الأغنية، فكيف ستغمرني أمِّي وتحضنني، وإبراهيم على خصري؟ هل أنزله قليلاً لتغمرني؟ أم أبقيه حتى أرى ما ستفعل أمِّي؟ (…) سحبت أمِّي الملعقة الكبيرة من جوف القدر ورفعتها في وجهي قائلة: ’طسي عني قبل أهبدك بهذه الملعقة على رأسك‘!"، (أي ابتعدي عني قبل أن أضربك بها على رأسك).
في هذه الرواية كثيرًا ما تسعى النساء من أجل التواصل فيما بينهن. الخادمة عموشة تريد جعل هند تفهم والدتها. ولذلك فهي تصف لهند كيف تم تزويج أمِّها وهي طفلة وتعرَّضت للاغتصاب من قِبَل والد هند، وكيف تعرَّضت الأمُّ للضرب عندما حاولت الهرب. ولكن مع ذلك فإنَّ هند تستمر في رؤية والدتها كمستبدة تريد وضع كلِّ شيء تحت سيطرتها.
هند لا تستطيع التعاطف أيضًا مع جُهَير، المنافقة التي تتظاهر بالتشدُّد - وهي زميلة لها في العمل وتطلق عليها هند اسم "الحاجة جُهَير" أثناء غيابها. جُهَير المتزمِّتة اعتادت على الوشاية بالآخرين ورصد تجاوز القواعد الاجتماعية والشرعية. ولذلك فقد تفاجأ الجميع عندما هربت فجأة من البلاد مع طبيب باكستاني. أمَّا حبيب هند، وليد، فيشعر بتعاطف مع جُهيَر، ولكنه لا يشعر بمثل هذا التعاطف مع شذى صديقة هند. تتساءل هند غاضبة: "لماذا تظنُّ اليوم أنَّ من حقِّها أن تستخدم حقوقًا، في حين «تلعن أبو» مَنْ يُفكِّر في نيل ربع الحقِّ الذي خطفته، الهروب، والسفر من دون إذن للخارج".
الرجال في هذه الرواية مُقيَّدون تمامًا مثل النساء من خلال الأدوار المفروضة على الجنسين. ولكن على الرغم من أنَّهم قساة وعنيفون، إلاَّ أنَّهم يستحقون الشفقة أكثر في هذه الرواية. على سبيل المثال شقيق هند إبراهيم - شخص يقتُل الآخرين من أجل جهاده، ولكنه يبدو مع ذلك شخصية سخيفة، من الصعب ألاَّ يشعر معه المرء بالشفقة. ووالد هند، وهو رقيب أوَّل متقاعد، يبدو أنَّه يريد حياة أكثر هدوءًا، بيد أنَّه لا يجد في نهاية المطاف أي مخرَج.
يتم توجيه أشدِّ الانتقادات في رواية بدرية البشر إلى الحط من قيمة النساء والتعامل معهن وكأنَّهن لا يزلن أطفالاً. فهند - امرأةٌ ناجحة تعمل كاتبة عمود وأخصائية اجتماعية في مستشفى - تعرف من زوجها منصور أنَّ النساء "ناقصات عقل". وفي المستشفى، الذي تعمل فيه هند، تصاب امرأة بنزيف في الرحم، وتكون في حالة حرجة تستدعي إجراء عملية لها. ومن أجل إجراء العملية لا بدَّ من الحصول على موافقة زوجها. فهذا هو النظام. وأخيرًا تُقدِم هند على توقيع الأوراق وتتحمَّل مسؤولية إجراء العملية لهذه السيِّدة.
وهند ليست الشخص الوحيد الذي يتحدى هذا النظام ويقلبه. فكثيرًا ما يُقدِم الشباب على تحديه وقلبه باسم الإنسانية ومحبة الآخر، مثلما يعارض أيضًا شقيق هند سجن شقيقته.
تبدو رواية "هند والعسكر" من النظرة الأولى رواية غير مستقرة وانفعالية شيئًا ما، وتظهر فيها مجموعة متنوِّعة من مختلف أساليب الكتابة. ولكن مع ذلك عند قراءتها والتمعُّن فيها أكثر، تنقل لنا هذه الرواية صورة حيوية عن المجتمع السعودي المعاصر، بما لديه من قيود اجتماعية وتسلسلات هرمية، بالإضافة إلى قصصه الخاصة ومصائره الشخصية.
مارسيا لينكس كويلي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017