موسيقى للآذان المفكرة...والقيم الإنسانية الكونية
"اذهب يا حبيبي. اذهب والتقي بهؤلاء الناس. فأنت الجيل الجديد"، هكذا تعلن أكاديمية بارنبويم-سعيد BSA في برلين عن معرضها الحالي "نغمة اليوتوبيا" حول تاريخ أوركسترا ديوان الغرب والشرق.
أقامت أكاديمية بارنبويم-سعيد هذا المعرض الذي يروي قصة تأسيس أوركسترا ديوان الغرب والشرق عام 1999 حتى افتتاح الأكاديمية في نهاية عام 2016. وفي الوقت نفسه افتتحت أكاديمية بارنبويم-سعيد الموسيقية في بداية شهر آذار/مارس 2017 قاعتها الجديد "بيير بيوليز" - من تصميم المهندس المعماري فرانك جيري - مع أسبوع حفلات موسيقية رائعة وحفلة موسيقية مدَّتها ثلاث ساعات ونصف الساعة.
في طابقين مبنيين فوق بعضهما وشكلها بيضاوي يوجد مكان لستمائة وثمانين مستمعًا داخل قاعة واسعة المساحة ومنيرة. ومن خلال الأشكال البيضاوية ذات القطع الناقص الثلاث المائلة قليلاً مقابل بعضها، تبقى هذه القاعة مفتوحة ومتاحة بشكل مثير للدهشة. وبفضل توزيع أماكن الجلوس بشكل مرن يجلس المستمعون على بعد بضعة أقدام فقط عن الموسيقيين. لقد كان المرء يريد دائمًا إيجاد قاعات موسيقية مرنة من أجل خلق التواصل المباشر بين الجمهور والموسيقيين، الأمر الذي تم تحقيقه في قاعة بيير بيوليز.
وفي المقابل تقع غرف بروفات الطلاب والعلاج الفيزيائي للموسيقيين الناشئين. في عام 2012 حصلت أوركسترا ديوان الغرب والشرق على هذا البناء بإيجار رمزي يبلغ تسعة وتسعين يورو لمدة تسعة وتسعين عامًا. وهذا المبنى الكلاسيكي الجديد، المُشيَّد في عام 1955، والذي بلغت تكاليف إعادة بنائه أربعة وثلاثين مليون يورو، لا يُنكَر استخدامه في الأصل كمخزن سابق لكواليس أوبرا الدولة "أونتر دين ليندِن". وكهدية منهما لأكاديمية بارنبويم-سعيد تخلى المهندس المعماري النجم فرانك جيري، وفنَّان الصوت ياسوهيسا تويوتا، المسؤول عن الصوتيات في قاعته الفيلهارمونية الصغيرة في هامبورغ، عن أتعابهما.
أكاديمية بارنبويم-سعيد صانعة المواهب
تعتبر أكاديمية بارنبويم-سعيد أكاديمية موسيقية خاصة ومعترفًا بها من الدولة، ويمكن التخرُّج منها بشهادة لجميع آلات الأوركسترا والبيانو وقيادة الأوركسترا والتلحين والتأليف الموسيقي. غير أنَّها لا تعرض دراسة الغناء. وهذه الأكاديمية تستقبل فقط المواهب الموسيقية غير العادية من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
سوف يبدأ هنا تسعون طالبًا دراستهم في الأعوام الأربعة المقبلة. حيث تقدِّم الأكاديمية إمكانية التخرُّج بدرجتين: درجة البكالوريوس في الموسيقى وكذلك في برنامج الدراسات العليا للفنَّانين، الذين يتابعون حياتهم المهنية الموسيقية artist diploma. ويحصل الطلاب على منحة دراسية للبكالوريوس لمدة أربعة أعوام.
تقوم وزارة الخارجية الألمانية بتمويل أكاديمية بارنبويم-سعيد الموسيقية بأربعة ملايين يورو سنويًا. وقد بدأ في الأكاديمية الآن طلبةُ السنة الأولى البالغ عددهم سبعة وثلاثين طالبًا من العالم العربي وإسرائيل وتركيا وإيران دراستهم الموسيقية. وهدف الأكاديمية هو تدريب موسيقيين مثاليين وكذلك مواطنين عالميين ناقدين. ولذلك يرتبط التعليم في الأكاديمية بدراسة عامة للعلوم الإنسانية في مادة التاريخ والفلسفة والأدب بإدارة الدكتور روني مان.
البرنامج الموسيقي في قاعة بيير بيوليز وكذلك التلحين الموسيقي العابر للحدود في أوركسترا ديوان الغرب والشرق، يدعوان الموسيقيين والجمهور إلى إعادة التفكير في النصوص المتبادلة. دانيال بارنبويم يهتم بشكل خاص بالمؤلفات الموسيقية الجديدة من القرنين العشرين والحادي والعشرين: ومن المقرَّر أن يتم تقديم عرضين أولين في السنة، خاصةً من قِبَل ملحنين ومؤلفين موسيقيين من الشرق الأوسط.
وفي برنامج الافتتاح تم بطبيعة الحال إدراج عملين للملحن الفرنسي بيير بيوليز (1925 - 2016)، الذي تحمل هذه القاعة الموسيقة الجديدة اسمه: العمل الأوَّل عمله الموسيقي "إنيتسيال" Initiale لسبع آلات نحاسية، والثاني عمله "سُور إنسيز" sur Incises لثلاثة بيانوهات وثلاث قيثارات وثلاثة عازفي إيقاع، بالإضافة إلى أعمال موسيقية لفرانز شوبرت وفولفغانغ أماديوس موزارت وألبان بيرغ.
وعازف الكلارنيت الألماني يورغ فيدمان، الذي يشغل في أكاديمية بارنبويم-سعيد منصب البروفيسور إدوارد سعيد، عزف فنتازيا للكلارنيت المنفرد، وهي عمل موسيقي خاصة من عام 1993. أمَّا الفلسطيني كريم سعيد، البالغ من العمر تسعة وعشرين عامًا، فقد عزف على البيانو عمل ألبان بيرغ كونشرتو الحجرة للبيانو والكمان مع ثلاثة عشر عازفاً على الآلات النحاسية من عام 1925.
"ما لا يمكنك تعلمه، هو يعرفه بالفعل"
العازف كريم سعيد المرتبط بصلة قرابة مع إدوارد سعيد، تم اكتشافه في سنِّ الحادية عشرة من قِبَل دانيال بارنبويم. عندما سمع بارنبويم هذا الصبي لأوَّل مرة في عام 1999، قال: "ما لا يمكنك تعلمه، هو يعرفه بالفعل". وبعد ذلك درس كريم سعيد البيانو والتأليف الموسيقي وقيادة الأوبرا في بريطانيا. والآن انتقل إلى برلين. ينتمي كريم سعيد إلى أنسمبل بيير بيوليز البرليني، الذي تأسَّس حديثًا والمكوَّن أساسًا من موسيقيين من أوركسترا ديوان الغرب والشرق وفرقة شتاتسكابيله برلين.
ذكر كريم سعيد أنَّ ثمة موسيقيين يعزفون هنا، من الصعب عليهم لوجستيًا أن يجتمعوا. ولكن بالنسبة له تأتي في المقام الأوَّل القدرات المهنية، التي تسمح له بهذا التعاون المشترك.
إنَّ التمكُّن من اللقاء في أي وقت وفي أي مكان كأفراد من دون بنية فوقية أيديولوجية أو نقاشات بالنيابة يمثِّل فكرة إنسانية، تقف خلف الاشتراك في العمل الموسيقي. وهنا يتعلـَّم المرء أنَّ عليه بشكل متبادل الإصغاء بدقة تامة وكذلك أن يكون قادرًا على إعطاء المجال للآخر من أجل الكلام.
العامل الصوتي في قاعة بيير بيوليز الجديدة يتيح ذلك بصورة خاصة. ففي برنامج الحفلات الموسيقية توجد من الآن وصاعدًا أعمالٌ موسيقية كلاسيكية وحديثة من أوروبا والعالم العربي. ومن هذه الأعمال في الموسم الأوَّل توجد أعمال لعازف العود المشهور عالميًا نصير شمة، ومجموعة عازفي مهرجان دمشق لموسيقى الحجرة والثلاثي حوار. وكذلك توجد لقاءات جديدة مثل اللقاء بين عازفي الكلارنيت الألماني يورغ فيدمان والسوري كنان العظمة.
الإنسانية باعتبارها خط الدفاع الأخير
وبارنبويم بالذات قال ذات مرة إنَّ برلين ليست المكان الصحيح لهذه الأكاديمية، بل إنَّ مكانها الصحيح في رام الله أو تل أبيب أو دمشق. وأيضًا في الشرق الأوسط يتم انتقاد هذا المقرّ. غير أنَّ بارنبويم يدافع عن هذا المشروع: برلين هي الموقع البديل الصحيح - للموسيقى وللطلاَّب.
وبالتزامن مع برنامج قاعة بيير بيوليز بدأ للتو في برلين العملُ لإيجاد مقرّ لمدرسة نصير شمه بيت العود للآلات الوترية العربية الكلاسيكية.
إدوارد سعيد، الذي كان يتمتَّع بسمع مطلق وقد تعلـَّم العزف الكلاسيكي على البيانو، كان يرى كيف تتيح الموسيقى للشباب -الذين فُرِضَت عليهم الحدود- المجال للوصول إلى القيم الأساسية العالمية. يقول إدوارد سعيد: "الإنسانية هي على وجه التحديد خطُّ الدفاع الأخير والوحيد الموجود لدينا من أجل الدفاع عن أنفسنا ضدَّ الأعمال الوحشية والمظالم غير الإنسانية، التي تُشوِّه تاريخنا الإنساني".
سونيا حجازي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017