شبه مذهل بين وسواس القرآن الخناس وشيطان فاوست
يمكننا أن نقول إن أغلب أدباء أوروبا في العصر المثالي الكلاسيكي لرائد الأدب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته (1749 -1832) لم ينفتحوا مثله على الحضارة العربية والفكر الاسلامي. كما أن الأحكام المسبقة قبل العهد الكلاسيكي تجاه العرب والإسلام كالعصور الوسطى كانت أكثر حدة من ذلك.
وقد طالب العديد من الناشطين الإيطاليين المعاصرين بحذف ملحمة "الكوميديا الإلهية" مثلا التي ألفها الإيطالي دانتي أليغييري المولود في عام 1265 في فلورنسا من المناهج الدراسية أو على الأقل التعاطي معها بحذر بحجة أنها "جارحة وتمييزية" ضد اليهودية والإسلام كعرضه لصورة الشيطان وهو يمضغ اليهود أو من خلال إساءته المباشرة لشخص النبي محمد ورسالته. سوف نعود إلى علاقة غوته بالإسلام والحضارتين العربية والإسلامية ببعض الاسهاب في ختام المقالة.
ملحمة غوته الدرامية "فاوست" على المسرح
عرض المسرح الرئيسي لمدينة بون الألمانية الواقعة على ضفاف نهر الراين في هذا الموسم مجددا ملحمة غوته الدرامية المسماة الجزء الأول من فاوست. فون غوته ليس فقط من عمالقة الأدب الألماني بل بوسعنا أن نقول إنه أعظم أدباء وشعراء ألمانيا بحيث يحتل ذات المرتبة العليا كحال دانتي الإيطالي وشكسبير الإنجليزي وموليير الفرنسي.
ولد غوته في مدينة فرنكفورت عام 1749 ابنا لنبيل تخصص كحال الكثيرين من أفراد عائلته وعائلة زوجته بالقانون والمحاماة. لكن غوته عشق -على عكس التراث العائلي منذ سنين طفولته- الأدب، ولا سيما الشعر، أكثر من القانون. وقرأ في مكتبة والده في سن مبكرة الكثير من الأعمال الأدبية والمسرحية كما بدأ يؤلف المسرحيات النابعة من قراءاته العديدة وخصب تخيلاته الشابة.
رغم ميله الأدبي تجاوب غوته مع رغبة والديه بدراسة القانون ونجح في ذلك أكاديميا وعلميا وعمل في مدينة لايبتسيغ بضع سنوات محاميا، إلا أن جل اهتمامه انصب على قراءة الأدب وكتابة الملاحم الشعرية. ولبى سريعا طلب دوق منطقة عاصمتها مدينة فايمر ليتولى هناك ابتداء من عام 1775 منصب وزير فيها حيث اعتنى بالأدب والعلوم الطبيعية أكثر من مجريات الحياة السياسية والبيروقراطية.
وكما جرت العادة لدى كبار الأدباء والشعراء وفناني النحت والرسم قضى غوته في إيطاليا أربع سنوات من عمره ألف أثناءها عددا كبيرا من الأعمال الشعرية والملاحم المسرحية تحت تأثير الطبيعة الخلابة والآثار الأبدية لهذا البلد الذي ألهم الكثيرين من المفكرين والفلاسفة والشعراء الأوروبيين. توفي غوته في مدينة فايمر عام 1832.
انطلقت الثورة الفرنسية أثناء إقامة غوته في فايمر التي استغرقت قرابة 40 عاما. وكان موقف غوته من الثورة الفرنسية مزدوجا فقد دان بحكم تأثره بأفكار عصر التنوير في أوروبا بالأفكار الجديدة التي طرحها روسو ومونتيسكيو على سبيل المثال. لكنه تحفظ على النبرة الثورية بحكم كونه من الطبقة الأرستقراطية وفي خدمة دوق لم تختمر لديه القناعة بجدوى أو شرعية الديمقراطية الشعبية.
والمعروف أن غوته عاصر وصادق عبقري الموسيقى الكلاسيكية لودفيغ فان بيتهوفن الذي كان موقفه من تلك الثورة مزدوجا أيضا فقد ولع بالتيار الأممي التقدمي الذي انطلقت منه لكنه شعر من بعد بالخيبة إزاء النزعة القومية والتوسعية لفرنسا في عهد نابليون تجاه دول عدة من بينها ألمانيا المجزئة الضعيفة.
دكتور فاوست...ثمن طموح زائد باع لأجله فاوست نفسه للشيطان
تدور ملحمة فاوست حول أكاديمي رفيع المعرفة والمركز المجتمعي (دكتور فاوست)، علته تكمن في كونه يطمح دوما للوصول إلى المزيد من المعرفة والعلوم لكن الإحباط يهيمن على فكره وحياته لعجزه عن بلوغ درجة الكمال المطلق في المعرفة مما جعله غير قادر على التمتع بالحياة الدنيوية. لهذا فقد أبرم فاوست عقدا وخيم العواقب مع الشيطان (مفيستو) للخروج من المأزق الذي اجتازه وكان الثمن غاليا إذ تعين عليه أن يبيع نفسه للشيطان.
كان مبتغى فاوست من العقد نهل المعرفة المطلقة والوصول إلى أقصى درجات الإدراك العلمي بالمفهومين النظري والتطبيقي لكن الشيطان حقق له هذا الهدف دون أن يسبغ على معرفته المطلقة هذه المنال الأكبر وهو دوامها الأبدي.
تلعب الفتاة الصغيرة غريتشين دورا مشؤوما في هذا العقد الشيطاني حيث يجعل الشيطان مفيستو يغرم بها، فتنشأ بينهما علاقة حميمة تسفر عن حبل الفتاة غير المتزوجة مما أجبرها على إجهاض الجنين وجعلها تتماثل أمام القضاء بتهمة القتل. أما فاوست فلم يجد عندئذ مفرا إلا بالهروب برفقة الشيطان دون أن يحقق أهدافه المطلقة المثلى. ملحمة فاوست جاءت تعبيرا عقلانيا وجماليا في نفس الوقت عن التطور الذي وصل إليه الفكر المدني مرتبطا بتطور العلوم الحديثة الرافضة للخزعبلات والخرافات التي اتسمت بها الحياة الأوروبية منذ العصور الوسطى.
الملفت للأنظار أن مسرح بون الرئيسي عج هذه المرة بالشابات والشباب وهو أمر لم يعد اعتياديا بالنسبة للفعاليات الثقافية والفنية كالمسارح والمتاحف ودور الأوبرا في ألمانيا وسائر الدول الأوروبية الأخرى. أما أسباب توافد الشباب فلكون معظمهم من التلاميذ أو من طلاب المرحلة التمهيدية في الجامعات، حيث يعتبر الإلمام بالأعمال الأدبية لغوته وقرينه شيلر أحد مفاتيح النجاح في الدراسات الإنسانية في ألمانيا.
وقد استعدت المخرجة الموهوبة أليس بديبيرغ لتوافد الشباب فأعطت المسرحية من حيث الإخراج المسرحي والديكور وتوزيع الأدوار طابعا عصريا لا يمت بصلة حقيقية، لا لعهد غوته الكلاسيكي ولا لطبيعة الحياة في القرن الخامس عشر الذي دارت ملحمة فاوست حوله. فكثرت مشاهد التعري بين الرجال والنساء كما اختلطت لغة غوتة الأدبية المنمقة بمقاطع لغوية عصرية مبسطة.
ذكرنا بأن غوته انفتح على الدين الإسلامي والأدبين العربي والفارسي وتعمق في دراستهما. لكن هل يسمح لنا ذلك بالقول إن ذلك دفعه إلى اعتناق الإسلام؟ لاشك أن الكاتب العربي موسى الكيلاني قد بالغ في نظريته القائلة إن غوته الذي عشق الأدب العربي والفارسي واعتنى بدراسة القرآن والتراث الديني والأدبي للعرب قد اعتنق الإسلام في نهاية عمره (جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 17 أبريل / نيسان 2012).
استند الكيلاني هنا على مقولة السكرتير الخاص لغوته أكيرمان الذي رافقه طيلة عمره وأشار في مذكراته إلى مجموعة القصائد (ديوان الشرق والغرب) الذي جاء فيه بأن الاسلام إذا كان يعني التسليم بإرادة الله فإذن هو كذلك أي غوته يدين بالإسلام.
كما أشار أكيرمان بأن غوته ولع بقراءة القرآن وتعمق في أبواب تفسيره مما كاد أن يدفعه لتعلم اللغة العربية إلا أن ضيق وقته لم يسمح له بذلك. كما رأى الكيلاني تقاربا مثيرا للدهشة بين وصف القرآن لإبليس بالوسواس الخناس وبين شخص الشيطان في ملحمة غوته المسماة فاوست، حيث سمى الشيطان مفيستو فيلوس أي المفسد المحب في آن واحد.
غوته اهتم كثيرا بدراسة الإسلام والتراث الشعري العربي والجاهلي
كاتب عربي آخر هو إبراهيم العجلوني يتبنى ذات النظرية. أما في واقع الأمر فلم يُسلِم غوته بالمفهوم الواقعي لكنه اهتم كثيرا بدراسة الإسلام. ومما لا شك فيه أنه عشق اللغة العربية أكثر من اهتمامه بالأديان سواء بالمسيحية أو الإسلام، حيث أنه لم يكن متدينا في الأصل بل من المنتمين إلى أفكار عصر التنوير الذي اتسم بالعلمانية المبكرة.
وقد انصب اهتمامه الأكبر باللغة العربية وعراقة التراث الشعري لدى العرب فولع كثيرا بالملاحم الشعرية التي اشتهر بها العرب لا سيما فيما يسمى بعصر الجاهلية الذي سبق ظهور الإسلام في الجزيرة العربية.
عارف حجاج
حقوق النشر: موقع قنطرة 2018