إحياء الحوار الفني - حافظ وغوته توأمان والشرق والغرب لا ينفصلان
أمضى طالب التلحين غويليم بالومار أربعة أشهر في العمل ليلًا ونهارًا على قطعته الموسيقية. أمَّا نتيجة عمله هذا فمدّتها ثماني دقائق - تلحين قصيدة "من أين أخذت هذا؟" للشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته. هذه القصيدة جزء من مجموعته الشعرية الشهيرة "الديوان الشرقي للمؤلف الغربي". يصف غوته فيها مسارَ الحياة الأبدي من خلال "البعد غير المحدود، في محيط النجوم، التي فتنته، وجعلته كأنَّه وُلِدَ من جديد".
يقول غويليم بالومار البالغ من العمر اثنين وعشرين عامًا: "هذا يعني بالنسبة لي أنَّ المرء لكي يجد نفسه لا يبقى في منطقة راحته الخاصة، بل يغامر أيضًا في الخروج".
يلاحظ غويليم بالومار في حبِّ ما هو سرِّي ومجهول أوجه تشابه بين غوته وحافظ، الشاعر الفارسي الشهير من القرن الرابع عشر. إذ إنَّ قراءة قصائد حفاظ هي التي دفعت غوته إلى تأليف مجموعته الشعرية "الديوان" بين عامي 1814 و1819. وقراءة قصائد حافظ أثارت إعجاب الشاعر غوته ابن مدينة فايمار لدرجة أنَّه وصف الشاعر الفارسي حافظ بـ "توأمه الروحي". وبحسب غوته، فإنَّ الغرب والشرق وجهان لعملة واحدة: "الشرق والغرب، لم يعد من الممكن الفصل بينهما".
تقليد غوته
بعد مائتي عام يزداد في ألمانيا صوت الدعوات المطالبة بالانعزال عن الشرق و"إنقاذ الغرب". يعود الفضل في تكريس المُلحِّن الشاب غويليم بالومار نفسه الآن للعلاقة بين غوته وحافظ إلى مهرجان "الديوان الجديد"، الذي أُقيم في الفترة من الثامن عشر إلى العشرين من تشرين الثاني/نوفمبر 2019 في أكاديمية بارنبويم-سعيد في برلين. كان الهدف من سلسلة الفعاليَّات هذه، التي شملت معرضًا وحفلًا موسيقيًا وحلقات نقاش، هو إعادة إحياء فكرة غوته حول الحوار الفنِّي بين الشرق والغرب.
أكاديمية بارنبويم-سعيد، المسماة على اسم عازف البيانو الإسرائيلي الشهير دانيال بارنبويم والناقد الأدبي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، ترمز بنفسها لتقليد عمل غوته. قبل عشرين عامًا، أسَّس دانيال بارنبويم وإدوارد سعيد أوركسترا الديوان الغربي الشرقي - وهي مبادرة سلام فنِّية يعزف فيها موسيقيون إسرائيليون وفلسطينيون شباب.
يتم منذ عام 2016 تدريب موسيقيين شباب في هذه الأكاديمية البرلينية. وغويليم بالومار واحد منهم. تم تقديم العرض الأوَّل لقطعته الموسيقية في ختام المهرجان، حيث تم عزفها من قِبَل عضوين شابين من فرقة أوركسترا الديوان، عازف الباريتون ودانيال بارنبويم البالغ من العمر سبعة وسبعين عامًا. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم عزف موسيقى ليوهانس برامز وروبرت شومان.
وخلال المهرجان صدرت أيضًا النسخة الألمانية من كتاب "ديوان جديد". كتب في هذا الكتاب اثنا عشر شاعرًا من الغرب والشرق قصائدَ جديدةً، كلّ منهم حول موضوع من مواضيع ديوان غوته. من بينهم أسماء معروفة مثل الشاعر السوري أدونيس وكذلك دورْس غرونباين من ألمانيا.
المصالحة من خلال الشعر - تطلُّب كبير جدًا؟
وكذلك دُعِيَتْ إيمان مرسال من أجل كتابة قصيدة. هذه الشاعرة المصرية البالغة من العمر ثلاثة وخمسين عامًا، والتي تعيش وتُدَرِّس في كندا، أعادت من أجل هذه المناسبة قراءة "ديوان" غوته من جديد، ولكنها هذه المرة لم تتشجَّع كثيرًا لفكرة الحوار الفنِّي، على العكس مما كانت عليه إبَّان قراءاتها الأولى لغوته في فترة شبابها.
وفي هذا الصدد تقول إيمان مرسال: "كنت منذهلة من تعقيد العلاقة بين الغرب والشرق وأشكُّ فيما إن كان الشعر يمكن أن يساهم في ذلك. الشعر بالنسبة لي شخصيٌ جدًا ومُتَجَذِّر بعمق. ولكنني لم أتقبَّل فكرة الحوار من خلال كتاب". وبحسب رأيها ليس من مهمة الفنَّان تمثيل الأفكار السياسية. ولهذا السبب فقد فضَّلتْ أن تكتب في هذا الكتاب قصيدةً عن الحبِّ.
يبدو شكُّ إيمان مرسال مفهومًا: فحتى عمل غوته لم يصبح شعبيًا بتاتًا. وهكذا يلاحظ الباحث الألماني المختص في العلوم الإسلامية شتيفان فايدنَر في كتابه الصادر تحت عنوان "ألف كتاب وكتاب - آداب الشرق" أنَّ: غوته "تحوَّل مع ديوانه إلى راعٍ لنوع من نشاط المصالحة بين الغرب والشرق". ويضيف أنَّ ديوان غوته كثيرًا ما يتم ذكره، ولكن مع ذلك نادرًا ما تتم قراءته.
يبدو أنَّ "الديوان الجديد" موجَّه بمطلبه الشعري أيضًا لجمهور المهتمِّين بالأدب. فقد كان الحضور في مبنى أكاديمية بارنبويم-سعيد في وسط برلين - الممتلئ نسبيًا بطلّاب الأكاديمية - من جمهور الطبقة المتوسطة المثقَّفة بشكل خاص. وضمن هذا السياق عَلَّق عليٌ، وهو زائرٌ عمره تسعة وعشرون عامًا: "أنا أعيش في نويكولن [منطقة في برلين بنسبة مرتفعة من السكَّان المهاجرين] ولا أعرف كيف يمكن أن تصل هذه الفعالية إلى جيراني".
في المقابل، ترى إيمان مرسال قيمة المهرجان الإضافية في لقاء الشعراء الذين لن يلتقوا بخلاف ذلك. وتقول: "من خلال قراءة القصائد والتعرُّف شخصيًا على الآخرين، يمكنني التعامل مع هذا الموضوع المثير للجدل، والمصالحة والاسترخاء قليلًا". وتضيف: "يجب علينا تقدير هذه الفرص واستغلالها، وإلَّا فإنَّنا لا نستطيع حتى التظاهر بأنَّ الشرق والغرب يمكن الجمع بينهما".
حديث على نفس المستوى
يقول شتيفان فايدنَر، وهو أحد المترجمين في "الديوان الجديد"، إنَّ الفرق الأكبر عن زمن غوته يكمن بالذات في إمكانية التبادل المباشر. وذلك لأنَّ غوته نفسه لم يشهد ثقافة إسلامية حية. قصائد حافظ كان عمرها أكثر من أربعمائة عام عندما كتب غوته رَدَّه عليها، مثلما يقول شتيفان فايدنَر: "لقد كان ذلك حوارًا خياليًا مع رجل ميِّت كان مصدر إلهام غوته، ولكن لم يرجع منه أي صدى".
ومن ناحية أخرى فقد كان الشرق منذ فترة طويلة بالنسبة للكثير من الفنَّانين الأوروبيين مجرَّد موضوع ينظرون إليه في ضوء تفوُّقهم المفترض. وهذه "المسألة الشرقية" مهَّدت الطريق للاستعمار. حتى اليوم، عندما تذهب جوائز نوبل للآداب إلى الكتَّاب الغربيين بالدرجة الأولى، فيجب التشكيك في مدى استعداد الأدب الغربي للنظر خارج حدوده.
"يجب علينا اليوم أن نحافظ على التواصل مع الثقافة الإسلامية الحية وأن نأخذها على محمل الجد كشريك في الحوار"، مثلما يُحَذِّر شتيفان فايدنَر. ويضيف أنَّ المطلوب على سبيل المثال هو: الاستماع والترجمة بأكبر قدر من الأمانة والدخول في حوار. وشتيفان فايدنَر متأكِّد من أنَّنا "إذا فعلنا ذلك بنفس الاهتمام الذي كان لدى غوته في عصره، فعندئذ سنفعل ذلك بالشكل الصحيح". الأدب العالمي الجديد - بحسب شتيفان فايدنَر - يتم إنتاجه الآن من قِبَل الشعراء، الذين يغامرون خلف الحدود ويبحثون عن إجابات على أسئلة لا تقتصر فقط على منطقتهم.
مصير مشترك
يُظهِر معرض مؤرِّخة الفنِّ والفنَّانة المصرية اللبنانية بهية شهاب أنَّ هذا المشروع المشترك بين الثقافات يجب ألَّا يقتصر على الأدب وحده. ترسم بهية شهاب على جدران الشوارع في جميع أنحاء العالم اقتباسات من قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش. وتريد التأكيد بكلماته على المصير الإنساني المشترك - مثلما فعلت في جزيرة كيفالونيا اليونانية، حيث لفتت الانتباه إلى مأساة اللاجئين الموتى. فقد نقلت كلمات محمود درويش: "مَنْ لا أرضَ له لا بَحْرَ له"، في جدارية رسمتها بالخطّ العربي على شكل سُفُنٍ غارقة.
طالب التلحين غويليم بالومار ينظر إلى ذلك بشكل مشابه. ويقول إنَّ الثقافات والأديان في جوهرها، مثل المسيحية والإسلام، متشابهة جدًا: "الفنّ موجود للتعبير رمزيًا عن هذا التشابه". وهو شخصيًا أصله من إسبانيا، حيث كان اليهود والمسيحيون والمسلمون يعيشون بسلام جنبًا إلى جنب لفترة طويلة، وحيث كان المتصوِّفون اليهود يكتبون باللغة العربية، مثلما يقول غويليم بالومار: "أعتقد أنَّ الفنّ أكبر من الأنانية التي تفصلنا".
عندما قامت عازفةُ التشيلو أستريغ سيرانوسيان وعازفُ البوق بن غولدشايدَر من أوركسترا الديوان الغربي الشرقي، مع عازف الباريتون ميشائيل فوله ودانيال بارنبويم على البيانو، بأداء مقطوعة غويليم بالومار الموسيقية الغامضة والحرّة، التي يرتفع صوتها ببطء، في الأمسية الأخيرة من المهرجان، كان يبدو أنَّ هذه المهمة قد تَحَقَّقت على الأقل خلال هذه الثَّماني دقائق.
غجيغوج شيمانوفسكي
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: دويتشه فيله / موقع قنطرة 2019