في ذكرى إدوارد سعيد....المنفيّ بين الثقافات
ليست مجرّد صدفَةٍ أن يكون كتاب المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد الأول الصادر عام 1966 "جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، ذلك أنّ خطوطاً أساسيّة مشتركة تجمع بين شخصيّته وتجربته وبين كونراد. فالأخير بولوني الأصل إنكليزي الجنسيّة والإقامة، دفَعَتْهُ تلك الازدواجية في تكوين الشخصيّة إلى الشعور بعدم الرضا لفقدان اللغة الأم والوطن في المكان الجديد (بريطانيا)، حيث ظلّ يُعامَل معاملة الغريب، ويعيّره بعض منتقدي كتاباته الإنكليز بخلفيته البولونيّة تلك.
وبعد أكثر من ثلاثة عقود، سيعود إدوارد سعيد مجدّداً إلى كونراد في إحدى مقالات كتابه الهامّ "تأمّلات حول المنفى"، ليضع نفسه في مقارنة معه يخلص منها إلى تشابه حياتيهما، مع فارق أنّ منفى سعيد أشدّ وطأة من منفى كونراد الذي انتقل من بلد أوروبّي إلى بلد أوروبيّ آخر، فيما انتقل سعيد من القدس إلى مصر وثمّ إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
إدوارد سعيد نُفي خارج ثقافته مرّاتٍ ثلاث على الأقلّ
لكنّ ما لم يقله سعيد، والسببُ الأهمّ لتفوّقِ قسوَةِ منفاه على منفى كونراد، أنّه نُفي خارج ثقافته مرّاتٍ ثلاث على الأقلّ، الأولى في كونه كأي فلسطينيّ مطرودٍ من أرضه موسوم بصفة (لاجئ) أينما حلّ، وثانياً ليس من السهل أن تكون عربيّ الأصل والثقافة في غربٍ تسيطر عليه مجموعاتٌ تعادي العربَ وثقافتهم، وأخيراً هو منفيٌّ إلى درجة ما من قبل أبناء جلدته أنفسهم لكثرة ما غرّد خارج السرب، فصار منفاه مركّباً ومتعدّداً.
وقد تحدّث عن وضعيته كمنفيّ بالمعنيين السياسي والثقافي في كتابه "ما بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية" الصادر عام 1986، ذلك أنّه إضافة إلى آلام المنفى بمعناه الجغرافي والمكاني لم يَسْلَمْ إدوارد سعيد مِنَ الاتّهامات والتخوين حيناً ومِنَ القراءات الخاطئة لفكره وكتاباته حيناً آخر، سواء من قبل غربيين في أوروبّا والولايات المتّحدة الأمريكية أو من عرب وفلسطينيين.
فسعيد، خلافاً للكثير من المثقّفين العرب، دعا إلى الإقرار بما لحق اليهود من اضطهاد في أوروبّا والغرب، وخصوصاً عدم إنكار المحرقة النّازيّة (الهولوكوست)، ببساطة لأنّ العرب عموماً والفلسطينيين بشكل خاص ليسوا مسؤولين عن تلك الجرائم ليتحمّلوا نتائجها، فلماذا إنكار حصولها؟!
وبرأيه أنّ الأولى بنا كعرب أن نؤكّد على وقوعها وأن نحمّل الغرب مسؤولياته الأخلاقيّة والتاريخيّة تجاهها، لا أن يحلّ مشكلته مع اليهود على حساب أرض فلسطين والحقوق العربيّة. وهُوجِمَ بشدّة لذلك، واعتبره البعض "ينطلق في وجهات نظره حيال القضايا العربية، وبخاصّة قضيّة فلسطين، من مواقف يتبنّاها عدد من مثقفي أوروبا".
ثم إنّ منتقدي سعيد من العرب المتحمّسين يجهلون أو يتجاهلون، أنه يخاطب الذهنيّة الغربية مستخدماً لغتها ومفاهيمها من أجل تغيير مواقفها المتحيّزة، مما يتطلّب استخدام لغة عقلانيّة موضوعيّة بعيدة عن الشعارات الجوفاء.
وبصفته مواطناً أمريكياً وقف بشدّة ضدّ سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة تجاه القضايا العربية، خصوصاً إدارة جورج بوش الابن، وحربها على العراق. ومما قاله في هذا السياق: "يبدو أنّ قادتنا [يقصد الإدارة الأمريكية] وخَدَمُهُم المثقفون عاجزين عن فهم أنّ التاريخ ليس لوحاً أسود يمكن أن نمحو ما كُتب فوقه، كي نستطيع (نحن) أن نكتب عليه مستقبلنا ونفرض نمط حياتنا على الشعوب الدنيا. لولا هذا الانطباع الذي رُسِّخَ بعناية ومفاده أنّ هذه الأقوام البعيدة ليست مثلنا ولا تقبل قيمنا، وهي الشعارات التي تشكّل العقيدة الاستشراقية لما كان لهذه الحرب أن تُشنّ".
أما نقده الاستشراق فهو المحطّة الأساسيّة في مشروعه الفكري، ويعدّ كتابه "الاستشراق" الصادر عام 1978 فتحاً هامّاً في دراسة الظاهرة ونقدها وتعريتها، حيث رأى أنّ معظم ما قدّمته دراسات المستشرقين ليس صورة الشرق حقيقةً وإنّما الكيفيّة التي يريدون هم أن يروا الشرق من خلالها، وهي غالباً ماتنطلق من وجهات نظر مسبقة تستند إلى مصالح الدول الاستعمارية التي ينحدرون منها، ويتبنون بالتالي المشروع الثقافي الإمبريالي.
إدوارد سعيد: الإنسانويّة…السورُ الأخير في وجه البربرية
دوارد سعيد قال عن كتابه: "أردت في الاستشراق أن أعتمد على النقد الإنسانوي لتوسيع مجالات النضال الممكنة، والاستعاضة عن فورات الغضب الجامح التي تأسرنا بفكر وتحليل أكثر عمقاً".
وفيه أوضح أنّ بين المستشرقين من "يأتي إلى بلدان الشرق محمّلاً بانحيازين مسبقَيْن: الأوّل ضدّ ثقافة أهل البلد، والثاني ضدّ تحرّر البلد ذاته من الاستعمار الغربي! المصيبة التالية أنه يتقصد التعامي التامّ عن أحداث كبرى عصفت بالبلدان التي يزورها".
وبموضوعيّته وانفتاحه على النقد نشر سعيد كتابه "تعقيبات على الاستشراق" عام 1996، وفيه ناقش بعض الآراء التي انتقدت كتاب (الاستشراق) وأعاد توضيح بعض مسائله، واعترف ببعض الأخطاء التي تضمنّها كتابه.
تبقى الإشارة إلى مقاله الأخير "الإنسانويّة، السور الأخير في وجه البربريّة"، الذي نشرته مجلّة "لوموند دبلوماتيك" الفرنسيّة في أيلول 2003 أي قبيل رحيله بأيام (توفي في 25 أيلول 2003 بعد صراع طويل مع السرطان)، وفيه يقول: "أسميت ما حاولت القيام به (الإنسانوية) وهي الكلمة التي ما زلت مصرّاً على استخدامها رغم رفضها بازدراء من قبل نقّاد ما بعد الحداثة السفسطائيين. إنّ الإنسانويّة تغتذي من المبادرة الفردية، ومن الحدس الشخصي وليس من الأفكار المتلقّاة، ومن احترام السلطة. الإنسانوية هي متراسنا الوحيد إن لم أقل الأخير، في مواجهة السياسات اللا إنسانية التي تمسخ تاريخ البشريّة".
طارق عزيزة
حقوق النشر: قنطرة 2019
طارق عزيزة كاتب سوري من مواليد مدينة اللاذقية 1982، مجاز في الحقوق من جامعة دمشق – 2006. عملَ أستاذاً ومحاضراً في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى ببيروت (IFPO)، وباحثاً في مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية. له العديد من المؤلفات، منها: "جبهة النصرة لأهل الشام" 2013، و"العلمانية" 2014، وعشرات المقالات والدراسات المنشورة في مجلات وصحف ومواقع إلكترونية عربية وأجنبية.