انتخابات اسطنبول - هل يصبح "ابن الإمام" رجل تركيا القوي بدل إردوغان؟
ترتفع على أنغام موسيقى البوب التركية من مكبِّرات الصوت المتحرِّكة عبارة: "كل شيء سيصبح جيِّدًا". تَعْبُر السيارة بمكبِّرات الصوت ثم يتلاشى من جديد صوت الأغنية الإيقاعية بسرعة مثلما ارتفع. لا يزال بوسعنا أن نسمع بالذات مقطعًا يتكرَّر فيه اسم "إمام أوغلو" (الذي يعني حرفيًا "ابن الإمام")، وهو المرشَّح لمنصب رئيس بلدية اسطنبول عن حزب المعارضة التركي، حزب الشعب الجمهوري (CHP).
ضجيج الخلفية هذا كان شائعًا في رمضان هذا العام 2019، حيث اعتاد أهالي اسطنبول على أصوات مرتفعة باستمرار تصدح بأغاني الحملة الانتخابية. تحاول المعسكرات السياسية في كلِّ انتخابات، مثلما فعلت آخر مرة في الانتخابات الرئاسية عام 2018، أن تتفوَّق على بعضها بالأغاني الأكثر جاذبية. وقد كان المسيطر دائمًا في هذه المحاولات حزبُ العدالة والتنمية الحاكم، بنشيد إردوغان المأخوذ من أغنية حربية من آسيا الوسطى. ولكن في الأشهر الأخيرة، كانت تُسمع في اسطنبول فقط الموسيقى الراقصة الخاصة بأكرم إمام أوغلو عضو حزب الشعب الجمهوري.
لو كانت الأمور قد سارت مثلما يشتهي حزب الشعب الجمهوري، لما كان لصوت هذه الأغنية أن يرتفع من جديد. فما الذي حدث؟ في الحادي والثلاثين من شهر آذار/مارس (2019) شهدت تركيا انتخابات بلدية. في العديد من المحافظات التركية، وخاصة في منطقة وسط وشرق الأناضول، خرج مرشَّحو الحزب الحاكم منتصرين. بينما خرج في المناطق الساحلية - مثلما كان متوقَّعًا - حزبُ الشعب الجمهوري منتصرًا. ولأوَّل مرة ظهرت في ليلة الانتخابات وبعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا أيضًا المدن الثلاث الأكبر في تركيا، أي إزمير وأنقرة واسطنبول في يدّ المعارضة التركية تقريبًا.
تغيير سياسي؟
وقد أعلن البعض بعد إعلان النتائج الأوَّلية للانتخابات عن تغيير سياسي - غير أنَّ الكثيرين يرون في نتائج الاقتراع في المدن الكبرى الثلاث تحديدًا لمصير تركيا. وعلى الرغم من الطعن السريع في النتائج من قِبَل حزب العدالة والتنمية، فقد تم الإعلان رسميًا في منتصف شهر نيسان/أبريل (2019) عن فوز أكرم إمام أوغلو في انتخابات بلدية اسطنبول. وتم تقييم انتصار المرشَّح المعارض والإعلان عنه من قِبَل اللجنة الانتخابية على الرغم من المقاومة الشديدة من جانب الحكَّام الحاليين كدليل على أنَّ وضع الديمقراطية التركية قد لا يكون سيئًا إلى هذا الحدّ.
ولكن كان من الواضح أيضًا أنَّ انتصاره في الانتخابات كان بفارق ضئيل للغاية: فقد تفوَّق إمام أوغلو بحسب الأرقام الرسمية فقط بـ1329 صوتًا، وهذا فارق يكاد لا يُذْكَر في مدينة يبلغ عدد سكَّانها نحو خمسة عشر مليون نسمة. ومن جانبهما واصل إردوغان وبن علي يلدريم، رئيس وزراء تركيا السابق والمرشَّح لمنصب عمدة اسطنبول عن حزب العدالة والتنمية، الطعن في نتائج الانتخابات. وافترض المعنيون داخل حزبهما حدوث مخالفات - وانخفضت بالفعل مرة أخرى وبشكل ملحوظ بعد إعادة فرز الأصوات في بعض من أحياء اسطنبول نسبةُ الأصوات التي حصل عليها حزب الشعب الجمهوري.
لقد أظهرت مرة أخرى بشكل رمزي التوتُّرات حول نتائج انتخابات اسطنبول مدى انقسام تركيا حاليًا إلى معسكرين قوَّتهما متساوية تقريبًا. كثيرًا ما ينظر إلى الحاضرة التركية، التي يعيش فيها ملايين من المهاجرين القادمين من جميع مناطق البلاد، على أنَّها نسخة مصغَّرة لتركيا. وهذا سبب آخر لخوف حزب العدالة والتنمية من أكرم إمام أوغلو: إذ يخشى حزب إردوغان من أن يصل من خلال أكرم إمام أوغلو رجلٌ يتمتَّع بالجاذبية إلى مسرح اسطنبول اللامع، يمكنه أن يصبح في عام 2023 مرشَّحًا منافسًا خطيرًا لإردوغان. من الممكن هنا أن يُعيد التاريخ نفسه، ولكن هذه المرة لصالح المعسكر المضاد بالذات. وذلك لأنَّ إردوغان كان قد صنع لنفسه اسمًا في السابق كرئيس لبلدية اسطنبول قبل أن يصبح أقوى رجل في تركيا.
وبالإضافة إلى ذلك فإنَّ إردوغان يرى أنَّ مشاريع بنائه المفضَّلة في اسطنبول معرَّضة لخطر احتمال إلغائها في حال فوز المعارضة في الانتخابات. بعد جسر البوسفور الثالث والمطار الضخم على البحر الأسود - وهما مشروعان مثيران كثيرًا للجدل - ينبغي أن يتم قريبًا - إذا سارت الأمور بحسب مخططات حزب العدالة والتنمية - إنشاء قناة شحن بطول خمسين كيلومترًا يطلق عليها في اللهجة الشعبية اسم "مضيق البوسفور الثاني". يواجه منذ أعوام مشروعُ حزب العدالة والتنمية هذا، الذي من المفترض بحسب قول إردوغان أن يخلق آلاف الوظائف الجديدة، انتقادات شديدة خاصةً من قِبَل دعاة حماية البيئة والمختصين في تخطيط المدن.
فقدان الضمير الاجتماعي
في نهاية المطاف تم إلغاء فوز أكرم إمام أوغلو في الانتخابات من قِبَل اللجنة الانتخابية بعد سبعة عشر يومًا فقط من وجوده في منصبه. وقد أدَّى هذه القرار إلى حالة غضب خاصةً بين الشباب في اسطنبول، الذين خابت آمالهم في حدوث تغيير. وبينما انهالت الانتقادات الدولية كالمطر وطالب الاتِّحاد الأوروبي بتفسير، عبَّر رئيس الوزراء السابق العضو في حزب العدالة والتنمية وأحد المقرَّبين من إردوغان، أحمد داود أوغلو، عن انتقاده على موقع تويتر بقوله: "أكبر خسارة يمكن أن تمنى بها حركة سياسية ليست خسارتها الانتخابات، بل هي فقدان التفوُّق الأخلاقي والضمير الاجتماعي".
لُوحظ في الأيَّام بعد الانتخابات البلدية على ماذا ترتكز شعبية أكرم إمام أوغلو قبل كلِّ شيء، حيث كان الكثيرون من أهالي اسطنبول متحمِّسين لتفاؤله البنَّاء، إذ لم تَرِد منه أية ردود وإجابات غاضبة، مثلما اعتاد الناس على ذلك مثلًا من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، بل دعا أهالي اسطنبول إلى التصالح مع بعضهم بما يتوافق مع شهر رمضان، وظهر كمرشَّح عقلاني ورزين - وهذه صفات لاقت بالذات استحسانًا وترحيبًا كبيرين في المناخ السياسي التركي المُسْتَقطب.
ولكن مَنْ هو في الواقع أكرم إمام أوغلو؟ إمام أوغلو من مدينة طرابزون التركية وينحدر تمامًا مثل إردوغان من منطقة البحر الأسود وهو كذلك لاعب كرة قدم متحمِّس وقد عمل بعد دراسته إدارة الأعمال في قطاع البناء. وفي عام 2009، دخل هذا السياسي البالغ من العمر تسعة وأربعين عامًا العمل السياسي على مستوى البلديات وتم انتخابه في عام 2014 كمستجد نسبيًا في العمل السياسي لمنصب رئيس بلدية بيليك دوزو، وهي منطقة تقع في جنوب غرب اسطنبول. وبصرف النظر عن سِجِلِّه الجيِّد كأول رجل في بيليك دوزو، فقد وجد إمام أوغلو بأسلوبه المهذَّب والرزين ترحيبًا من قِبَل الكثير من الناس.
العدالة الاجتماعية كعلامة تجارية
دفعت الاضطرابات أكرم إمام أغلو إلى إلقاء خطاب بعد عزله في اسطنبول منتصف شهر أيَّار/مايو (2019)، تمحور بشكل حصري تقريبًا حول العدالة الاجتماعية وتفشِّي سوء استخدام المال والسلطة من قِبَل النخبة. وبصفته عمدة مؤقتًا لاسطنبول شهد أكرم إمام أوغلو - وإن كان ذلك لفترة قصيرة - حجم المبالغ الكبيرة والأبَّهة غير المتناسبة، التي أُتيحت له كمسؤول كبير. لقد هتف أكرم إمام أوغلو أمام عدد كبير من الصحفيين قائلًا: "في الثالث والعشرين من حزيران/يونيو (2019) سينتهي نظام التبذير ويعود كلُّ شيء جيِّدًا مرة أخرى". وبهذا فقد عبَّر أكرم إمام أوغلو بوضوح أيضًا عن معارضته مشاريع البناء الباهظة الثمن والعملاقة الخاصة بحزب العدالة والتنمية.
وبحسب الأجواء الحالية [قبل أيام من انتخابات الإعادة لبلدية اسطنبول 2019] في المجتمع الاسطنبولي فإنَّ العديد من أهالي اسطنبول يعوِّلون كثيرًا على إعادة الانتخابات، ومن المتوقَّع أن تكون المشاركة في الاقتراع كبيرة. وضمن هذا السياق تدور إشاعات في تركيا تفيد بأنَّ موعد الانتخابات تم تحديده من جانب حزب العدالة والتنمية بشكل خاص في أسبوع اعتاد خلاله الناس وخاصة ناخبو حزب الشعب الجمهوري على قضاء عطلاتهم في المدن الساحلية. وبالتالي فإنَّ حزب العدالة والتنمية يعقد أمله على أن يكون الكثير من الناخبين في بودروم أو أنطاليا أو ألانيا بدلًا من تواجدهم في اسطنبول.
وفي هذه الأثناء لم تتأخَّر ردود الفعل من ساحل بحر إيجة - الذي يعتبر تقليديًا معقلًا من معاقل حزب الشعب الجمهوري. وهكذا فقد أعلن مجلس بلدية منتجع داتشا الساحلي - المحبوب مِن قِبَل سكان اسطنبول - عن قرار بإغلاق جميع الشواطئ يوم الثالث والعشرين من شهر حزيران/يونيو 2019، وفسَّر هذا القرار كما يلي: "بسبب توقُّع عاصفة ثلجية ورملية في الوقت نفسه سيتم إغلاق جميع شواطئنا في الثالث والعشرين من حزيران/يونيو! ولكننا ننتظركم جميعًا في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو. أهالي اسطنبول الأعزاء، نرجوكم الذهاب إلى صناديق الاقتراع من أجل مستقبلكم".
وفي الواقع قد يكون إردوغان راهن على موعد الانتخابات الجديدة: لكن استطلاعات الرأي تتنبأ حاليًا لأكرم إمام أوغلو بفارق أكبر بكثير من نتيجة انتخابات الحادي والثلاثين من آذار/مارس 2019 المثيرة للجدل. ويعود سبب ذلك أيضًا إلى أنَّ الكثيرين من الناخبين المقتنعين الذين امتنعوا عن التصويت في المرة السابقة باتوا يريدون التصويت الآن لصالح مرشَّح حزب الشعب الجمهوري بعد تجريد أكرم إمام أوغلو من منصب رئيس البلدية - من أجل العدالة، مثلما يؤكِّد الكثيرون. وحتى أنَّ الكثيرين من مؤيِّدي حزب العدالة والتنمية ذوي الاقتناع الراسخ بالحزب باتوا يشعرون بعد خسارات الحزب الحاكم بخيبة أمل فيما يخص النزاهة والعدالة. وكثيرًا ما بات يُقال إنَّ حزب العدالة والتنمية قد بالغ هذه المرة بشكل غير لائق.
ماريان بريمر
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019