صديقي "الإرهابي"...جاسر عبد الرازق
لفترة طويلة كنا نخشى أن تصل الأمور في يوم ما إلى هذا الحد. فقد كان عمل جاسر عبد الرازق بالنسبة للحُكَّام في مصر بمثابة شوكة في العَيْن. وبصفته المدير التنفيذي لواحدة من آخر منظمات حقوق الإنسان المتبقِّية في مصر، فقد كان يعرف مجازفته. كان يعلم أنَّ نشر معلومات حول اعتقالات تعسُّفية وتعذيب ومحاكمات غير عادلة، وحول عقوبة الإعدام وتقييد الحقِّ في حرِّية التجمُّع وحرِّية الصحافة، كان يُخفي له دائمًا خطر أن يأتي دوره شخصيًا في يوم ما.
اقترب هذا الخطر أكثر وأكثر في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 حِينَ اُعتُقِلَ محمد بشير وكريم النارة، وهما موظفان في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بإدارة جاسر عبد الرازق، وتم اعتقالهما بعد لقاء مع ثلاثة عشرة سفيرًا وممثِّلًا عن سفارات معظمهم من دول الاتِّحاد الأوروبي -بمن فيهم السفير الألماني في القاهرة- في مكتب المنظمة. الدبلوماسيون كانوا قد أُبلِغُوا بحالة حقوق الإنسان في مصر. وجاسر عبد الرازق كان مقتنعًا بأنَّ هذا اللقاء مع الدبلوماسيين هو سبب سجن زملائه، مُتَنَبِّئًا بما قد يحدث بعد ذلك.
فأرسل جاسر عبد الرازق زوجته وولديه إلى واحة الفيُّوم، الواقعة على بعد ساعة ونصف بالسيارة من القاهرة، ثُمَّ حزم حقيبته منتظرًا في بيته أن يتم أخذه هو نفسه.
وفي التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2020 جاء دوره. في ليلة اعتقاله استجوبته النيابة العامة وفي صباح اليوم التالي اُتُّهِمَ رسميًا بالانضمام إلى جماعة إرهابية. وبالإضافة إلى ذلك اُتُّهِمَ بتعريض أمن الدولة للخطر من خلال نشر أخبار كاذبة.
ومنذ ذلك الحين وأنا أُحدِّق طيلة ساعات في شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بي. وأفكِّرُ: كيف يمكن تغطية خبر هذه الاعتقالات بموضوعية وبمسافة صحفية ضرورية؟ كيف يمكن الكتابة حول بلد أصبحت فيه الصحافة نفسها وَبالًا على بعض الزملاء الصحفيين؟
ونظرًا لأنَّني أريد أن أكون صريحًا، أقول: توجد هناك مشكلة مع الموضوعية والمسافة. فجاسر عبد الرازق من أعزّ أصدقائي في مصر منذ سنين كثيرة. ولهذا السبب أيضًا فقد طلبت منه في العام الماضي 2019 أن يكون شاهدًا على عقد زواجي. وعندما كنتُ طيلة أسابيع في العراق في عام 2004 لتغطية الحرب إعلاميًا، كان جاسر عبد الرازق يساعد أطفالي الصغار حينئذ في منزلي في القاهرة. في هذه الأثناء أصبحوا بالغين راشدين، ولكن بالنسبة لهم ظلَّ جاسر عبد الرازق دائمًا "عمَّهم".
حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة
أتذكَّرُ الكثير من الرحلات معه عبر الصحراء المصرية، عندما كنا ندع السيَّارات تنزلق فوق الكثبان الرملية طيلة أيَّام ونخرجها من الرمال عندما تعلق. أفكِّرُ كيف كنا نجلس في الليل حول النار في أجمل "فندق بخمسة ملايين نجمة" في العالم. كثيرًا ما كنا نتحدَّثُ حينها وبالتفصيل أيضًا حول حالة حقوق الإنسان في مصر بينما كان جاسر عبد الرازق -وهو طبَّاخ طموح- يُعِدُّ في وسط الصحراء بين الأصدقاء على موقده المتنقل إحدى وجباته الأسطورية المذاق.
وبقدر شغفه بالطهي بقدر ما كان يضع الكثير من الشغف في عمله. لم يكن يُميِّز في عمله بين أي إنسان يجب الدفاع عن حقوقه. وسواء في عهد حسني مبارك الذي تم إسقاطه في عام 2011 أو في عهد رئيس الإخوان المسلمين محمد مرسي أو في عهد رئيس الجيش السابق والرئيس الحالي للدولة عبد الفتاح السيسي - دافع جاسر عبد الرازق لمدة خمسة وعشرين عامًا عن جميع مَنْ انْتُهكت حقوقهم الإنسانية في مصر.
لم يكن يُفَرِّق قَطّ بين هؤلاء الناس سواء كانوا علمانيين أو إسلاميين أو شيوعيين أو ليبراليين أو محجَّبات، سواء كانوا ملتحين بلحية سلفية أو بلحية تشي جيفارا، سواء كانوا مسيحيين أو مثليين معرَّضين للتمييز. وبالنسبة إلى جاسر عبد الرازق فإنَّ جميع الناس يتمتَّعون بالحقوق نفسها. وأكاد لا أعرف شخصًا مثله لديه مبادئ واضحة بمثل هذا الوضوح.
كيف يكتب المرء الآن بموضوعية حول صديقه المعتقل؟ يوم الاثنين الماضي 2020/11/23، تم عرض جاسر عبد الرازق على النيابة العامة مرة أخرى. حَلَقُوا له شعر رأسه. وأخبر المحامين الحاضرين للدفاع عنه أنَّه مسجون في سجن طرة سيِّئ السمعة بالقاهرة في زنزانة انفرادية بسرير معدني من دون فراش أو غطاء للسرير.
Share concern re. #Egypt's arrests of three employees of the Egyptian Initiative for Personal Rights. Meeting with foreign diplomats is not a crime. Nor is peacefully advocating for human rights. https://t.co/hR5JtLcAYI
— Antony Blinken (@ABlinken) November 20, 2020
وأضاف أنَّه لا يرتدي سوى الملابس الرقيقة، التي كان يرتديها حينما تم اعتقاله. وأنَّهم أخذوا منه الملابس الدافئة وجميع أشيائه الشخصية الأخرى. وقال للمحامين إنَّه يشعر بالبرد.
في الليلة الماضية كنتُ مستلقيًا ويقظًا في سريري الدافئ وأُفكِّر في صديقي داخل زنزانته الباردة. فكيف يمكنني كتابة تقرير إعلامي حول ذلك بموضوعية؟
ما قيمة الاحتجاجات العالمية؟
يمكن للمرء الكتابة حول ردود الفعل العالمية على اعتقال جاسر عبد الرازق. فقد طالب مكتب المفوَّض السامي للأمم المتَّحدة لحقوق الإنسان بالإفراج الفوري عن جاسر عبد الرازق مدعومًا بذلك من الأمين العام للأمم المتَّحدة أنطونيو غوتيريش. وأدان اعتقالَه الاتِّحادُ الأوروبي وأعضاءُ البرلمان الأوروبي. وكذلك احتجَّت الكثير من حكومات الدول التي كان سفراؤها حاضرين في الاجتماع مع جاسر عبد الرازق في القاهرة، بالإضافة إلى مفوَّضة حقوق الإنسان الألمانية بيربِل كوفلَر.
ودعمت بطبيعة الحال جاسر عبد الرزاق منظماتُ حقوق الإنسان الدولية مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، التي كان دائمًا يُزوِّدها بالمعلومات خلال كلِّ السنين الماضية. وربَّما يكون مهمًا بشكل خاص بالنسبة لنظام القاهرة أيضًا أنَّ أنتوني بلينكِن -الذي سمَّاهُ جو بايدن وزيرًا للخارجية الأمريكية في المستقبل- قد أدان اعتقال جاسر عبد الرازق في تغريدة على موقع تويتر، كتب فيها: "الاجتماع مع الدبلوماسيين الأجانب ليس جريمة، تمامًا مثل الدفاع السلمي عن حقوق الإنسان".
بلا قيود I حسام بهجت المدير بالإنابة للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية
"الحكومة غير قادرة حتى على أن تجد رواية واحدة تبرر القبض علينا."
الأحد 5:30 مساء بتوقيت غرينتش مع@RashaQandeelBBC pic.twitter.com/zAjeRjKyub— BBC News عربي (@BBCArabic) November 29, 2020
ولكن بإمكان المرء أيضًا أن يطرح السؤال حول ما هي قيمة كلِّ هذه الاحتجاجات الدولية في الحقيقة إنْ لم تؤدِّ حتى إلى حصول جاسر عبد الرازق على فراش لسريره في زنزانته. وذلك بالتحديد لأنَّ النظام في القاهرة يُقدِّم نفسه على الأقل إلى الخارج حتى الآن متحديًا. فالخارجية المصرية ترفض جميع التدخُّلات في شؤونها الداخلية وتتَّهم المبادرة المصرية للحقوق الشخصية بانتهاك القوانين الموجودة.
بالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من طرح السؤال حول مدى جدّية الملاحظات الاحتجاجية الكثيرة في الواقع. ففي آخر المطاف يُنظر في العديد من العواصم الغربية إلى الحكَّام السلطويين العرب مثل السيسي باعتبارهم ضامنين مفترضين للاستقرار في المنطقة، وحصنًا في مكافحة الإرهاب وشركاء في منع اللاجئين من عبور البحر الأبيض المتوسط.
وبالإضافة إلى ذلك، فالعالم يريد أيضًا كسب المال من مبيعات الأسلحة إلى مصر في المستقبل. فمصر الواقعة على نهر النيل صارت ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم. ومن بين أهم الدول المُوَرِّدة الولايات المتَّحدة الأمريكية وفرنسا. ثلث إجمالي الأسلحة المُوَرَّدة إلى مصر في الفترة من عام 2015 حتى عام 2019 جاءت من إنتاج فرنسي.
الصحافة الجيِّدة تعني أن أكون قريبًا من الناس
تحتل مصر هذا العام (2020) المرتبة الأولى في صادرات الأسلحة الألمانية بحجم بلغ حتى الآن 585.9 مليون يورو. فقد سلمت مجموعة شركات تيسن كروب أربعَ غوَّاصات لمصر. وكذلك تدور حاليًا محادثات حول صفقات سلاح أخرى مع إيطاليا بقيمة تسعة مليارات وثمانمائة مليون دولار. وفي المقابل يبدو صديقي جاسر عبد الرازق صغيرًا جدًا في زنزانته الباردة في القاهرة، على الرغم من أنَّه في الواقع أكبر بكثير.
في يوم الإثنين -عندما تمت إعادة جاسر عبد الرازق إلى السجن من مكتب النيابة العامة- تمكَّنت زوجته مريم من إلقاء نظرة عليه من خلال النافذة الصغيرة المزوَّدة بقضبان في سيَّارة نقل السجناء. وكان الشيء الوحيد الذي استطاع جاسر عبد الرازق أن يهتف به بسرعة إلى الخارج هو: "مريم، بَلِّغي أطفالنا تحياتي، أنا أحبك". سوف يُسمح لها بزيارته أوَّل زيارة في السجن بعد ثلاثين يومًا.
لقد قُلتُ مرارًا وتكرارًا في المناقشات إنَّ الصحافة الجيِّدة تعني بالنسبة لي أن أكون قريبًا جدًا من الناس. وكنتُ أريد دائمًا تحويل موضوعات التغطية الإعلامية إلى فاعلين ذاتيين يروون قصصهم، ليتمكَّن بعد ذلك القرَّاءُ من تكوين رأيهم الخاص حول هذه الموضوعات.
سأزور غدًا مريم وولديها. وسأجلس معهم على طاولة المطبخ، حيث كنت كثيرًا ما أضحك وألعب وأتناقش لساعات. وسنتحدَّث حول جاسر عبد الرازق، صديقي والشاهد على عقد زواجي، الذي تم اتِّهامه على بعد بضع مئات أمتار بأنَّه "إرهابي" ويقبع الآن في السجن. وسأكون قريبًا جدًا لكي أكتب تقارير صحفية بموضوعية.
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
(تحديث: سمحت السلطات المصرية يوم 28.11 لزوجة مدير المبادرة المصرية جاسر عبد الرازق ولوالدته النائبة فريدة النقاش بزيارته في سجن ليمان طرة حيث أكد حصوله على ملابسه وطعامه وأدواته الصحية والسماح له بالشراء من كانتين السجن، ومازال رهن الحبس الانفرادي ومحروماً من التريض. لا زيارة حتى الآن لكريم وبشير.)