احتباس الأنفس والأسئلة في بلاد الرافدين

تلاحظ منذ عدة سنوات زيادة الجفاف في العراق، وفي أرض دجلة والفرات التي كانت في السابق غنية بوفرة المياه، صار أبناء الريف يهجرون مناطقهم بسبب الجفاف. والآن قدَّرت الحكومة العراقية خطورة هذا الوضع، كما أنَّها تريد العمل بسرعة لمواجهته. برغيت سفينسون تلقي الضوء من بغداد على مشكلة الجفاف.

على الرغم من نزول المطر أخيرًا في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر طيلة ثلاثة أيَّام، إلاَّ أنَّ هناك مرتفعات رملية ما تزال ترتفع بارزة فوق الماء في وسط مجرى نهر دجلة. وحتى فترة متأخِّرة من شهر تشرين الأوَّل/أكتوبر اجتاحت العواصف الترابية والرملية العراق على نحو لم تشهده البلاد منذ أعوام؛ إذ تحتَّم نقل مئات الأشخاص إلى المستشفيات بسبب معاناتهم من صعوبة في التنفس.

غير أنَّ الغبار الناعم لا يخترق فقط المجاري التنفسية، بل إنَّه يكتسح كلَّ مكان، ويغطي بلاد ما بين النهرين، بالإضافة إلى أنَّه يخنق كلَّ شيء تحته. وعلى الرغم من أنَّ العراق كان دائمًا يعاني من تعرّضه للعواصف الرملية، بيد أنَّ هذه العواصف لم تكن قط سيئة إلى هذا الحد مثلما هي الحال في هذه السنة، حسب قول خبراء الأرصاد الجوية.

قطع بساتين النخيل لأسباب عسكرية

ويقول البعض إنَّ الأمريكيين هم السبب. ففي السنوات الست الماضية منذ الغزو الأمريكي للعراق غيَّرت دباباتهم طبيعة الأرض والتربة الأصلية وأخلَّت بالتوازن الإيكولوجي. بينما يحمِّل الآخرون المسؤولية عن ذلك رئيسهم السابق صدام حسين، ويقولون إنَّ الدكتاتور أمر بقطع ملايين من أشجار النخيل وخاصة في جنوب البلاد، وذلك عندما كانت الحرب في أوجها ضدّ إيران في فترة الثمانينات، لأنَّه كان يريد توفير مجال رؤية واضحة للجيش العراقي.

والآن لا يوجد ما يحول دون هبوب العواصف الترابية والرملية عبر الصحراء. ومع ذلك لم يتم إثبات صحة هذه الادعاءات المختلفة. ولكن في الحقيقة إنَّ بلاد ما بين النهرين تغرق بشكل متزايد في الغبار والرمال. وتلاحظ هذه الظاهرة بسرعة عندما يسافر المرء في الطرق البرية، حيث تتكوَّن في كلِّ مكان هناك أعاصير صغيرة يتَّسع مداها وتتحوَّل إلى عواصف رملية تشبه الزوابع ذات الشكل اللولبي. وتجتاح هذه العواصف السهوب والبراري، خاصة في غرب العراق، وتغطي كلَّ شيء تواجهه في طريقها.

استمرار انخفاض منسوب مياه دجلة والفرات

وبالنسبة لمدير عام المركز الوطني للموارد المائية في وزارة الموارد المائية العراقية، الدكتور عون عبد الله، فإنَّ هذا يشكِّل ظاهرة أخرى من ظواهر التغيّر المناخي. وعبد الله يلاحظ منذ عدة أعوام زيادة الجفاف والتصحّر في أرض دجلة والفرات التي كانت في الماضي غنية جدًا بالمياه. والإحصاءات الخاصة بوزارته حول منسوب المياه السنوي في نهري دجلة والفرات ترجع إلى عام 1933، حيث تسجِّل منذ ذلك الحين انخفاضًا مستمرًا في كميات المياه.

ويعود سبب ذلك من ناحية إلى زيادة بناء السدود في كلّ من تركيا وإيران، ولكن أيضًا من ناحية أخرى إلى الانخفاض الحاد في معدَّلات سقوط الأمطار. ويقول عبد الله بصوت قلق: "في العشرين سنة الماضية انخفض معدل سقوط الأمطار باستمرار. وفي السنتين الأخيرتين لم ينزل المطر تقريبًا". وفي العامين الماضيين انخفض معدل الماء بنسبة ثلاثين في المائة؛ فهناك كارثة تلوح في الأفق. والآن أصبح العراق حتى في الشتاء صحراء صفراء اللون مليئا بالغبار والرمال، حسب قول عون عبد الله.

وللمرة الأولى منذ سقوط نظام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، يشارك في المؤتمر الدولي للتغيّر المناخي في كوبنهاغن خبراء عراقيون مختصون بالمناخ والمياه، ويعرضون هناك آخر ما توصلوا إليه. ويقول عبد الله إنَّ الوقت قد حان من أجل تبادل المعارف والآراء مع الآخرين ومن أجل لفت الانتباه إلى المشكلات الموجودة في العراق. وهذا الخبير العراقي بدأ العمل في مجال المياه منذ العام 1968؛ في البداية في مدينة الناصرية، مسقط رأسه وتقع في جنوب العراق، ثم تولى منصب مدير إدارة الري والبزل في البصرة.

بناء السدود - أو خوض الحرب

والآن أحضره وزير الموارد المائية الكردي للعمل في بغداد. وبعد انتهاء حكم صدام حسين أصبح الخبراء يشكِّلون عملة نادرة في العراق. وعون عبد الله يشرح مهمته الصعبة بقوله: "تتمثَّل المشكلة التي تواجهنا اليوم في ضرورة تغيير طريقة تفكيرنا تغييرًا تامًا". وفي حين أنَّ هدف سلطة المياه والري كان يكمن طيلة أعوام عديدة في حماية المواطنين من الفيضانات، أصبح من الضروري الآن العمل من أجل إدارة شح المياه. كما أنَّ آخر اتِّفاقية أبرمها العراق مع الدول المتشاطئة مع العراق على نهري دجلة والفرات، تركيا وسوريا وإيران، تعود إلى ثلاثة وستين عامًا. "وفي هذه الفترة أقامت هذه الدول العديد من السدود بينما نحن كنا نخوض حروبًا".

ويمكن التعرّف على مدى خطورة هذا الوضع المأساوي في أثناء التجوّل فوق الجسور الممتدة على نهر دجلة في العاصمة العراقية. وبينما كان مجرى النهر يمتلئ دائمًا خلال فصل الربيع حتى في الأعوام القليلة الماضية في أثناء ذوبان الثلوج في الجبال الكردية، ظهرت هذه المرة في وسط مجرى النهر مرتفعات رملية ضخمة؛ حيث استمرّ تراجع منسوب المياه على مدار هذا العام.

وإبراهيم المقيم في بغداد ويبلغ عمره خمسة وأربعين عامًا يخشى من أنَّ النهر يمكن أن يجف تمامًا. فقد كان يكسب قوته من خلال عمله بقاربه الصغير الذي كان يستخدمه في تقديم رحلات عبر النهر، وكان ينفق من عمله هذا على زوجته وأطفالهما الثلاثة - وذلك قبل ستة أعوام عندما جاء الإرهاب؛ "ثم توقَّف كلّ شيء". ولكن الآن ومنذ أن هدأ الوضع قليلاً وصار بإمكانه أن يعوم بقاربه من جديد، أصبح يعاني من نقص منسوب المياه. ويجب عليه أيضًا أن يكون حذرًا للغاية لكي لا يرتطم قاربه بقعر النهر، مثلما يقول بهدوء: "كأننا لم نعاني بما فيه الكفاية!"

آثار وخيمة بسبب التغيّر المناخي

وحسبما أعلنت وزارة الموارد المائية العراقية في شهر أيلول/سبتمبر، فقد بدأت أولى موجات اللاجئين بالنزوح من مناطقهم بسبب الجفاف؛ حيث يهرب الناس من الريف إلى المدن. وحتى الآن تبلغ مساحة الأراضي الزراعية التي جفَّت تمامًا ستمائة وستة وتسعين ألف هكتار، مثلما يقول محمد أمين فارس، مدير إدارة الموارد المائية التابعة لوزارة الموارد المائية في الحكومة الكردية في شمال العراق، حيث تجري مياه نهر دجلة مجتازة الحدود من تركيا إلى العراق. وإذا استمر الوضع الحالي فمن الممكن - حسب جريدة الصباح العراقية - أن يصبح حتى عام 2030 ثلثي المناطق المأهولة في بلاد ما بين النهرين غير مأهولة نتيجة الجفاف وشحة المياه.

غير أنَّ خبير المياه في معهد الأبحاث المناخية في مدينة بوتسدام الألمانية، هولغر هوف Holger Hoff، لا يتوقَّع أنَّ العراق سوف يشهد فترة جفاف تستمر عشرين عامًا. ويقول "غالبًا ما كانت مواسم الجفاف تستمر في المنطقة من عام إلى عدة أعوام، ومن ثم تحل محلها أعوام ممطرة". ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ هذا الباحث يعتقد أنَّ تقلب المناخ سوف يزداد على الأرجح باستمرار وبالتالي سوف تزداد مع التغيّر المناخي أيضًا شدة الجفاف ومدته وكثرة حدوثه.

العمل على جبهتين

ولذلك يجب إذن على عون عبد الله أن يعمل على جبهتين؛ إذ يقول: "يجب علينا من ناحية أن نقتصد في استخدام الموارد". ويجب أن يفهم الناس ويتعلموا أنَّه لم يعد بإمكانهم استهلاك الماء بكميات وفيرة. ويقول خبير المياه، عون عبد الله: "لم تعد الفيضانات تهدِّدنا، بل شح المياه". ويضيف أنَّ هذا التغيير في طريقة التفكير لا يحدث بين ليلة وضحاها، وأنَّ عمليات التفكير هذه ربما تكون طويلة الأمد ولا بدّ من دفعها والمضي بها قدمًا. ويجب من ناحية أخرى الإسراع أيضًا في منح مشكلة المياه أولوية سياسية.

وعون عبد الله يضيف قائلاً: "لا يمكن أن نقوم بإبرام معاهدات مع تركيا، ونستثمر استثمارات ضخمة في الشراكة مع أنقرة، بينما هم يقومون وبمعنى الكلمة بقطع الماء عنا بواسطة سدودهم". ويتابع قائلاً إنَّ إيران تقوم بالشيء نفسه. ومن إيران تنبع روافد نهر دجلة. ويقول عبد الله إنَّ حال نهر الفرات تبدو أسوأ من ذلك؛ فتركيا أقامت عليه خمسة سدود وسوريا سدين؛ كما أنَّ تسعين في المائة من مياه النهر تُستهلك في تركيا قبل أن يصل إلى سوريا.

وحاليًا لم يعد يحصل العراق من مياه نهر الفرات إلاَّ على ثلاثة عشر مليار متر مكعب في العام، في حين كانت تبلغ حصته السنوية في السابق ثمانية وعشرين مليار متر مكعب. وفي العادة يتم استخدام مياه نهر الفرات للري والبزل، بينما تأتي امدادات المياه الصالحة للشرب من نهر دجلة. ويقول عون عبد الله بحسرة: "الماء لدينا أغلى من النفط". وهذا صحيح، إذ يبلغ حاليًا في العراق سعر قارورة المياه المعدنية المستوردة من تركيا نحو أربعين سنتا من اليورو، بينما يتم بيع ليتر النفط بأقل من عشرين سنتا من اليورو.

"لقد عانينا ما يكفينا من الحروب!"

وفي هذه الأثناء قدَّر السياسيون العراقيون خطورة هذا الوضع، كما أنَّ الحكومة تريد الآن العمل على تعزيز التعاون الإقليمي من أجل توزيع الموارد المائية التي تتضاءل بشكل مستمر. وتسعى بغداد إلى جعل جارتيها، تركيا وإيران تتركان في المستقبل ضعفي ما تتركانه الآن من المياه للعراق. ولكن في الواقع يُسمع من أوساط البرلمانيين العراقيين أنَّ المصالح الاقتصادية الثابتة تلعب دورًا مهمًا في مشكلة المياه.

وهكذا يمكن أن تطالب تركيا مقابل الماء مشاركتها في تجارة النفط، كما أنَّ إيران تسعى إلى منع حدوث تنمية زراعية واسعة النطاق في العراق الذي يعتبر بالنسبة لجارته الشرقية إيران، سوقًا مربحة لترويج المنتجات الزراعية الإيرانية. ولكن لقد أبدت إيران تجاوبها، مثلما يقول الدكتور آزاد أصلان من جامعة صلاح الدين في أربيل الكردية. فعندما جفّ في الصيف الماضي نهر سيروان الذي يجري شمالاً متدفقًا من إيران عبر محافظة ديالى إلى مدينة خانقين، فتحت إيران السدود وتركت الماء يتدفّق لمدة عشرين يومًا بكميات إضافية إلى العراق.

ولكن مع ذلك لا بدّ - حسب رأي الباحث آزاد أصلان - من الإسراع في إيجاد حلّ دائم، كي لا يترك المجال لتصعيد التوتّرات. ومثلما يتوقَّع البنك الدولي، فأنَّ زيادة نقص المياه يمكن أن تؤدِّي في المنطقة إلى وقوع صراعات وحتى إلى نشوب حروب محتملة. ولكن هذا الخبير العراقي يقول: "لقد عانينا ما يكفينا من الحروب!".

برغيت سفينسون
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

الإسلام والمحافظة على البيئة:
"أزمة البيئة هي أيضا أزمة روحانية"
منذ سنين يدور جدل عالمي حول البيئة يربط بين الموضوعات المتعلقة بالبيئة والأخلاق الإسلامية. ولكن إلى أي مدى يمكن أن يستقي المرء من الإسلام إرشادات سلوكية للمحافظة على البيئة؟ إيرين جويرجين تحدثت حول هذا الموضوع مع الخبيرة زيجريد نوكل.

دور الجالية المسلمة في ألمانيا في حماية البيئة
مبدأ أصيل في الإسلام
تؤكد بعض الجمعيات والمنظّمات الإسلامية في ألمانيا أن حماية البيئة مبدأ أصيل في الإسلام، لذلك فهى تبذل جهودا لتوعية الجالية المسلمة بهذا الأمر، حتى يساهمون في الحفاظ على البيئة التي يتقاسمون العيش فيها مع غيرهم. بانايوتيس كوبارانيس يعرفنا على هذه الجهود.

قراءة في مستقبل الاتحاد المتوسطي:
عِظم التحديات ....غياب الإرادات...قصور الأدوات
يواجه الاتحاد المتوسطي تحديات كبيرة، زادت حدتها بشكل كبير نتيجة للأزمة المالية العالمية، إضافة إلى تداعيات الصراع الشرق الأوسطي التي تشكل عائقا أمام تقدم ملموس في تعزيز أوجه التعاون بين الدول المطلة على ضفتي المتوسط. الباحثة في مؤسسة العلوم والسياسة في برلين، دانيلا شفارتسر، تقدم في هذا التحليل قراءة لمستقبل هذا الاتحاد والتحديات التي تواجهه.