"ألف كتاب وكتاب" لـشتيفان فايدنر: وكأنه بساط طائر
مع موسم الدخول الثقافي الجديد في ألمانيا، يبرز إصدار جديد للمترجم والكاتب الألماني شتيفان فايدنر (1967) المعروف باهتمامه بالثقافة العربية، حيث صدر له عن دار "كونفيرسو" الألمانية عمل بعنوان "ألف كتاب وكتاب: آداب الشرق"، ينضاف إلى كوكبة مميزة من الكتب الرائدة في التعريف بالثقافة العربية وآدابها، دأب فايدنر على نشرها منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، حتى أن البعض يلقّبه بـ"طائر محبة".
يُفصح فايدنر منذ البداية عن هدفه من هذا الكتاب المكوّن من أكثر من ثلاثمئة صفحة، وهو لفت انتباه القارئ الألماني غير المتخصص إلى تنوّع وحركية آداب هذه المنطقة من العالم بلغاتها الرئيسية العربية والتركية والفارسية.
وبعيداً عن الأسلوب العلمي الجاف أو حتى الاستشراقي التنميطي، يحلّق بنا كتاب فايدنر، وكأنه بساط طائر، بين عوالم الأدب الشرقي ومحطاته التاريخية منذ البدايات الأولى وإلى يومنا هذا بلغة رشيقة وفي فصول قصيرة هي قوام هذا الكتاب الذي اعتبره في أحد اللقاءات الإذاعية جسراً بين ضفتي الشرق والغرب.
ماهية الشرق وآداب الشرق بصيغة الجمع
في المقدمة المطوّلة التي وضعها، ينطلق الباحث الألماني من السؤال عن ماهية الشرق ليجد الإجابة في آداب الشرق بصيغة الجمع، ويعني بذلك كلاً من الأدب العربي والأدب الفارسي والأدب التركي إلى جانب الأدب الأفغاني، والتقاطع الحاصل بينها، دونما أن يغفل هنا تداخل هذه الآداب الشرقية مع الآداب العالمية، تأثراً وتأثيراً منذ النصوص الأولى وإلى نصوص الحداثة وما بعدها، شاهدة بذلك على استمرارية اللغات الشرقية، التي تلج عصر ما بعد الاستعمار بخطوات بطيئة. بعد هذه المقدمة ارتأى فايدنر، تقسيم كتابه إلى قسمين رئيسين، قسم عن آداب الزمن القديم، وآخر عن الزمن الجديد تتبعهما خاتمة مقتضبة.
في القسم الأول من الكتاب والمكوّن من ستة فصول، يقف فايدنر، وإن كان ذلك باقتضاب، عند البدايات البعيدة للأدب العربي ولا سيما الشعر العربي ويعرّج على الدور الحاسم الذي لعبه النص القرآني خاصة، والتدوين عامة، في الاهتمام غير المسبوق باللغة العربية لتصير مع الزمن لغة حاملة لأدب عريق، ولا سيما بفضل عقود من التدوين المكثف الذي شمل حتى أقدم الأشعار العربية المتواترة مشافهة من جيل إلى جيل.
هنا، يركز فايدنر اهتمامه على يسميه بالعصر الكلاسيكي للأدب العربي، حيث يخصّص له فصولاً كاملة ولا سيما الشعر العربي وتطوّر أشكاله وأغراضه التي بلغت أوجها في الزمن الأندلسي، دون أن يغفل هنا التطرق إلى الشعر الفارسي وطوبوغرافيته المتداخلة مع عالم الخرافة والأساطير، بدءاً من ألف ليلة وليلة ومرورا بكليلة ودمنة كنموذج للتمازج الحاصل آنذاك بين الأدبين العربي والفارسي.
في هذا القسم، يستعيد فايدنر أسماء من الذاكرة الحضارية للمنطقة مثل المعري والهمداني وابن حزم وابن خلدون والغزالي وابن عربي، هذا إلى جانب أسماء فارسية مثل السعدي والفردوسي والرومي وأيضاً حافظ، صاحب التأثير الكبير على كل من الألمانيين غوته وهاينه.
ويختم الكاتب هذا القسم بالحديث أيضاً عن الأدب المكتوب باللغة العثمانية، وتطوّره صوب العصر الحديث، وصولاً إلى القطيعة اللغوية مع هذا الأدب، التي أحدثها تعويض الحرف العربي باللاتيني واستبدال اللغة العثمانية بلغة تركية معاصرة.
أما القسم الثاني من الكتاب، فهو حول الزمن الحديث وقد قسّمه فايدنر إلى خمسة فصول، حيث يفتتح الفصل الأول بالتطرّق إلى الحداثة في سياقها الشرقي مبتدئاً بروّاد الحداثة الأدبية التركية وعلى رأسهم ناظم حكمت منتقلاً بعد ذلك إلى الشعر الحداثي في إيران وروّاده، مثل صادق هدايت وغيره، مشيراً في نفس الوقت إلى أهم الأنطولوجيات الألمانية عن الشعر الفارسي المعاصر، ليصل وكأنه على بساط ريح أدبي إلى الشعر العربي الحديث، حيث يقدّم بورتريهات عن كل من أدونيس ومحمود درويش دون أن يغفل الحديث عن رواد الأدب الحداثي في المنطقة العربية، على مستوى السرد، مثل نجيب محفوظ وإدوارد الخراط وعبد الرحمن منيف وإبراهيم الكوني.
يواصل فايدنر رحلته الزمكانية بين الآداب الشرقية ليصل في الفصل الثاني إلى نصوص ما بعد الحداثة، مقدّماً لنا من جديد بورتريهات للنصوص الأدبية المؤثرة والمعبرة، في نفس الوقت عن هذه المحطة المعاصرة من التاريخ الأدبي للمنطقة، وتشابك هاته النصوص مع الأسئلة الاجتماعية المؤرقة، حيث يختار التعريف بنماذج من نصوص أدبية تركية تتعاطى مع فترة حكم أردوغان المستمرة إلى يومنا هذا، مثل نصوص أورهان باموق.
كما يخصّص في هذا الفصل صفحات للإشارة إلى أدباء المهجر الأوروبي، مثل بختيار علي الذي لمع اسمه في ألمانيا بعد ترجمة روايته "رمانة العالم الأخيرة"، ومن قبله الكاتب العراقي فاضل العزاوي.
للمزيد: في رثاء الشاعر الفلسطيني محمود درويش
الفائزون بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي: "فلسفة التنوير" و"ترجمان الأشواق" لابن عربي
احتفاء غربي قلّ نظيره بآداب الشرق وجمال لغاته
أما الفصل التالي، فيخصّصه المؤلف للحديث عن أهم الشاعرات العربيات المعاصرات أو كما يصفهنّ بـ"وريثات الخنساء"، مقدّماً مشهداً عاماً للشعر النسائي الراهن ورموزه. يحدثنا هنا فايدنر عما سماه بالأدب النسائي الفضائحي في المنطقة العربية، منتقلاً في الفصل الموالي إلى التعريف بإسهامات الكُتّاب والأدباء من أصول عربية أبدعوا على المستوى العالمي بلغات غربية لا شرقية، ولا سيما الفرنسية والإنكليزية، إضافة إلى أدباء من أصول باكستانية وأفغانية، مثل عتيق رحيمي.
أما الفصل الأخير، فقد قدّم فيه الكاتب صورة متكاملة إلى حدّ بعيد عن المشهد الأدبي الحالي، ولا سيما في المنطقة العربية بعد ثورات الربيع العربي مستعيناً بنماذج نصية مقتضبة لكنها معبّرة عن هذه المرحلة، مثل كتابات علاء الأسواني وديمة ونّوس وهشام مطر.
في خضم ما تواجهه النصوص الأدبية، في هذه المنطقة من العالم، من تنميطات مجحفة في حقها من كونها آداباً متخلّفة عن الركب العالمي، يقدّم فايدنر بشكل مشوّق وفريد صورة بانورامية ليس فقط عن تاريخ الآداب الشرقية، بل عن مدى تنوّع وحيوية هاته الآداب كثمرة لتفاعل فايدنر الشخصي مع المئات من نصوصها منذ خمس وعشرين سنة.
إنه احتفاء غربي قلّ نظيره بآداب هاته المنطقة ذات العمق الحضاري رغم حاضرها الملتبس.
زهير سوكاح