خطاب الأبراج العاجية: النخب العربية لا تملك إجابات لمواجهة تحديات الواقع
التحوُّل السياسي الواجب حدوثه منذ فترة طويلة في العالم العربي من نظام سلطوي إلى نظام تشاركي وسيادة القانون لا يحدث خلال شهور، بل على مدى جيل بأكمله. لقد أعقبت وعلى نحو غير مفاجئ حالات التقدُّم المعزولة انتكاساتٌ كان آخرها كما حدث في تونس والسودان. ففي تونس، حيث تمكَّنت الثورة الوحيدة الناجحة في عام 2011 من الصمود لعقد من الزمن، عزل الرئيسُ الحكومةَ والبرلمان ليستفرد بالحكم.
وفي السودان، قام قائد الجيش بإبعاد المدنيين، الذين كافحوا في احتجاجات عام 2019 من أجل تقاسم السلطة. وهذا الانقلاب لم يكن غير متوقع، لأنَّ قائد الجيش كان يجب عليه في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2021 تسليم رئاسة المجلس الانتقالي لرئيس الوزراء المدني. وكان من الممكن لأوَّل مرة منذ عقود أن يقود الحكومة شخص مدني. وفي دول أخرى أيضًا ترفض القوَّاتُ المسلحة التغيير.
وفي مصر، قام نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي، الذي تم جعله رئيسًا للبلاد، بإنشاء الدولة البوليسية الأكثر قسوة في تاريخ مصر الحديث. وفي الجزائر، بات يسافر المزيد من الشباب المحبطين على متن القوارب إلى أوروبا لأنَّ الجيش أغلق عملية التغيير بعد فترة من الانفتاح كانت مفعمة بالأمل ولكنها قصيرة؛ وفي سوريا، تمكَّن الرئيس الأسد من إخضاع الشعب مرة أخرى، بمساعدة روسيا وإيران وأيضًا بسبب وحشية أجهزته الأمنية.
ضامن سابق للاستقلال
تعتبر القوَّات المسلحة صاحبة الأمر والنهي في معظم الدول العربية باستثناء دول الخليج، وقد كانت تحظى طيلة عقود من الزمن بتقدير كبير - كأبطال وضامنين للاستقلال، وكذلك كمؤسَّسات سهَّلت حركة المجتمع والتقدم الاجتماعي. ولكنها اليوم بمثابة طبقة منغلقة على ذاتها تدافع عن مزاياها وتفرض سياسة البلد.
قد تكون شرعية العسكر المكتسبة من حرب الاستقلال لا تزال مهمة بالنسبة لكبار السن. غير أنَّ الشباب يريدون فرص عمل، في حين أنَّ نموذج القوات المسلحة الاقتصادي، الذي لا يسمح بالمنافسة العادلة، لا يمكنه أن يخلق العدد الضروري من فرص العمل. ولذلك فإنَّ نصف الشاب العرب عاطلون عن العمل.
وبما أنَّ العسكر ما يزالون يعتقدون أنَّ بإمكانهم حلّ جميع المشكلات على طاولة هيئة الأركان العامة، فستنخفض قدرتهم أكثر على التعامل مع التحدِّيات الكبيرة المقبلة على العالم العربي.
لا يوجد في أي مكان ما يشير إلى أنَّ أيًا من الأنظمة العربية لديه برنامج استباقي لمواجهة عواقب النمو السكَّاني المأساوي. وبحسب توقُّعات الأمم المتَّحدة فسيزداد بحلول عام 2050 عدد سكَّان دول العالم العربي الاثنتين وعشرين دولة بمقدار ضعف عدد سكَّان ألمانيا (التي عدد سكانها 82 مليون نسمة). علمًا بأنَّ عدد سكَّان الدول العربية يزداد حاليًا بنحو ثمانية ملايين نسمة في كلّ عام - ويجب من أجلهم إنشاء مدارس ومساكن ووظائف، وهذا لا يحدث حتى ولو بشكل جزئي، مما يمهِّد الطريق لمزيد من الاحتجاجات الكبيرة.
زد على ذلك أنَّ تغيُّر المناخ سيؤثِّر على العالم العربي أكثر من أية منطقة أخرى. فدرجات الحرارة سترتفع هناك ضعف متوسَّطها العالمي. وسيزداد عدد الأيَّام الشديدة الحرارة أكثر وسينخفض منسوب هطول الأمطار أكثر في المنطقة الأكثر جفافًا، وسينخفض بالتالي الإنتاج الزراعي على الرغم من نمو عدد السكَّان السريع.
لقد انخفضت كمية المياه في نهري دجلة والفرات إلى مستويات غير مسبوقة، وعندما يرتفع مستوى سطح الماء في البحر الأبيض المتوسط ستغرق منطقة دلتا النيل المصرية، التي يعيش فيها نصف سكَّان مصر. وبسبب شحة المياه، اندلعت في إيران الاضطرابات الأخيرة. وأخيرًا تُحدِث نهاية عصر الوقود الأحفوري المنتظرة تغييرات كبيرة في العالم العربي.
الاقتراب من أوروبا
لقد بدأت الدول النفطية بتقليص أنظمة الرعاية الاجتماعية وبتنويع اقتصاداتها، ولكن على الأرجح أنَّها تأخَّرت في ذلك. وهي بحاجة إلى فرص العمل من أجل مواطنيها وباتت تعيد العمَّال الوافدين إلى بلدانهم الأصلية، التي يزيدون فيها جيش العاطلين عن العمل.
والدول العربية بأنظمة حكمها اليوم لا تملك أي جواب على كلّ هذه التحدِّيات. وتُستثنى من ذلك بشروط الأنظمة الملكية الخليجة؛ وهي تتَّبع من أجل إعادة هيكلة اقتصاداتها "رؤية 2030" (فوق) الطموحة. بينما تقوم الجمهوريات العسكرية بتحصين نفسها في حصونها المنيعة لحماية نفسها من مواطنيها اليائسين.
ومع الأخطار المرتبطة بهذه التحدِّيات الثلاثة، يقترب العالم العربي من أوروبا. ولذلك فإنَّ من مصلحة أوروبا الخاصة عدم استمرار الحكَّام العرب كما يفعلون. الولايات المتَّحدة الأمريكية لم تنسحب كليًا من الشرق الأوسط ولكن إلى حدّ كبير.
وهذا يترك أوروبا مع مهمة إقناع الحكَّام العرب بضرورة التغيير من خلال تقديمها حوافز ذكية، أو من خلال معاقبتهم بعقوبات وكذلك بالامتناع عن مجاملاتهم السياسية بسبب عدم اتخاذهم أية إجراءات. والوقت يمر. والعالم العربي لا يستطيع تحمُّل الكثير من الانتكاسات، مثلما حدث مؤخرًا في تونس والسودان.
راينَر هيرمان
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: فرانكفورتَر ألغماينه تسايتونغ / موقع قنطرة 2022