من منا يحجبه البرقع؟
أمي نزعت المنديل وحتى الجاكيت وباتت تلبس طقما أو فستانا بأكمام قصيرة – كما في الصورة – وتراعي المودة سواء بتسريحة الشعر القصير أو لون الملابس والتصاميم، وهي بذلك كانت مثل غيرها من نساء الطبقة الوسطى في العالم العربي، وأيضا نساء الطبقات الأقل حظا في المدن والبلدات الصغيرة، إلا أن الفلاحات قاطنات القرى واظبن على ارتداء اللباس التراثي التقليدي الذي يشبه ما كانت تلبسه سيدتنا العذراء أم المسيح قبل ألفي سنة. أمي نزعت المنديل مباشرة بعد احتلال القسم الأكبر من فلسطين عام 1948، وهو القسم الذي أقيمت عليه إسرائيل، ذاك الاحتلال الذي تسبب بكارثة سياسية - اقتصادية رافقتها هزة اجتماعية قوضت الكثير من القيم والتقاليد المتوارثة بما فيها ارتداء النساء للمنديل والتزمت الشديد حيال المرأة وحركتها في الشارع والمدرسة وسوق العمل. لكن الكارثة السياسية- الاقتصادية كان لها وجه آخر أثر على المرأة وحركتها، إذ ان الوضع الاقتصادي المتردي حتم على ألوف العائلات المشردة وقد فقدت وطنها وبيوتها وأراضيها والعديد من الذكور بسبب الحرب أن تبادر إلى إخراج النساء من دائرة البيت الى سوق العمل والدراسة للحصول على مؤهلات تمكنهن من العمل في الكويت والسعودية لإعالة أسرهن، أو الإنفاق على أخوتهن في الجامعات كي يصبحوا أطباء ومهندسين ومحامين وما شابه.
وهكذا بدأنا نرى أفواجا من الفتيات الفلسطينيات المتعلمات السافرات يسافرن الى الخارج ويعشن وحيدات، متقشفات، مستوحشات، معنسات (كما وصفت حالة نهلة في روايتي الميراث) ولكن بقدر كبير من الاحترام العائلي والاجتماعي لأنهن بتن المعيلات لأسر محدودة الدخل أو معدومة الموارد. ومع الوقت، بات مقبولا، بل مستحبا، أن تقوم هؤلاء الفتيات بالإنفاق على تعليم أخواتهن الأصغر سنا في الجامعات العربية (المصرية والسورية واللبنانية) للحصول على شهادات في الطب والصيدلة والهندسة والحقوق وغير ذلك. وهؤلاء الفتيات الأصغر، بعد حصولهن على شهادات ومهن ذات مكانة، وقد أصبحن أكثر تعليما وجرأة وانفتاحا ، جلبن معهن موجة من التحرر الاجتماعي النسوي – رغم أننا ما كنا نسمع عن الحركة النسوية والفكر النسوي إلا ما تكتبه بعض الرائدات في الصحف المصرية مثل أمينة السعيد وسهير القلماوي ودرية شفيق، وكانت كتاباتهن لا تتعدى تناول مواضيع من الوزن الخفيف مثل تحديد النسل والزواج المبكر وتعدد الزوجات وما شابه.
انفتاح اجتماعي نسبي
الانفتاح الاجتماعي النسبي في الجو الفلسطيني والعربي بشكل عام ترافق مع انفتاح سياسي على الفكر الليبرالي والاشتراكي. فموقف الغرب العدائي من القضايا العربية، وفشل الأنظمة العربية التقليدية في تحديث مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية، وعجزها وتخاذلها أمام الغرب في الدفاع عن مصالحنا، دفع أفواجا من المفكرين والمثقفين العرب إلى تبني مواقف أكثر تأييدا للمعسكر السوفييتي والفكر الاشتراكي، فكانت كتاباتهم تدعو لمزيد من التحرر السياسي والاجتماعي، والوقوف في وجه المطامع الغربية بمواردنا – بالذات النفط – والتخلي عن الاعتماد على الصناعات الغربية، ومنع الغرب من التدخل في شؤوننا الداخلية.
أبرز من قاد الحملة ضد النفوذ الغربي وحليفته إسرائيل في الخمسينيات والستينيات كان الزعيم المصري عبد الناصر. إذ بالإضافة الى خطبه النارية التي ألهبت الشارع العربي بأسره وخلقت جوا من الحماس والاندفاع والنقمة على نفوذ الغرب وأتباعه، قام بتوجيه ضربة جريئة لأكبر دولتين استعماريتين في ذاك الوقت: بريطانيا وفرنسا، وبادر إلى تأميم قناة السويس مما أثار نقمة الدولتين المذكورتين، فقادتا بالتعاون مع حليفتهما إسرائيل حملة عسكرية عام 1956 لإسقاطه والقضاء عليه، إلا أن الحملة فشلت وخرج منها عبد الناصر أكثر قوة وتأثيرا في العالم العربي بأسره، وبدا كما لو أن مشروعه لتوحيد العالم العربي في نظام شبه اشتراكي غير مستحيل، بل قابلا للتنفيذ.
التوجه نحو الفكر الاشتراكي لدى المثقفين العرب، والدعوة المتكررة للقضاء على الأنظمة الفاسدة وأعوان الغرب، وتوجه عبد الناصر لتوحيد الوطن العربي وإعادته إلى ما كان عليه قبل اتفاقية سايكس بيكو التي قسمت العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى إلى دويلات يسهل السيطرة عليها (كما هي الحالة الآن)، كل ذاك أثار قلق الغرب وتخوفه من قيام دولة عربية موحدة قوية، مستقلة تماما، وقادرة على مواجهة مطامع الغرب ومصالحه ونفوذه، وتهديد حليفته إسرائيل. لهذا احتشد الإعلام الغربي ضد عبد الناصر وصوّره في صورة هتلر عربي جديد واتهموه بالفاشية وشتى النعوت المرعبة المثيرة. وحين هاجمته إسرائيل في حرب 1967، وقف الغرب بكامله خلف إسرائيل فهزموه وهزمونا، أي هزموا من يمثلون التيار الداعي إلى التحرر السياسي- الاجتماعي - الاقتصادي وتحديث الأنظمة السياسية وتحرير المرأة.
هزيمة عبد الناصر في حرب 1967 بالإضافة إلى فشل التيار التقدمي في تحقيق انجازات حقيقية على الأرض سواء على المستوى التنظيمي أو القدرة على اختراق الأوساط الشعبية والجماهير العربية، كل ذلك جعل الجو العربي مهيئا لدعوات ومشاريع مناوئة للفكر التقدمي التحرري النهضوي. فاستغل الجناح الرجعي ممثلا بأنظمة عربية شديدة الولاء للأجندة الأميركية وبادرت إلى دعم مجموعات ومنظمات إسلامية متشددة - كما حدث في أفغانستان حين دعمت أميركا بن لادن وأمثاله للتصدي للنفوذ الشيوعي. ومع بداية السبعينيات بدأ العالم العربي يتعرض لهجمة شرسة من قبل مجموعات ومنظمات إسلامية متشددة أعادت المرأة إلى عصر الحريم بأن فرضت الحجاب، ومع بداية القرن الجديد، كثفت غلواءها بأن روجت بدعة ارتداء النقاب والبرقع، وما زلنا نتعرض يوميا، نحن النساء الواعيات المثقفات، إلى ضغوط وممارسات استفزازية تزيد من مخاوفنا وتقلقنا وتجعل تقدمنا نحو مراحل أكثر تحررا وانفتاحا أكثر تعقيدا وصعوبة.
تحالفات سياسية دينية
في بداية السبعينيات، بتأييد ودعم من أميركا، تحالفت أنظمة عربية دكتاتورية مع المجموعات والمنظمات الإسلامية السلفية بشكل واضح وصريح، ورصدت الملايين لترويج وتشجيع ذاك الاتجاه، فخصصت رواتب شهرية (15 دينارا للرجل و10 دنانير للمرأة) لكل الذين يبادرون إلى ارتداء ما يسمونه اللباس الإسلامي، وهو عبارة عن دشداشة قصيرة وشحاطة جلدية ولحية طويلة غير مشذبة للرجال، وغطاء رأس مع معطف طويل بلون غامق للنساء، بالإضافة إلى تزويد هؤلاء – مجانا - بمسبحة وقرآنا فخم الطباعة وسجادة صلاة.
في البداية كان تركيز المنظمات الإسلامية على شباب وشابات ذوي قدرات قيادية ممن يستطيعون التأثير في الآخرين. وكذلك كان التركيز على الوصول إلى النساء في بيوتهن. فكانت تعقد الجلسات والخلوات في بيوت نساء الطبقة المتوسطة الدنيا في أزقة وحواري المدن قبل أن تنطلق إلى الجوامع والمدارس والجامعات. كل ذلك تم بتشجيع وتمويل من أنظمة عربية شديدة الولاء لأميركا على أمل أن يعمل التيار الإسلامي على إبعاد المجتمع العربي عن الأفكار الاشتراكية والمشاريع النهضوية التي تدعو إلى التحرر بكافة أشكاله وألوانه، بدءا من التحرر من النفوذ الغربي إلى تحرير طاقات المجتمع الخلاقة لتمكينها من الدخول في معترك الحياة العصرية بحيث تصبح قوة فاعلة متطورة مستقلة قادرة على مواجهة الغرب وأطماعه، ومواجهة أطماع إسرائيل العنصرية التوسعية.
لم يقتصر دعم الإسلاميين السلفيين على التزود باللباس الإسلامي المجاني والرواتب الشهرية واستئجار الخلوات والمقرات، بل هيئوا لهم الظروف المواتية في المدارس الابتدائية والثانوية. باتت الأفضلية في توظيف المعلمين في السلك التربوي للإسلاميين السلفيين، نساء ورجالا، حتى يتمكنوا من التأثير في التلاميذ والطلبة في سن مبكرة لتصبح المفاهيم والتعاليم السلفية جزءا من تركيبة الطفل النفسية والفكرية. هذا بالإضافة لتدريب الشباب منهم على الانضباط العسكري وفنون القتال. فأقاموا لهم معسكرات تدريب في أماكن مختلفة من العالم العربي، وأيضا في أفغانستان وباكستان. وهكذا، على مر السنين، منذ بداية السبعينيات وحتى الآن، باتت تلك المجموعات والتنظيمات، بفضل إمكانياتها المالية والتنظيمية، ذات امتداد جماهيري قوي طغى على كل الأفكار التحررية والنهضوية، وتمكنت من تهميش الليبراليين والاشتراكيين، ونجحت في تحجيم الحركة النسوية وأرجعتها للخلف عشرات السنين.
ومن المفارقات السياسية التي شهدها العصر الحديث أن التحالف الوطيد بين أميركا وأتباعها مع الجماعات الإسلامية المتشددة انقلب إلى تنافس وصراع دموي. فبعد أن كانت أميركا تلقب الإسلاميين "بالمجاهدين" وتخصهم بالموارد المالية والعسكرية لمناوئة المعسكر الاشتراكي والأفكار التحررية، باتت تلقبهم "بالإرهابيين!" إذ أن الإسلاميين، وعلى رأسهم القاعدة، بعد أن قويت شوكتهم وتغلغلوا في الأوساط الشعبية والنخبوية، تنكروا لأميركا وحلفائها وباتوا يهددون المصالح الغربية ويستخدمون العنف لمقاومة كل ما هو غربي وإسرائيلي. والمضحك أن أميركا وحلفائها لم يعوا خطورة ذاك الانقلاب أو المقلب إلا بعد أن انقلب السحر على الساحر وباتت المنظمات الإسلامية السلفية تهدد بإقامة نظام إسلامي متشدد ينأى عن الغرب وأتباعه ويحاربه وينكره ويتنكر له، وأيضا يتنكر لدعاة الفكر التحرري والليبرالي.
هكذا، بعد كل تلك العقود من عدائنا المستفحل للغرب ونفوذه، وجدنا أنفسنا، نحن الاشتراكيين والليبراليين والنسويات والنسويين، أقرب من حيث الفكر والتوجه العلمي والديمقراطي إلى الغرب المتمرس في التآمر على شعوب العالم الثالث ومصالحها. والمضحك أيضا أن أميركا وأتباعها، وقد وعوا المقلب القذر الذي أوقعوا أنفسهم فيه وأوقعونا، باتوا يفضلوننا نحن الاشتراكيين والقوميين على الإسلاميين المتشددين ويشجعوننا على الانخراط في أحزاب قومية واشتراكية، ويدعمون حركتنا النسوية التحررية على أمل أن نساهم بالحد من الاجتياح الإسلامي المتشدد ونحقق أنظمة ديمقراطية أكثر قابلية للتفاهم مع الغرب، وأقل تهديدا للمصالح الغربية.
فوضى
نحن الآن في فوضى سياسية اجتماعية فكرية مخيفة. اختلطت الأوراق وبتنا مهددين من طرفين متناقضين لا نعرف بالضبط من منهما أقسى واظلم. الغرب وقد عودنا على مؤامراته واستغلاله واستعماره من ناحية، ومن ناحية أخرى الحركة الإسلامية السلفية وقد جاءتنا ببدع تعيدنا إلى عصر الظلمات وعصر الحريم. الغرب العلمي العلماني اللبرالي المتحرر لكنه استعماري في مصالحه وأفكاره ومخططاته، والإسلام المتشدد الداعي إلى مناهضة الغرب ومصالحه ونفوذه لكنه مصاب بالعمى العلمي والحداثي والتحرر الاجتماعي والنسوي.
الفوضى السياسية الاجتماعية الفكرية لم تصبنا وحدنا، فقد انتقلت إلى الغرب وباتت نساؤنا المحجبات والمنقبات ظاهرة تثير فزع الغرب ونفوره. وهناك دول غربية بادرت بتشريع قوانين تحظر اللباس الإسلامي وتمنع مرتدياته من دخول المدارس والجامعات والمؤسسات العامة. ليس هذا فقط، بل إن الشارع الغربي بمجمله بات يعتقد أن العرب جميعا والمسلمين جميعا شبيهون في تشددهم وتعصبهم وانغلاقهم الفكري بالإسلاميين السلفيين ونسي الشارع الغربي، أو تجاهل، أن هذه الحركة هي بالأصل ربيبة الغرب وأتباعه، وأن هذه الحركة تهدد توجهنا العلمي والعلماني والديمقراطي، وكذلك تهدد مسيرتنا النسوية.
وها هو الغرب يلاحقنا بتحيزات جديدة مليئة بالعنصرية والأحكام الجماعية التعسفية فيضع جميع العرب في خانة واحدة ويتهمنا بالتهمة التي يتوجب عليه أن يوجهها لنفسه. فمن المسؤول عن هذا الخلل؟ من المسؤول عن تنمية هذه الحركة ونشر هذا الاتجاه؟ من أنشأ القاعدة وتحالف مع بن لادن وأمثاله؟ من شجع أنظمتنا القمعية على تزويد هذا الاتجاه بالدعم المادي والمعنوي وفتح مؤسساتنا التربوية لأفكاره ونفوذه؟ هذه أسئلة يجب أن تطرح في الإعلام الغربي لو كان هناك إعلام غربي غير منافق، غير عنصري ومتحيز. وأنا أعرف، وغيري يعرف، أن هذا الإعلام غير بريء من الأجندات السياسية والنظرة العنصرية المترسخة في الفكر الغربي وأقواله وفعاله.
لهذا أحس بالإحباط وأنا أكتب للقارئ الأوروبي لأني أعرف أن غالبية الشارع الغربي لا تهتم ولا تتعاطف. وأكاد أسمع الناس وأنا أسير في شوارعكم يتساءلون بشكل أناني ساذج: لماذا نعبأ بالعرب إذا كانوا لا يعبئون بأنفسهم؟ لماذا نهتم بالنساء العربيات وهن بعيدات عنا، مختلفات عنا بالدين واللون والجنسية، ومهما حل بهن لا يمكن أن يحل بنا أو يؤذينا؟ وأنا بدوري أقول لمن يفكرون بهذا الشكل الأناني المغلق أننا أقرب إليكم مما تتوقعون أو تتخيلون. ألم نقل مرارا وتكرارا أن العالم انكمش وأصبح بمسافاته واتصالاته مجرد قرية عالمية صغيرة؟ وها نحن نصلكم على شكل أمواج بشرية تخترق حدود شواطئكم.
ومهما فعلتم لتحديد الهجرة وتكثيف الرقابة، ما زلنا نجد طرقا تمكننا من الوصول إليكم لنخترق حواجزكم ونؤكد تواجدنا بينكم. نحن هنا، في داخلكم، ولا يمكنكم إنكار وجودنا لأننا وراءكم وأمامكم، وفي الحقيقة والواقع، أصبحنا جزءا من نظامكم. وفي يوم ما، كما حدث فعلا في أميركا، قد نصبح قوة انتخابية فاعلة، ونجيء بأوباما عربي ليحكمكم.
أنا لا أتعمد إغاظتكم. كل ما أبغيه هو الدفاع عن قضيتي بشكل محسوس ومجسد، فأجعلكم تحسون بما أشعر، وتخافون مما أخاف وتتحرجون مما يصلني. فأنا أرى كيف يؤطرني الإعلام الغربي ويحكم علي ويمسخني. فحين يصورون المرأة بالبرقع كنموذج للمرأة العربية – المسلمة والمسيحية - يشيرون ضمنا الى أني أنا، أنا الكاتبة النسوية، وألوف النسويات مثيلاتي، وملايين النساء العصريات – مسلمات ومسيحيات – في كل دولة عربية هن على شاكلة امرأة بالبرقع وجهها مظلم ورأسها مشحون وصوتها أخرس. وهذا بالطبع ليس صحيحا، فصورة المرأة بالبرقع مثيرة للذعر لمثيلاتي. فنحن نخاف أن تمتد يد الصورة، صورة المرأة بالبرقع في يوم ما، ، وتسحب بناتي وحفيداتي وتسحبني لنظام عربي مظلم أظلمه الغرب بأجنداته وسياساته حتى نظل كما كنا، وما نحن عليه، مزرعة النفط العربية في سوق الغرب.
سحر خليفة
حقوق النشر: معهد غوته ومجلة فكر وفن 2011
سحر خليفة، روائية فلسطينية غنية عن التعريف. ترجمت أعمالها إلى عدة لغات وخصوصا اللغة الألمانية. هذا النص كتب خصيصا لفكر وفن.