إحراق مقر صحيفة ''شارلي إيبدو'' ....إحراق لحرية الصحافة والتعبير
ما زال الأمر غامضاً حتى بعد مرور نحو أسبوع على إحراق مقر الصحيفة الأسبوعية الساخرة. ففي ليلة الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) احترق ثلثا قسم تحرير الجريدة في باريس تقريباً، وذلك في أعقاب إلقاء زجاجتي بهما كوكتيل من المولوتوف. وقرابة الساعة الواحدة من فجر الثاني من نوفمبر اندلعت النيران في غرف تحرير الصحيفة الأسبوعية اليسارية الليبرالية الساخرة "شارلي إيبدو".
وفي صباح اليوم التالي ظهر عدد مثير من الصحيفة الأسبوعية المعروفة بتهكمها وهجومها على رجال الدين، وكان عنوان العدد "شريعة إيبدو" (أي "صحيفة الشريعة الأسبوعية")، أما "رئيس التحرير" فكان واضحاً أنه النبي المحمد – مرسوماً على نحو ساخر. لم يثبت حتى الآن وجود علاقة بين الأمرين - عدد الشريعة وإحراق المقر – غير أن العلاقة ليست مستبعدة، وإن كان بعض محرري الصحيفة تكهنوا بأن المتطرفين اليمينين قد يكونون هم الذين ارتكبوا الجريمة ليصبوا الزيت على نار الصراعات المجتمعية القائمة.
قراصنة أتراك يستهدفون الصحيفة
كما تعرض الموقع الالكيتروني للصحيفة الساخرة إلى هجمات قراصنة الكمبيوتر أيضاً. وقد عُرف المسؤول عن تلك الهجمات، وهي مجموعة من القراصنة الاليكترونيين الشبان من تركيا يستخدمون اسم "أكينتشيلار". واعترف أحد أفراد المجموعة، وهو الشاب التركي أكبر الذي يطلق على نفسه "بلاك أبل"، بمسؤوليته عن مهاجمة الموقع الاليكتروني. وعن سبب الهجوم قال "بلاك أبل" إن مجموعته أرادت التحرك لمواجهة الإهانات التي تعرض إليها النبي محمد. وفي الوقت ذاته تنصل أكبر وأفراد آخرون من مجموعة "أكينتشيلار" من الحريق المتعمد لمقر الجريدة. وقال أكبر: "نحن بالطبع لا نؤيد استخدام العنف."
وكان المحررون في أسبوعية "شارلي إيبدو" يهدفون من خلال إصدار هذا العدد الخاص إلى التغطية الساخرة لنتائج الانتخابات التونسية وإعلان الشريعة الإسلامية مصدراً للقوانين في ليبيا. وبلا شك فإن اختيار عنوان العدد الخاص كان خاطئاً من الناحية المضمونية؛ فالإشارة إلى نتيجة الانتخابات في تونس مفتعلة مثلما هي، موضوعياً، خاطئة.
لم ينتخب التونسيون حزب "النهضة" – الفائز في الانتخابات – لأنه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية - لا سيما وأنهم لم يعدوا الناخبات والناخبين بذلك، على العكس، لقد تم انتخاب حزب "النهضة" لأنه يدافع عن استمرار القوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية القائمة. كما أن حزب "النهضة" أعلن بعد فوزه أنه لا يريد أن يضيف أي عبارات ذات مغزى ديني إلى الدستور، وأنه يكتفي بالمادة رقم واحد الموجودة حالياً، وهي أن تونس دولة دينها الإسلام.
وينبغي على البرلمان المنتخب في الثالث والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول)، وذلك في أول انتخابات ديمقراطية تجري في تونس، أن يضع أسس دستور جديد خلال مدة أقصاها عام. وليس من المتوقع على الإطلاق أن تتحول تونس في غضون ذلك إلى دولة دينية على غرار إيران مثلاً. ليس معنى ذلك منح الحزب الإسلامي المعتدل الأقوى على الساحة التونسية صكاً على بياض أو ثقة عمياء، ولكن الظروف الاجتماعية في تونس لا تسمح بتحولها إلى دولة دينية على الإطلاق.
إن أسباب انتخاب حزب "النهضة" ترجع بالأحرى إلى نشاط الحزب السياسي. لقد كافأ الناخب الحزب على معارضته الشجاعة لديكتاتورية بن علي، حيث تم القبض في فترة حكمه على نحو 30 ألف مؤيد للحزب، كما تعرض عدد لا يحصى منهم إلى التعذيب. ويربط حزب "النهضة" سياسته الاقتصادية بالوعود الاجتماعية لا الدينية، حتى وإن كانت تلك الوعود (وهو ما يحدث لدى الأحزاب الأخرى أيضاً) لن تتحقق.
عدد مثقل بالأحكام المسبقة وبعيد عن الواقع
إن اختيار العنوان والإشارة إلى تونس يستندان إذاً على حكم مسبق لا علاقة له بالواقع. بالرغم من ذلك لا يمكن، بالتأكيد، اتهام "شارلي إيبدو" بالعنصرية، إذ أن هذه الصحيفة تهاجم أيضاً أتباع الأديان الأخرى – مثل الكاثوليك في فرنسا – وذلك بنفس القدر، على الأقل، من "عدم الاحترام". بل إن هذا الهجوم على المتدينين هو منذ سنوات طويلة "الماركة المسجلة" للصحيفة الساخرة. ولهذا فإن الاتهامات بالعنصرية التي تواجهها الجريدة هي اتهامات لا أساس لها إطلاقاً.
بالرغم من ذلك، حصلت الصحيفة بعد إحراقها على دعم غير متوقع من أشخاص ذي توجهات عنصرية لا شك فيها، مثل مارين لو بن من الجبهة القومية اليمينية المتطرفة التي تحدثت عن "هجوم على العلمانية الفرنسية". كما وقف في صف الجريدة مدافعاً عنها وزير الداخلية اليميني المحافظ كلود غيان الذي تحقق معه السلطات بسبب أقوال عنصرية تفوّه بها.
غير أن محرري صحيفة "شارلي إيبدو" رفضوا مثل هذه المحاولات الاستحواذية من بعض الأطراف السياسية. في نهاية الأسبوع الماضي نشر مُلحق من أربع صفحات من الجريدة الساخرة ضمن عدد لصحيفة "ليبراسيون" التي تستضيف في مقرها في الوقت الحالي قسم تحرير "شارلي إيبدو". وفي هذا الملحق يتساءل المحررون بسخرية عن سر التحول الوجداني الفجائي لكلود غيان ومدافعته عن حرية التعبير عن الرأي، في إشارة إلى أن غيان أمر في عام 2010 بالتنصت على صحفيين عدة مرات على نحو غير مشروع، وذلك حتى يكشف عن "الجهات المسربة للمعلومات" في وزارته. لا يرحب صحفيو "شارلي إيبدو" إذاً بكل المحاولات الاستحواذية التي تتخفي في صورة تقديم المساندة. يعتزم محرور "شارلي إيبدو" الاستمرار في إصدارها، وذلك من مقر الصحيفة اليومية الاشتراكية الليبرالية "ليبراسيون". وقد أعلنت دار بلدية باريس نيتها تقديم المساعدة في البحث عن مقر جديد للصحيفة الساخرة.
برنار شميد
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011