إرث نقدي عابر للثقافات...فكر إدوارد سعيد يتجاوز حدود الإثنية والقومية
حين توفي المفكر الكبير إدوارد سعيد في نيويورك يوم 25 سبتمبر/ أيلول عام 2003 أُشيد به كمُنَظِّر فكري مؤثر في الشأن العام وفي الخطابات الفكرية في الشرق والغرب. فقد أنتج خلال حياته مجموعة من الأعمال الأدبية والفكرية والنقدية ابتداءً من كتاب "الاستشراق Orientalism" الذي صدر عام 1978 وانتهاءً بكتاب "عن النموذج الأخير: الموسيقى والأدب ضد التيار On Late Style" الذي صدر عام 2006 بعد وفاته. واحتفظت أعماله بصداها في مجالات عديدة ومتنوعة حتى اليوم في جميع أنحاء العالم .
تكريم الفيلسوف الراحل إدوارد سعيد في المؤتمرات والندوات الأكاديمية، التي تقيمها المؤسسات التعليمية والثقافية بهدف استكشاف أعماله الأدبية والفكرية، ما هو في الواقع إلا علامة جلية على الأهمية الهائلة والدائمة لهذا المفكر الاستثنائي. فأفكاره لم تؤدِّ فحسب إلى تحولات نوعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية بل إنها تعدَّت أيضاً حدود النقاشات الأكاديمية.
فأثناء الثورات والانتفاضات السياسية في العديد من البلدان العربية حوَّل الثوار مفاهيم إدوارد سعيد إلى شعارات لهم، وتحولت كلماته إلى كتابات على جدران بنايات تونس وشوارعها خلال ثورة الياسمين. وبذلك لم يسقط الناشطون النظام فحسب بل وأسقطوا أيضاً الأطروحة القائلة بأن أفكار إدوارد سعيد مقتصرة على "الأوضاع القائمة" أثناء حياته وأن أفكاره عبارة عن مفاهيم جامدة وتأويلات مؤسساتية. وهي أطروحة اِعتَبرت إدوارد سعيد مرتبطاً بمجموعة معينة ومحددة من المفاهيم التي سنَّتها سلطة الأوساط الأكاديمية وبعض النقاشات الفكرية.
تجاوز الانقسامات
إحدى محاولات إدوارد سعيد الأساسية، التي يمكن تتبعها واقتفاء أثرها في جميع أعماله ويبقي ارتباطها وثيقا بالقضايا الراهنة سواء كانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية، تتجاوز المنطق الثنائي في العلاقات المتضادة. وهو منطق بات يهيمن للأسف على منهجية تحليل العلاقات الاجتماعية وعلى طريقة فهم التفاعلات فيما بينها.
وأبسط مراتب هذه العلاقات المتضادة هي علاقة الـ "أنا ضد الآخر" أو "نحن ضد الآخرين" (أياً كان هذا الـ أنا أو هؤلاء الـ نحن). وهذا هو ما ينتقده إدوارد سعيد ويصفه بالإشكالي مرارا وتكرارا. فخلال جهده الساعي لتجاوز الانقسامات البينية بحث إدوارد سعيد في مفاهيم مثل المعرفة والسلطة والتمثيل والمكان والزمان والسفر. وبما أن العديد من أفكار إدوارد سعيد باتت معروفة تمام المعرفة، مثل نقده للاستشراق وبحثه وتحقيقه في العلاقة بين الثقافة والإمبريالية، فسيتم فيما يلي ذكر معالجاته الأقل شهرة والأكثر شخصية لما تقدم ذكره من مفاهيم.
في البداية يمكن ذكر ما يكتبه إدوارد سعيد عن نفسه في مذكراته المعنونة "خارج المكان Out of Place" التي ألفها عام 1999. وفيها يكتب عن كونه فلسطينيا وأمريكيا في الوقت ذاته وله لغتان هما العربية والإنكليزية وكلتاهما بمثابة لغته الأم على حد سواء لدرجة أنه لم يكن قادرا على فهم الفصل بينهما. وهذا النوع من الكينونة يمكن رؤيته في الوقت الحاضر بشكل متزايد: فالغرب وبالتحديد في منطقته الشمالية باتت تسكن في أوساطه جاليات كبيرة من المهاجرين غير الغربيين لأول مرة في التاريخ. وفي ظل هذه الظروف، كما يذكر إدوارد سعيد في ملاحظاته، يصبح تعريف الثقافات والمجتمعات شديد التغير والتقلب وفي غاية الإثارة للجدل.
الوعي الاجتماعي بدلاً عن الوعي القومي
تعريف الثقافات والمجتمعات ينبغي أن يتم تعديله بمعرفة ما يطلق عليه إدوارد سعيد مصطلح "الثقافة المضادة"، وهي مجموعة متكاملة من الممارسات المرتبطة بأنواع مختلفة من الغرباء. ولا يقتصر هؤلاء الغرباء على المهاجرين بل يشملون أيضا الفقراء والفنانين البوهيميين [المتخذِين أنماطا سلوكية غير مألوفة] وكذلك العمال والمتمردين.
ومن المهم هنا أيضا ملاحظة أن إدوارد سعيد جادل، عبر طروحات الفيلسوف الاجتماعي [المناوئ للاستعمار] فرانز فانون، جدالا فعالا لصالح الوعي الاجتماعي بدلا من الوعي القومي، الذي يرى إدوارد سعيد أنه تأكيد على العودة الرجوعية إلى انفصال الهوية الاستعمارية عن الهوية الوطنية. وتتضح رغبة إدوارد سعيد في السعي إلى الوعي الاجتماعي بدلا من الوعي القومي جليةً في دعوته إلى حل الدولة الواحدة لقضية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وأيضا سعيه إلى تعديل تعريف الكونية [المبادئ التسامحية] نائياً بها نأياً تامّاً عن الإمبريالية.
فخلاف ذلك يؤدي إلى الإقصاء والانقسام مع الذات خصوصا في أوساط أعضاء الجاليات المهاجرة في المنطقة الشمالية من الغرب وأيضا في المنطقة الجنوبية من الشرق. وفي حالة أخرى يكشف إدوارد سعيد في مذكراته "خارج المكان Out of Place" إخفاءه أمر تعلمه للغة العربية حين كان تلميذا في مدرسة الأطفال الأمريكيين في القاهرة. ثم ينتهي به المطاف إلى عدم تمكنه تماما من اللغة العربية على الرغم من كونها لغته الأم.
حرية ولو للحظات وجيزة
تشير هذه العملية أيضا إلى مركزية مفاهيم المكان والزمان والسفر لدى إدوارد سعيد. فهو يرى أن وضعية التفكير السوية، وخصوصا في مجال التفكير السياسي، تُبقِي الإنسان متجولا ومسافرا بحكم أن المسافرين يوقفون مؤقتا استحقاقات روتينهم المعتاد من أجل تجربة إيقاعات وطقوس جديدة. كما أن المسافر، خلافاً للسلطان، الذي يتعين عليه حماية مكان واحد والدفاع عن حدوده، يعبُر الأراضي ويتخلى طيلة الوقت عن مواقعه الثابتة. وبالتالي فإن إدوارد سعيد يرى في الانحراف عن المسارات المحددة والمعروفة فِعلاً تحررياً كون هذا الانحراف يفضي إلى "الحرية ولو للحظات وجيزة" (المصدر: مذكرات "خارج المكان". الصفحة: 24).
وفي الوقت ذاته فإن المساحات لها طبيعة متعددة الطبقات. وهي طبيعة ناجمة عن التواجد خارج مكان ما أو بعيداً عن داخله فضلا عن أنها ناتجه عن عدم وجود حق [في العيش] في هذا المكان أو [العيش] في نقيضه. وهو ما يشير إلى تجربة إدوارد سعيد فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية حين يقول: "ازدواجية المكان المتخالفة التي أشعر بها [...] ما هي إلا مثال على وجود عدد كبير من الكائنات الحية المشوَّهة بمن فيها أنا [...] ومثال على مكانة البلد الرائع بالنسبة إليهم (ولكن بالطبع ليس بالنسبة إلينا)" ( المصدر: مذكرات "خارج المكان". الصفحة: 142).
وفي هذا السياق يمضي إدوارد سعيد في وصف حال أسرته وخصوصا رد فعل عائلة والده على ضياع فلسطين: المكان الذي فقدت العائلة إمكانية العودة إليه بعد احتلاله عام 1948 وبعد تغيير اسم فلسطين إلى دولة إسرائيل. ويبدو أن والد إدوارد سعيد لجأ، مع سقوط فلسطين، إلى لعب الورق. ويسترجع إدوارد سعيد ذكريات جلوسه إلى جوار والده حينذاك. وكنوع من العقاب على سوء تصرف أبيه يعزو إدوارد سعيد لعب والده بالورق إلى الخواء وتحطم المعنويات. فهو تصرف سلوكي يدل على حد أدنى من التفاعل العاطفي، كما أنه وسيلة لتصغير القلق إلى حده الأدنى بحيث يصبح القلق أقل من أن يمكن الشعور به، بل وهروب من مواجهة الواقع. وكل ذلك يتطلب أقل عدد من الكلمات وهذا يعني: الصمت.
ويَخْلُص إدوارد سعيد إلى أن كل ذلك ليس سوى خضوع نفسي ومعنوي يزيد من الإحساس بسلطة الآخر على الذات. وحين شاهد لعب والده بالأوراق نأى إدوارد سعيد بنفسه عن هذا الموقف وابتعد عن هذه الحالة من خلال التخيل. فهو يرى أن الخيال يعمل على التحرُّر من سلطة الآخرين على أرض الواقع.
روح إدوارد سعيد المقاوِمة
وبهذا تنشأ تراكيب بنيوية حقيقية للقوة في وجود تأثيرات تدميرية هائلة كشف إدوارد سعيد بنفسه منها الكثير. لكنه يرى وجود فرص وإمكانيات لمواجهتها وتعديلها. ومثل هذه الفرص يمكن تتبعها واقتفاء أثرها في حالة إدوارد سعيد حتى في أقل أماكنه وسلوكياته وعواطفه ظهورا.
الهشاشة والألم والخوف والشعور بالوحدة كلها مشاعر متكررة في المراحل الأولى من حياته وكذلك في مراحله الحياتية اللاحقه سواء من الناحية المادية من خلال مرضه أو أحيانا من خلال الضعف العاطفي الذي اتسم به كيانه في فترات معينة. فهو يواجه انتقادات بعدم التجسيد الملموس وأيضا بالتباطؤ والتواني والتململ وعض الأظافر. وكل ما هو ظاهر في حياته هو وسيلة للمقاومة ضد الأقوياء بمن في ذلك والده وكذلك المؤسسات التعليمية التي تعلم فيها.
جميع التقنيات المرتبطة بالضعف، ابتداءً بــ "الفشل" و "سوء التصرف" ومرورا بــ " إلقاء الحجارة " و "تشغيل الموسيقى"، قد تساعد بالفعل على تعزيز ما يصفه سعيد، في سياق آخر، بروحٍ غير خاضعة بل مقاوِمة. إنها روح القدرة على التصرف الفردي بدلا من الجماعية الحتمية وتحديدا في حالات تعرض الإنسان للسلطة المُفْرِطة والهيمنة وافتقاره في الوقت ذاته إلى القوة المادية المساعِدة على الصد والهجوم.
تحت سطح ما تم عرضه في هذا المقال عن إدوارد سعيد يضطر المرء لقبول هاوية متربصة يقف أمامها المرء عاجزاً كونها آلة تعمل على إخماد أية روح انتقاد ممكنه. ولكن المخاطرة بكل شيء، في سبيل العثور على وسيلة ما وبناء جسر ما بشكل انتقادي حالم، هو ما يضع حدّاً للسلبية ويوقف الشعور بالهزيمة ويكبح مشاعر اليأس.
عدنية شبلي
ترجمة: علي المخلافي
تحرير: لؤي المدهون
حقوق النشر: قنطرة 2013
هذا المقال التحليلي يستند على الأبحاث التي قامت بها عدنية شبلي في إطار إعدادها وتحضيرها لبرنامج مؤتمر "رحلة الأفكار: في حوار مع إدوارد سعيد" المُنظَّم في مركز الثقافات العالمية في العاصمة الألمانية برلين بين الـ 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2013 والثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. وُلِدَت عدنية شبلي في فلسطين عام 1974 وحصلت على الدكتوراه في جامعة شرق لندن في مجال وسائل الإعلام والدراسات الثقافية. وتلقت جائزة القطان التقديرية للكُتَّاب الشباب عن روايتين لها وهما: رواية "مساس" (الصادرة عام 2002) ورواية "كلنا بعيد بذات المقدار عن الحب" (الصادرة عام 2004). عُرِضَت مسرحيتها "الخطأ The Error" في إنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية. وهي تدرِّس في جامعة نوتنغهام كما أنها حالياً زميلة في مركز بحوث العلوم الاجتماعية في برلين.