إرث جورج طرابيشي...رحلة "شرق وغرب"
الثقافة العربية حاليا، كجمهور وكمؤسسات، تحتفي بذوي الصيت وأولئك الذين يجيدون الحديث على شاشات الفضائيات لينظّروا في كل شيء ويجيبوا عن أي سؤال يُطرح عليهم. جورج طرابيشي كان مختلفا، لأنه بقي حتى رحيله مؤمنا بأهمية تحصيل الثقافة المعمّقة والتمكّن من استخدام العدّة المعرفية والنطرية، قبل الخوض في مسائل الفكر وإبداء الرأي. لقد كان يعمل بعزلة وتواضع، لكنه أيضا كان غزيرالإنتاج ترجمة ونقدا أدبيا وفكرا.
جورج طرابيشي المترجم كان أكثر بكثير من مجرد مُتقن للغة الفرنسية، التي ترجم عنها واللغة العربية التي نقل إليها. لقد كان من نوع المترجمين الذين ينحتون في الصخر لتطويع المصطلحات الأجنبية وتعريبها، ولقد نجح في ذلك أيّما نجاح.
كانت اللغة العربية التي يستخدمها في كتاباته التأليفية أو المترجمة تبدو منقادة لما يريده لها، إضافة لسلاستها ودقتها. ولا يدرك أحد مدى صعوبة هذه المهمة، إلا الذي اشتغل بالترجمة وحاول إيجاد مقابلات مناسبة جديدة لمصطلحات غريبة لغةً وثقافةً عن العربية. ترجماته ساهمت بصياغة اللغة العربية الحديثة وأضافت لها الكثير. لقد نجح كمترجم في جعل العربية لغة معرفية قادرة على نقل ودمج مصطلحات فلسفية وفكرية وفنية من الثقافة الغربية.
لغة فريدة من نوعها
المأخذ الوحيد عليها هو أنها كانت شبه فريدة، فلا أحد سواه، فيمن أعرف من مترجمي الفلسفة والأعمال الفكرية، كان قادرا على مضاهاتها من ناحية الجودة والابتكارية في ترجمة أو نحت المصطلحات الجديدة. لقد كان طرابيشي من ضمن مترجمين معدودين تمكنّوا من الترجمة التعريبية التي كانت تسعى لجعل العربية مستقلّة في فهم وإنتاج المعرفة. ما الذي كانت ستعرفه الثقافة العربية الحديثة لم لو يقم طرابيشي بترجمة العديد من أعمال سيغموند فرويد. إن هذا السؤال المستفز يجد إجابته البسيطة عند المقارنة بين عدد الكتب التي ترجمها طرابيشي لوحده من مؤلفات فرويد، وعدد الترجمات الأخرى، التي تستحق لقب ترجمة، لكل المترجمين الآخرين.
لولاه لكان قرّاء العربية يعتمدون ربّما على موسوعات الإنترنت المفتوحة وبعض المقالات التلخيصية المترجمة، إذا أرادوا التعرّف على أعمال فرويد. وليس الكلام عن فرويد معناه أن ترجمات طرابيشي اقتصرت عليه ، فقد ترجم طرابيشي نحو مئتي كتاب لوحده بضمنها كتب مثل تاريخ الفلسفة، وهو عمل مرجعي يتألف من ألفي صفحة، وكتاب معجم الفلاسفة في أكثر من ثمانمئة صفحة. كما أنّ له الفضل في تعريف القرّاء العرب بأعمال فكرية معاصرة غاية في الأهمية مثل كتاب هربرت ماركوزه الإنسان ذو البعد الواحد، إضافة إلى ترجمة أعمال أدبية لسارتر وسيمون دي بوفار ورواية زوربا اليوناني لنيكوس كازانتزاكيس التي تعتبر أكثر الرويات المترجمة شعبية في العالم العربي.
لكن نبوغ طرابيشي لم يقتصر على الترجمة فقط بالطبع، فأعماله في النقد الأدبي تكاد تكون في فريدة في النقد العربي المعاصر. فهو أبرع من استخدم التحليل النفسي لفرويد في النقد الادبي المطبّق على أعمال أدبية عربية. لم يستنكف من قراءة ونقد أعمال لروائيين غير معروفين من بلدان عربية عديدة، كما طبّق التحليل النفسي على أعمال روائيين كبار مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو عبد الرحمن منيف.
فرواية الأخير الأشهر مثلا، أي شرق المتوسط، نظر إليها الكثيرون على أنها رواية سياسية تدين القمع السياسي الموجود في المنطقة العربية، إلا أن قراءة النقد الذي كتبه طرابيشي عنها ستضيء مساحات كثيرة فيها تبتعد كثيرا عن المعنى المألوف للسياسة، وهي اكتشافات مسجّلة باسمه وحسب. إلا أنه لم يكتف بالنقد الأدبي لأعمال الأدباء الرجال، بل قرأ أدب النساء العربيات وكتب عنه أيضا. فكتاب مثل "شرق وغرب" رجولة وأنوثة الذي صدر في عقد السبعينيات هو قراءة لمعاناة المرأة العربية، وأيضا قراءة في معاناة الأديبات العربيات.
نفهم بعد قراءة هذا الكتاب، من ضمن أشياء أخرى، مدى الترابط بين القمع الجنسي والقمع السياسي. أما في كتابه الآخر الأدب من الداخل فقام بمحاولة نادرة في النقد العربي هي تحليل نفسي للشخصيات الأدبية في الأعمال الأدبية بمعزل عن مؤلفيها، في أسلوب يذكّر بالنقد الأدبي الفذّ الذي قام به أي سي برادلي لبعض شخصيات شكسبير في بدايات القرن العشرين.
أفضل خاتمة لحوار فكري عربي للقرن العشرين
وعندما أزفت ساعة الرحيل عن بيروت التي "أحبّها أكثر من أي مدينة في العالم" بسبب الحرب الأهلية، قال في مقابلة إنه لم يأخذ معه سوى كتاب واحد هو كتاب الراحل محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي. واعتبارا من تلك اللحظة سترافقه أجزاء هذا الكتاب ومؤلفه على مدى عقدين من الزمن. لقد أعاد ذلك الكتاب جورج طرابيشي، المسيحي المولد، إلى بيئته ذات الثقافة العربية الإسلامية. فبعد أن ساهم بقوّة في تعريف الثقافة العربية بمؤلفات وترجمات من الفكر الغربي، بدأ مشروعا بحثيا جديدا، وسنّه ناهزت الخمسين، للتنقيب والبحث والتثقيف الذاتي في التراث العربي والإسلامي.
إن الكتب التي بلغ مجموعها آلاف الصفحات وضمّت السجّال الفكري الذي خاضه مع الراحل الجابري هي بحق أفضل خاتمة لحوار فكري عربي للقرن العشرين، كما وصفها مواطنه عبد الرزاق عيد. المثقفون الكبار لا يستحون أن يبدأوا مجدّدا بكل تواضع، فكما قال جيل دلولز ذات مرة، بنبرة لا تخلو من التهكّم من بعض مجايليه، إنه على عكس كثير من المثقفين لا يكوّن رأيا عن موضوع إلا بعد أن يقرأ الكثير حوله، وغالبا لأجل تأليف كتاب ما.
قرار جورج طرابيشي بالعودة إلى التراث العربي لم تكن مدفوعة إلا بمسؤولية المثقف إزاء مجتمعه الذي يعيش وينتمي إليه ليرفده بنتاج فكره فيما يجري، وكان ذلك يعني أولا قراءة مستفيضة لذلك التراث، قبل أن يمنح نفسه الحق في الخوض فيه. انهماك طرابيشي بالتراث العربي، الذي أنتج كتبا مثل مصائر الفلسفة بين الإسلام والمسيحية أو كتاب من "إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" أو "من النهضة إلى الردّة" هو اشتغال ابن على تراث ثقافته العربية الإسلامية، وليس مساهمة استشراقية أو دينية سجالية.
لكن لاشتغاله على التراث العربي الإسلامي ميزة أخرى تجب الإشارة إليها في الخاتمة وهي أنه لم يتعامل معه من باب البحث الأكاديمي، بل أنّ القارئ يشعر على الدوام بأن المؤلف حزين لمآل المجتمعات العربية، وأنه نذر نفسه للمساهمة في إيجاد مخرج فكري للمأزق الذي يعانيه الفكر العربي، وهو ما أراد له أن يتمّ من خلال التصالح مع ذلك التراث وإعادة قراءته وفهمه وتأويله. لقد أوردتُ قبل قليل أنه ابن للثقافة العربية الإسلامية، ولكن هذه الجملة لم تكن من اختراعي، بل هي ما وصف نفسه بها ذات مرة في مقابلة أُجريت معه.
أحمد القاسمي
حقوق النشر: قنطرة 2016