نقد المركزية الأوروبية في رؤية سلافوي الفلسفية
السبب وراء كتابة "سلافوي جيجيك" لكتابه: "أفكار هرطوقية، الإسلام والحداثة" هو الهجوم الإرهابي الذي وقع سنة 2015 على المجلة الساخرة "شارلي إيبدو" في العاصمة الفرنسية باريس.
ينقسم كتابه إلى جزئين: الجزء الأول بعنوان "الإسلام كأسلوب حياة" هو إضافة للمناقشات الحالية الدائرة حول الإسلام في الحاضر، والجزء الثاني بعنوان "نظرة في أرشيف الإسلام" يعالج المسائل الأساسية والتحليل النفسي في الفكر الإسلامي.
في مقدمته لهذا الكتاب يعتبر "جيجيك" أن التحالف الذي أظهره رؤساء الدول بعد هذه الهجمات ضرب من النفاق. "في ذلك اليوم وقف رؤساء العالم يدا بيد: من ديفيد كاميرون إلى سيرجي لافروف ومن بنيامين نتنياهو إلى محمود عباس، إذا كان هناك صورة معبرة على النفاق فهي هذه الصورة"، بحسب رأي جيجيك. وهنا يتساءل جيجيك لماذا لم يوجه هذا الهجوم ضد أمريكا بدلا من فرنسا؟ ففي الأصل إن هدف الإرهابيين مقاومة الوجود الأمريكي في العراق. لكن دور الإمبريالية الفرنسية في الكثير من البلدان الإسلامية، مثل الجزائر وليبيا ومالي، وكذلك الدور المهم الذي تلعبه في حرب سوريا، ينتبه له الإرهابيون.
يسار غير قادر على النقد
يلوم "جيجيك" اليسارين الليبراليين لعدم انتقادهم لهذه الأفعال بسبب خوفهم من اتهامهم بالعنصرية واستثارة المسلمين، وبسبب أنهم يعتبرون أن الغرب هو المسؤول عن الجرائم التي تحصل فيما يسمى بالعالم الثالث. إن عدم قدرة اليسار على النقد ووسم كل نقد للإسلام بأنه عنصرية معادية للإسلام يعتبره جيجيك مشكلة مرضية عند اليساريين.
ويخلص جيجيك إلى نتيجة مفادها أن هناك تسامحا زائدا عن الحد مع الإسلام. ولكنه لا يتحدث عن الطريقة التي يتوجب التعامل بها مع هذه المجموعة الدينية. فهل يريد أن نضع الأقلية المسلمة في أوروبا تحت مزيد من الضغط. لايجيب "جيجيك" عن هذا السؤال. في المقابل يعلن أن الأصولية هي بمثابة رد فعل مضلل على الليبيرالية ومظاهرها. رغم أنه يعتبر الليبيرالية حركة مضادة للأصولية إلا أنها وبسبب ضعفها الفكري تساهم في ظهور الأفكار الراديكالية كالأصولية. لذلك فإن الليبيرالية تحتاج لأجل المحافظة على منجزاتها وقيمها إلى الأجوبة التي يقدمها اليسار الراديكالي.
حُجج متناقضة
وعلاوة على ذلك يستقي "جيجيك" أيضا حججا من الفيلسوف المعادي للفاشية تيودور هوركهايمر الذي يقول إن "من يصمت على انتقاد الرأسمالية يجب عليه أن يصمت على انتقاد الفاشية. وينطبق ذلك أيضا على الأصولية. فمن يصمت على أخطاء الديمقراطية الليبرالية، يجب عليه أن يصمت على الأصولية الإسلامية".
من جهة يصف "جيجيك" الليبرالية كحل للأصولية التي يدعمها اليسار الراديكالي. وفي الوقت نفسه لا يبرئ ساحة الليبرالية. وهو مايجعل تحليل "جيجيك" أكثر تناقضا، خصوصا وأنه يعترف بالدور الكبير لليسار الراديكالي في مكافحة الأصولية.
وفي الجزء الثاني من كتابه، يغامر جيجيك بعرض تحليل نفسي للإسلام. ويبدأ مناقشته هذه بتحليل مفهوم الإله في الإسلام. انطلاقا من هذا التحليل يدرس الفرق بين الإسلام والديانات الأخرى كالتالي:
يبتعد الإسلام في فهمه للإله عن منطق الإله ـ الأب السائد في المسيحية واليهودية: الله ليس أبا، ولا حتى بمعنى رمزي، إنه الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد.لا يوجد في الإسلام أي مساحة لمفهوم العائلة المقدسة.
وبذلك يتفرد الإسلام -بحسب جيجيك- بفهم خاص حول الإله. ولا توجد عائلة مقدسة في الاسلام، بل إن الإسلام ظل يؤكد يُتم الرسول.
إن هذا التصور عن الإله في الإسلام لا يمكن مقارنته بأي تصور ديني آخر. فأسرة الرسول لا تتمتع وفقا لهذه النظرة بأي قداسة. ولكن ذلك لم يمنع من حصول عائلة النبي لاحقا على الحق في الخلافة. فقداسة آل البيت أصبحت مع المذهب الشيعي أساسا من أسس العقيدة.
إذاً فهناك نوع من القداسة التي تعطى للعائلة في الإسلام المعاصر، رغم أن ذلك محصور في أقلية من المسلمين. وكان من الممكن لجيجيك أن يذكر ذلك، حتى تتوضح الصورة بشكل أفضل لدى قارئه. وفيما يتعلق بمأسسة الإسلام، يكاد جيجك لا يجد أي تشابه مع عملية المأسسة في الدين المسيحي. إن وجود الأمة كجماعة دينية، ووجود مفاهيم معادية للدولة في الإسلام هي في الحقيقة ظواهر تمنع حدوث مأسسة للدين الإسلامي. وفي هذا السياق يشير أيضا جيجيك إلى أن الإسلام -بعكس الديانات الأخرى الممأسسة- لا يستند إلى صورة الإنسان المضحِّي.
إن إحدى الانتقادات التي يكثر توجيهها لجيجيك تتمثل في أنه يتسرع في تحليلاته لمسائل معقدة ويقع نتيجة لذلك في التناقض. لربما يكون هذا الانتقاد مبالغا فيه بعض الشئ ومع ذلك نفتقد في هذا الكتاب تماما لأي نظرة سياسية يسارية. وبدلا من ذلك نجد أنه يتبنى أمورا مثل تحديد حركة اللاجئين في أوروبا ويدافع عن مواقف تتسم بالمركزية الأروبية.
نظرة ثنائية إلى العالم
ومن الملاحظ أيضا، أن استخدام جيجيك لمصطلحات مثل الإسلام والحداثة تتسم عن قصد بإظهار التناقض بينهما وبذلك يساهم جيجيك في تأجيج حالة العداء ضد المسلمين واللاجئين في أوروبا. ورغم أن جيجيك ينتقد الليبيرالية إلا أن كتابه يساهم في ترسيخ صورة تقسم العالم إلى أقطاب. فمن ناحية نرى في الكتاب تصويرا للغرب بأنه ليبرالي ومتسامح والآخرين باعتبارهم قطباً آخر يمثل الإسلام والأصولية. ولا يساهم جيجيك في إظهار التنوع والاختلاف الذي يتسم به العالم الإسلامي.
أما النقاط القليلة التي يذكرها المؤلف والتي ترسم صورة مفصلة عن الإسلام فتبدو مجرد محاولة ضعيفة من المؤلف ولا تؤثر على عموم موقفه المتشدد. ومن الأمور التي يكثر جيجيك من ذكرها أن الإسلام يتسم بعناصر ذكورية أبوية ويمكننا هنا أن نتفق معه، لأن الإسلام قد نشأ في بيئة تتسم بذلك. لكن جيجيك يخفي مثلا ما تذكره الكثير من النسويات المسلمات اللواتي يستنبطن من القرآن آراءا تختلف كليا عن الآراء التقليدية المحافظة. ومما يلاحظ أيضا عند جيجيك تأكيده على السلطة التي يتمتع بها النبي محمد فيما يخص نسائه.
ولربما يكون ذلك صحيحا فيما يتعلق بدور النبي القيادي. لكن يجانب الحقيقة عندما يتحدث عن الرغبات الجنسية غير المحدودة للنبي. وهنا يجب التأكيد على أن الإسلام كان قد حدد تعدد الزوجات وفضل الزواج من زوجة واحدة مما شكل حينها تغييرا كبيرا عما هو سائد. إن تصرفات النبي مع النساء يجب أن تفهم في سياقها التاريخي للثقافة العربية التي كانت سائدة حينها.
تاركان تيك
ترجمة: وفاء حسين
حقوق النشر: موقع قنطرة 2017