نظرية المؤامرة وصناعة العدو: «كل شيء استراتيجي..الكل يتآمر»
من هنا، كثيرا ما تغدو نظرية المؤامرة مفتاحا حقيقيا لتفسير العالم ولصناعة العدو، فيُزعم أنها قادرة على تفسير ما تمر به بعض المجتمعات من أزمات؛ عبر نسج سلسلة من البراهين البسيطة، التي تبدو للوهلة الأولى شيقة، كي تساعد على الكشف عن العدو «الخفي» الذي يعيش بين ظهراني هذه المجتمعات، والذي يمسي سببا أساسيا لكل أزماتها ومشاكلها اليومية.
ومن جهة أخرى، فكثيرا ما يفسر الشيء المستعصي على الفهم بالعمل الذي تقوم به قوة أجنبية ما. كما وتزدهر فكرة التآمر من جديد إبان الصدمات الجماعية الكبرى: الثورة البلشفية، أزمة 1929، اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، الربيع العربي، ظهور «داعش» وعلاقتها بأجهزة الاستخبارات الإقليمية و العالمية (كما روجت مؤخرا مجلة «دير شبيغل» الألمانية)…هنا نجد أن العدو الخفي هو أسوأ من العدو الذي نراه، فهو يدير الأمور في الخفاء عبر حلفائه الفاسدين، ولا يكون العدو الخفي دائما قريبا، بل يمكنه أن يكون أحيانا على مسافة بعيدة جدا، ومع ذلك يحتفظ بتأثير من بعد. إنها «يد الخارج» التي تربط العدو الخفي بخيانة الجماعة الوطنية.
ولعل هذه الرؤية، لم تعد تقتصر على الكشف عن بعض الوثائق أو الروايات الخيالية، مثل بروتوكول حكماء صهيون مثلا والمتداولة إلى اليوم في مكتبات العالم العربي الإسلامي، أو على سبيل المثال ما تتيحه لنا بعض الكتابات الصحافية الغربية، مثل كتابات الصحافي الفرنسي تيري ميسان «الخديعة المرعبة» الذي باع أكثر من 800 ألف نسخة في فرنسا لوحدها، شرح فيه وبأسلوب صحافي ودرامي شيق؛ كيف أن البنتاغون لم يتعرض لهجوم طائرات في أحداث 2001، وأن ما حدث هو تخطيط وفعل استخباراتي كبير.
وحول هذه النظريات، يمكننا أن نستحضر كتاب الأكاديمي والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا «صنع العدو: كيف تقتل بضمير مرتاح»، حيث يجادل فيه أن هذه النظريات غالبا ما أعادت إحياء نفسها مع الرؤية السينمائية لأجهزة الاستخبارات الكلية القوة خلال الحرب الباردة. ولقد دعم التلاعب، والعملاء المزدوجون أو الثلاثيون، والأقمار الصناعية والتقاط الاتصالات والانقلابات، فكرة وجود قوة خفية تتلاعب بالعالم، فقد كان بن لادن مساعدا للاستخبارات الأمريكية، مثلما كان شامل ياساييف رئيس الشيشان عميلا لـجهاز الاستخبارات الروسي »كي جي بي».
ولذلك فقد اهتمت السينما كثيرا بسوق القلق، حيث استخدمت البلدان كافة «الفن السابع»، ولكن يبقى الأمريكيون، من دون منازع، الأقوى في الترويج (البروباغندا) السينمائي. وقد بدا كثير من الإنتاج الهوليوودي تنبؤيا أو استباقيا بعد الاعتداءات على مركز التجارة العالمي، فمثلا يسرد فيلم «البرج الجحيمي» قصة حريق في برج، وفي فيلم «فخ من الكريستال» الذي عرض سنة 1988، تحتجز مجموعة مؤلفة من 12 إرهابيا، موظفي إحدى كبرى الشركات كرهائن.
ولكن بروس ويلس ينتصر عليهم بمفرده. ويظهر الإسلاميون لأول مرة في 1998 في فيلم «حظر التجول عليهم»، كما تدفعنا بعض الحوارات في هذا الفيلم إلى التفكير: يصيح أحد مستشاري الرئيس متعجبا: «يا سادة يجب عليكم النظر في أطالسكم، كان الشيخ المسؤول عن الاعتداءات حليفنا وانقلب علينا. ولكن يجب تفهمهم: ساعدناهم ثم تخلينا عنهم». ويعالج فيلم «إنذار» عام 1995 الإرهاب البيولوجي. أما العدوان الدولي الذي اختلقه المستشارون في العلاقات العامة فهو موضوع فيلم «رجال ذوو نفوذ» (1997)، وفيه يقنع مستشار في الاتصالات رئيس الولايات المتحدة، خلال حملته الانتخابية، أن يستثير تدخلا حربيا ضد ألبانيا (كانت كوسوفو غير معروفة كثيرا في ذلك الحين). وجف الفيض فجأة بعد الحادي عشر من سبتمبر، واختارات الاستديوهات أن تلغي عرض بعض أفلام الكوارث مثل، «نزيف الأنف» كون حكايته تقوم على محاكاة مؤامرة تهدف لتدمير برج التجارة العالمي.
نوابض الخطاب: كل شيء إستراتيجي
ويرى كونيسا أن الرأي العام غالبا ما يظهر اهتماما كبيرا بالمسائل الجيوسياسية، لكنه لا يقدر دائما كيف أن الكلام الإستراتيجي عن الديمقراطيات الكبرى، هو قبل كل شيء خطاب له كلماته وأساطيره وفصامه النفسي. إنها ميثولوجيا بالمعنى الذي يحدده راؤول جيراديه «نظام معتقدات متماسك وتام»، يرتكز على قواعد أيديولوجية، وتركيبة قاطعة، ونسبية ثقافية تشرعن المعيار المزدوج، حيث لا يوجد وجه للمقارنة بين الآخر وبيننا بتاتا، مثل الأطباء الذين يشخصون الأمراض: «إعملوا ما أقول وليس ما أفعل». والهدف هو دائما تعبير عن القوة من خلال تحليلات تتمحور حول إحساس بالتهديد أو الخطر، وبتصورات دولية تفتقر إلى المساواة ويشوبها الغموض، لكنها تضع حدودا وقيودا على الآخرين.
ووفقا للكاتب، فإن الخطاب تبعا لهذه الرؤية ينبغي أن يكون علميا. والمواضيع القابلة للعب مثل «رقعة الشطرنج الكبيرة»، «اللعبة الكبيرة»، نظرية أحجار الدومينو ،»لاعب الشطرنج» هي أساسية للبرهنة على العقلانية الباردة للخصم، وإصراره. ويفيد هذا الأمر في استنتاج إلى أي حد هو العدو مكيافيلي وخطر. ولذلك كان يقال مثلا إن صدام حسين وحافظ الأسد كانا لاعبي شطرنج، وهو أمر لا يؤكده أي شريك في اللعب لأي من هذين الديكتاتورين. والجيوسياسية التي شيطنت لزمن طويل بسبب تجاوزات النازية، «أصبحت على الموضة الثانية».
وعلى غرار ما كانت الحال في السبعينيات، حيث كان كل شيء سياسيا، وفي الثمانينات كان كل شيء جنسيا، واليوم كل شي هو جيوسياسي. فـ«الشطحات» الجيوسياسية برأي كونيسا مثل «قوس الأزمات»، «المزلاج» «المحور» و«النزول نحو البحار الدافئة» و»المخاطر» أو «المصالح»، تموضع الخطاب ضمن بعد كوكبي. ووفق المعلقين الفطنين، فإنه لا يوجد على سطح الأرض أي مكان من دون أهمية إستراتيجية أو غير منتمٍ إلى منطقة نفوذ. ويمكن تفسير كل أزمة حتى لو كانت محلية، من خلال وضع البلد الإستراتيجي. هكذا كان يُبرر في المحافل الرسمية الدعم غير المشروط الذي قدمته فرنسا للرئيس الرواندي هابيمارنا إلى أن وقعت الإبادة العرقية عام 1994 تصديا للطموحات الأنكلوسكسونية.
ووفقا لكونيسا، فإن المقدرة على نشر القلق أو الإعلان عن انقلاب مهم في الحياة الدولية باتا يسهمان في نجاح الكتاب الذي يعلن عن ذلك، حتى إن لم يسهما في صدقية التوقعات.. خاصة إن كان هذا الكتاب صادرا عن خبير أو مراكز تفكير أمريكية، تؤمن له تغطية إعلامية. فمثلا نجد أن العديد من الدراسات الأمريكية حظيت بأهمية كبيرة كونها تنبأت منذ الستينيات بأنه سيكون في عام 2000 أكثر من 25 بلدا نوويا على كوكبنا، ونحن اليوم وصلنا بصعوبة إلى 9 بلدان، كما عجت المكتبات بدراسات حول «الاتحاد السوفييتي في عام 2050»، ودراسات مستقبلية كارثية حول انهيار الغرب وتجريده من سلاحه الأخلاقي والمادي، بالإضافة لذلك، ما يلحظه كونيسا في هذه الكتب، أنها تؤسس لمعجم جديد من العبارات الجاهزة الإستراتيجية: «سنة كل المخاطر»، العدو «لا يخفي نواياه في إعادة بسط هيمنته على مجمل منطقة نفوذه» وبرنامجه العسكري دائما «طموح»، ويعد «حربا عدائية مستقبلية» ويفتعل «تهدديات في كل مكان»، في ما يحاول العالم بين القطيعة والاستمراية «حماية مبادئه».
وبرأيه؛ تتيح اللهجة التنبؤية عناوين مثيرة: شهدت احتضار العالم القديم، شهدت عالما مليئا بالشك …كما تستهلك الجيوسياسية كثيرا من المفاهيم التجميعية الحديثة مثل العالم ثالثية النيوكولونيالية (الاستعمارية الجديدة)، الإرهاب المفرط، المجتمع ما بعد الصناعي، العولمة وهي مفاهيم تبسط التعقيد وتبهج القارئ.
ولكي يجعل المعلقون كلامهم أكثر إثارة، فهم لا يتوانون عن رؤية طموحات سرية ومخططات خفية ومصالح موضوعية.. تستبعد مبدئيا الجهل، أو بالأحرى غباء الإنسان في التفسيرات. فوفقا لهذه الرؤية، لا يوجد مكان للغباء أو للاعقلانية لدى الطاغية الذي فقد منذ عقود عادة أن يعارضه أحد، ولا مكان للجهل (الذي لا حدود له) عند بعض أصحاب القرار في الديمقراطيات الكبرى.
محمد تركي الربيعو
محمد تركي الربيعو 2017