مسامرات الإدمان والحنين
صديقان متباينا الطباع والشخصية وغريبان في الولايات المتحدة يتآنسان بمونولوغات ليلية متبادلة. ذلك أن أفضل شيء في وجود شخصين يتقاسمان لغة أجنبية هو أنهما في حالات تعذر اللغة يستطيعان التفاهم حتى من دون كلمات.
وهما يخرجان من إحدى الحانات على عتبات الفجر كانا شبيهين بـ"غريقين يحاولان الطفو على سطح الماء". عمر وعابد طالبان، الأول من تركيا والثاني من المغرب، ومن خلال مظهرهما الخارجي يمكن للمرء أن يرى فيهما إرهابييْن مندسيّن "sleepers"؛ لكن ما الذي يدور في خاطريهما بالنهاية؟
بيت اللغة
عمر سكران. إنه الثمِل الوحيد في عالم واقعي جاف. في خضم هذيانه يبحر فوق مركب الزوال الزمني الذي لا يرحم. عمرغنوصي وليس هناك من شيء مقدس لديه عدا بطبيعة الحال القهوة والبانك والمرأة. وهل له من خيار آخر؟ فحيث لا يوجد نجم واحد ثابت في هذا العالم سيكون عليه أن يسعى إلى تثبيت أفكاره الخاصة على الأقل.
أما عابد فهو الصاحي الأبدي. الصاحي الوحيد في عالم موغل في الجنون. للكحول بالنسبة إليه رائحة كريهة. لكنه، ولئن كان يعتبر عمر "ضالا"، فإنه لا يسعى إلى دفعه إلى الهداية. بل إنه يرافقه، عوضا عن ذلك، إلى أوساط القاع السفلي للحياة الليلية الأميركية حريصا في ذلك على أن لا يصيب الصديق الذي لا يعي ما يفعل، أي مكروه جسدي أو معنوي.
عند قراءة مسامرات الإدمان والحنين التي تدور بين جوالة عريق وآخر متأبّد في العود الدائم يدرك المرء بسرعة أن الكاتبة على دراية بأسلوب السرد الصوفي القائم على منطق التعارض الصدفوي (Coincidentia Oppsitorum).
أليف شفيق المولودة في مدينة سترازبورغ سنة 1971 من أم كانت تشغل منصب دبلوماسية تركية قد قضت سنوات شبابها متنقلة بين مدريد وعمان وكولونيا، بعدها عادت إلى تركيا ثم غادرتها مجددا لتهاجر إلى الولايات المتحدة.
في روايتها الأولى "الصوفي" التي أصدرتها في السابع والعشرين من عمرها، تروي الكاتبة قصة متصوف خناثي من المنتمين إلى إحدى الطرق الصوفية، وقد نالت بها جائزة الجمعية المولوية لأفضل مؤلَّف في مجال الأدب الروحاني.
أما روايتها الثانية "مرآة المدينة" المترجمة، فتتطرق إلى موضوع حياة اليهود الذين رأوا أنفسهم إبان حملات التفتيش الإسبانية مضطرين إما إلى تغيير معتقدهم أو إلى الهجرة إلى البلدان الواقعة تحت سلطة الإمبراطورية العثمانية للقرن السابع عشر.
إحدى أهم ممثلي الأدب التركي المعاصر
وقد حازت أليف شفق على كل الجوائز الأدبية الشهيرة في تركيا وهي لم تبلغ بعد سن الثلاثين. وفي ظرف وجيز استطاعت أن تحتل مرتبة أهم ممثلة للأدب التركي الجديد إلى جانب أورهان باموك. ومع ذلك فإنها ظلت شبه نكرة في البلدان الناطقة باللغة الألمانية. ومع رواية "قديسوا الجنون الوشيك"، المترجمة إلى الألمانية هي أيضا، تكون قد ألفت أول رواية لها باللغة الأنكليزية مباشرة.
في روايتها المكتوبة بـ"اللغة العالمية" الأولى ستكون تركيبة شخصياتها أيضا ممثلة لبلدان من شتى أصقاع العالم. وستكون اللغة بالنسبة إليهم شكلا يتقولبون داخله وبيتا يستطيعون الإقامة فيه جيعهم: عمر وعابد وبيو الإسباني، ثالث الشلّة، ذلك الكاثوليكي الورع الذي يبحث له عن متنفس للشعور بالذنب في الهوس بالنظافة.
جميعهم يتحركون داخل أجواء شبيهة بتلك التي ترد في نص "أميركا" لفرانس كافكا. مريدون عديموا التجربة يسعون إلى التعلم على أيدي شيوخ محنّكين من الممسكين بخيوط ذلك الواقع الذي يتحركون داخله. وعلى إثر التغيّر الذي طرأ على مجرى حياتهم سيقضون فترة من الزمن في تلمس مسارهم داخل عالم من الأنماط الموضوعة موضع السؤال، جادّين بحماس وبطريقة غريبة في السعي إلى إيجاد بنية حاضنة لمعالجة فك رموز هذا العالم.
تأخذ بأيدي هؤلاء الشبان نساء يمثلن بحساسياتهن المرضية الجسد-نفسية النمط النموذجي للمرأة الأميركية: هناك مثلا أليغرا صديقة بيو، وهي لاتينية من صنف النساء المعتدات بأنفسهن والتي تمتهن الطبخ بولع لكنها تعرض كليا عن الأكل.
وهناك جايل التي تتمثل أولى ذكريات طفولتها في محاولة انتحارية التجأت بهدف التخلص من ذكراها إلى استبدال إسمها الأصلي والتخلص منه كمن يلقي بـ"لعبة قديمة مكسورة"، وقد عرفت من خلال ذلك تحولا في حياتها من تلميذة ورعة إلى "ربّة بابلية أشورية" ذات حضور صاعق.
هذه المرأة بالذات التي تقرأ سلافوي زيزاك، وصاحبة التصويرات الذاتية المشطة في الغرابة والإثارة والجسد العُصابي، والتي تواظب على حصص المعالجة النفسانية وتشعر بنفسها أكثر غربة وقلقأ من أولئك المبتدئين القادمين للتو من الشرق الأدنى إلى أميركا- هذه المرأة بالذات هي التي يختارها عمر زوجة له. جايل هذه التي تدفعها إحساسات غير واقعية وتشلّها الرغبة في "تحطيم كيانها الخاص" هي "قديسة الجنون الوشيك" الحقيقية.
عينة مثلى للأشخاص غريبة الأطوار التي تقطن القرية العالمية، هذه التي تجمع شفق بينها تحت سقف واحد في روايتها وتجعلها تتخاصم حول مفاهيم القدر والمصير ومواقيت الصيام ضمن إطار التنوع الثقافي، وحول وسائل الإدراك لدى المتصوفة والمدمنين على المخدرات، وكذلك حول ما إذا كان الإنسان بحاجة إلى إله، أم أن الله هو الذي يحتاج إلى الإنسان.
شفق التي تشغل اليوم منصب أستاذة محاضرة في مادة الدراسات والأجناس متعددة الثقافات بأريزونا حيث تمارس قراءة جديدة ومتعددة الاختصاصات لآداب الشرق الأدنى، تلعب في كتابتها بوعي على المكونات الثقافية للهجانة وفي الوقت نفسه على انتظارات القراء التي تنشأ عن آليات البرمجة الذهنية المتصلة بتكوينتنا الثقافية واللغوية.
هذه الخلفية هي التي تتسبب فعلا في تقييد الشخصيات وجعلها ترتد في بعض المقاطع إلى موقع خلفي متلكئ بالنسبة للحيوية المتوفزة التي يندفعون باتجاهها.
المنفى كإشكال ميتافيزيقي
لكن الأمريتعدى لدى شفق مجرد استدعاء لذاكرة مجتمع الهجرة. بل أكثر من ذلك فمن خلال الأيقونة الجدارية لقديسي الحياة اليومية تشع النتيجة العرفانية التي تثبت بأن "المنفى" يمثل بالنهاية إشكالا ميتافيزيقيا.
هذه الملائكة الواقعة من السماء؛ جميعهم وجدوا أنفسهم ملقى بهم في هذه البلاد الفسيحة للهفة على الحياة والخوف من الموت، والمجون والحقد على الذات والخجل. ويعبر حنينهم عن نفسه من خلال أنواع عديدة من الإدمان، غير قادرة كلها عن إسكان تلك الرغبة المتأججة فيهم.
هناك إذن قطعاً رغبة في التوصل عبر كل هذا الملل إلى إيجاد اتجاه في الخواء، وإلى مأساة في المهزلة. أليف شفق كانت قد نعتت نفسها بنفسها ذات مرة بالمتصوفة الغنوصية؛ وعندما يشرب واحد من شخصياتها قهوة أو يأكل واحد آخر شوكولاطة فإن الأمر يتعلق لديها بالنهاية دوما بسيكولوجية البحث عن خلاص ما بين الإدمان والحنين.
كما أنها تدع شخصياتها غير الشفافة بالنسبة لنفسها تعبر بسلوكات غاية في الغرابة والإثارة عن شيء من "البقية اللامتناهية" لمجمل المسار الحياتي للإنسان، وتكون بذلك قد كشفت عن جانب من خفايا الوجود الإنساني فيما هي تحفظه.
بقلم مانويل غوغوس
ترجمة علي مصباح
صدر المقال في صحيفة نويه تسووريشر تسايتونغ
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005
قنطرة
الكاتب التركي أورهان باموك
تتناول رواية باموك الأخيرة "ثلج" النزاعات الداخلية للأتراك المعاصرين، التناقض بين الحداثة والإسلام، اللهفة للإنضمام لأوروبا – والمتزامن مع الخوف من إبتلاع أوروبا لتركيا. في الحوار التالي يتحدث الكاتب عن روايته وعن الجو الثقافي السائد في تركيا
أمينة أوزدمار - كاتبة ألمانية ذات الأصل التركي
منحت جائزة كلايست الادبية للعام الحالي، وهى من الجوائز الادبية الالمانية الرفيعة، الى الكاتبة الالمانية ذات الاصل التركي أمينة أوزدمار.