افتتان الغرب الأوروبي وانبهاره بالشرق العربي
في أكثر مقاطع الرواية، الرائعة والمحيرة والمتعددة الأوجه، إمتاعاً يتذكر فرانتز رِتر، المتخصص في مضمار تأثير الموسيقى الشرقية على الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، رحلته إلى تدمر في سنوات دراسته في سوريا. آنذاك كان السلام ما يزال مرفرفاً بجناحيه فوق تلك الواحة في البادية السورية. تسكن الذكريات روح فرانتز ويستوطن جسدَه مرضٌ، لم يسمِّه المؤلف. وتسبب الذكرياتُ والمرضُ الأرقَ لفرانتز وتجعله يجوب الليل كله شقته في فيينا جيئةً وذهاباً.
هناك في تدمر يخيم الراوي أمام القلعة وفوق أطلال آثار المدينة الرومانية العتيقة، ويوقد النار ليلاً. تشاركه التخيمَ محبوبته سارة، التي عجز في الوصول إلى قلبها، وعالم آثار ألماني نصف مجنون، ومؤرخ فرنسي. ولكي يجعل رفاقه ينسون ساعات الليل القارصة البرودة، يحدثهم فرانتز عن المغامرة الفرنسية، مارغا داندوران (1893-1948)، التي كانت تجلب النحس والموت على الرجال الذي يحيطون بها. وقد تولت مارغا إدارة فندق "الملكة زنوبيا" في تدمر.
حمل الفندق اسم ملكة تدمر "زنوبيا" ومن شرفته كان بوسع المرء التمتع برؤية "معبد بل"، الذي نسفه تنظيم "الدولة الإسلامية" بالمتفجرات. غير أن المقام في تدمر لم يحلُ لمارغا وشعرت بالملل، مما حدا بها إلى شد الرحال إلى مكة في ثلاثينيات القرن العشرين. ولكي تتمكن من دخول مكة، وهي غير مسلمة، تزوجت مارغا بأحد الرجال البدو زواجاً صورياً، غير أنهما ما أن التقيا في مدينة جدة على شواطئ البحر الأحمر، حتى لقي البدوي حتفه مسموماً. وبشق الأنفس تمكنت مارغا من النجاة بنفسها من عقوبة الإعدام والنفاذ بجلدها.
الوقوع في شباك سحر الشرق
رواية "بوصلة" هي كنز، لا يمكن سبر أغواره، مثل الكثير من مثيلاتها من القصص عن المغامرين والمختصين بالآثار والباحثين من الأوروبيين كالسويسرية آنا ماري شفارتزينباخ (1908-1942) والبريطانية غرتولد بل (1868-1926). انبهر هؤلاء بالشرق ووقعوا في حبه. وقد أدى هذا الانبهار -كما قدمه ماتياس إينار-إلى تبادل ثقافي غني في القرون الماضية. وقد انعكس هذا التبادل الثقافي على الأدب والفن الأوروبيَّين، وليس آخراً على الموسيقى الأوروبية. فعلى سبيل المثال استوعب الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته (1749-1832) الآداب الشرقية وهضمها وأثرت فيه، وتجلى ذلك واضحاً في مجموعته الشعرية الغنائية "الديوان الغربي-الشرقي". كما ألهم التراث الثقافي لتركيا والعرب والشرق الكثير من الأوروبيين من الشعراء والمؤلفين والموسيقيين والرسامين. إذ وضع هؤلاء الكثير من القصص والألحان بوحي من التراث الشرقي وأدمجوها في التراث الغربي، بينما أخذ أوروبيون آخرون هذا التراث دون أن يتعرفوا على بلدان الشرق أو ثقافاتها بأنفسهم.
يطلعنا ماتياس في "بوصلة"، وعلى لسان الراوي، على تأثير الإيقاعات والألحان الموسيقية الشرقية على أعمال كبار الموسيقيين الأوروبيين مثل فرانس لست (1811-1886) وهيكتور بيرليوز (1803-1869) وفولفغانغ أماديوس موتسارت (1756-1792)، هذا التأثير الذي لا يعلمه اليوم سوى المختصين بالموسيقى. ويشير الروائي ماتياس إينار إلى أن الغرب مدين للشرق ببعض أروع أعماله الفنية والثقافية، التي تعد اليوم رمزاً للثقافة الأوروبية. هذا الشرق، الذي لا يراه الكثير من الغربيين اليوم إلا كرمز للآخر، بحسب ما يقدمه ماتياس إينار في الرواية.
الشرق القريب والبعيد في آن معاً
يبين ماتياس إينار من خلال أعماله مدى قرب الشرق للأوروبيين، وفي الوقت نفسه كم بقي غريباً بالنسبة لهم. أبهر وجذب وألهم الشرق الكثير من المغامرين والعباقرة والفنانين في أوروبا، غير أنهم وفي الوقت عينه لم يفلحوا في الولوج إليه بشكل حقيقي، وبقي الشرق رمزاً للآخر وشيئاً لإسقاط رغباتهم ودواخلهم عليه، هذا الرغبات التي تعكس في الدرجة الأولى ما يدور في دواخل الأوروبيين أنفسهم.
بتناوله لهذا الموضوع مس ماتياس إينار عصباً حساساً في فرنسا؛ فقد انشغل الفرنسيون منذ الهجوم الإسلاموي على الصحيفة الساخرة "شارلي إبدو" في يناير/كانون الثاني 2015، وبشكل قلما فعلوه فيما سبق، بعلاقة الغرب مع العالم الإسلامي.
ويبرهن على هذا الكلام ترشيح ثلاثة كتب تتناول نظرة الأوروبيين للشرق لجائزة "غونكر" لعام 2015، وهي أرفع جائزة أدبية في فرنسا.
وكان من بين الروايات الأربع، التي وصلت للتصفيات النهائية، رواية "المهيمنون" للتونسي-الفرنسي هادي خضور. تتناول رائعة خضور صعود نجم الحركة الوطنية خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي للمغرب. ولكن في النهاية كانت الجائزة من نصيب ماتياس إينار. وقد جرى حفل التكريم بشهر نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2015 قبل أسبوع من الهجمات الإرهابية الإسلاموية على مسرح باتاكلان وعدة مقاهي في باريس.
يُعد ماتياس إينار المولود عام 1972 -ومنذ سنوات- من أكثر الروائيين الفرنسين إمتاعاً. وكان ماتياس قد أصدر عدة روايات، من بينها "احك لهم عن المعارك والملوك والفيلة" (2010)، و"شارع السرّاق" (2012). ودائماً ما تتناول رواياته العلاقة بين أوروبا من جهة وشمال إفريقيا والشرق الأوسط من جهة أخرى، تلك العلاقة التي غالباً ما يشوبها الصراع. وماتياس متمكن من مادته ويعرف عما يكتب، فقد درس اللغتين العربية والفارسية وأقام سنوات طويلة في دمشق وبيروت وطهران، قبل أن يستقر به المقام في برشلونة ليعمل كأستاذ للغة العربية في جامعتها.
البحث عن القلعة المهدمة (الدارسة)
مما سبق بوسعنا الاعتقاد أن ماتياس يعرف فندق "بارون" في حلب السورية. من ذلك الفندق راسلت السويسرية المصابة بالسوداوية، آنا ماري شفارتزينباخ، الكاتب الألماني كلاوس مان (الابن الأكبر للروائي الشهير توماس مان). وفي هذا الفندق استجمع راوي "بوصلة"، رِتر فرانتز، في إحدى الليالي كل شجاعته وطرق باب غرفة محبوبته سارة. وبالمثل يعرف ماتياس البادية السورية بشكل جيد، حيث تاه فيها الراوي ومحبوبته سارة وباحث الآثار الألماني، نصف المجنون، وهم يبحثون عن قلعة مهجورة. تلك الأماكن في سوريا من المستحيل الوصول إليها نظراً للحرب الدائرة رحاها هناك.
كما يمكننا الاعتقاد أن ماتياس يعرف حدائق "معهد الآثار الفرنسي" في طهران جيداً. في تلك الحدائق روى رئيس المعهد المسن -وهو تحت تأثير كمية كبيرة من الفودكا الأرمينية- لرِتر فرانتز، المرعوب، ولسارة كيف خان صديقه الشاب عام 1979. كان صديقه الشاب متحمساً للثورة الإيرانية، ووشى به العجوز ليتمكن من الظفر بخطيبته الإيرانية. ثم ما لبث أن خسرها هي الأخرى، حيث عُلقت على مشانق النظام الجديد بعد الثورة.
ماتياس يعرف المنطقة عن ظهر قلب، فقد زار بنفسه المناطق والمدن التي تدور فيها أحداث رواياته. ليس هذا وحسب، بل هو عالم لا يشق له غبار في تاريخ وموسيقى وفن وآداب المنطقة. فحسب قوله قرأ المئات من الكتب عن المنطقة، ثم أعاد صبها في روايته على شكل حواديت ولحد ما على شكل مقالات علمية.
ويعود الفضل لبراعة ماتياس أن روايته غير مثقَلة بحمل هذه المعرفة العلمية. فماتياس يعود بنا وبالقارئ، مرة بعد أخرى، إلى بيت الراوي، رِتر فرانتز في فيينا، ليتابع قص ذكرياته علينا عن محبوبته الرائعة الجمال والبديعة سارة. سارة التي تبعها رِتر فرانتز وقطع الفيافي والقفار والقارات، ولمدة عقود من الزمن. غير أن سارة هذه لم تقابل حب رِتر لها بمثله، وبقي حالها هكذا حتى الصفحة الأخيرة من الرواية. الرواية التي ما أن يفرغ المرء من قراءتها، حتى يحبذ لو عاد وبدأ بها من جديد.
أولريش فون شفيرين
الترجمة من الألمانية: خالد سلامة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2016