عمران المليح......ملح الثقافة المغربية
ينحدر إدموند عمران المالح، الذي ولد في الثلاثين من مارس عام 1917 في آسفي، من أسرة تضم تجارا ورجال دين يهود من مدينة الصويرة التي ستكون مثواه الأخير. من باب دكالة مرت جنازة كاتب المغرب الكبير المهيبة وحتى المقبرة اليهودية القديمة في المدينة، والعلم الوطني المغربي يوشح تابوت هذا الشيوعي السابق والمناضل من أجل حرية شعبه، محمولا على أكتاف أندريه أزولاي مستشار العاهل المغربي ومؤرخ المملكة سابقا حسن أوريد ومدير المكتبة الوكنية دريس خروز والعديد من الفنانين المغاربة كحسن بورقية وآندريه الباز. كانت تلك رغبة المليح، أن يدفن في هذه المقبرة "بين كل هذه القبور، المحاطة بالأعشاب البرية والرياح ومياه البحر وقت المد، تتوسط شاهدة قبره حروف عبرية ورموز ملغزة". وبالفعل فإن رمز إلهة الخصوبة عند الفينيقيين ينتشر في أماكن متفرقة، ليؤكد بأن اليهود يتواجدون في المغرب منذ عهد نبوخد نصر، وأنهم حضروا إلى هنا على متن سفن تجارية فينيقية هربا من السبي البابلي.
بعيدا عن هوية أحادية البعد
درج إدموند عمران المالح على تسمية نفسه بسارق الحكايات وحامي الكلمات، ولربما تكون شاهدة قبره صدى لذلك، بلغاتها المختلفة العربية والأمازيغية والعبرية الفرنسية، وانعكاسا لحياة وإنتماء متعددين، تشهد عليها كتبه كلها وحتى سيرته "رسائل إلى نفسي" الصادرة عام 2010، لعبة استغماء أدبية، يتحدث فيها عن منفاه الباريسي الذي امتد من عام 1965 وحتى عام 2000. "آمل أن ل اتكونوا قد قمتم بعمل سيء ضد فرنسا" قيل له عام 1965 خلال لقاء معه بمناسبة تقدمه للحصول على وظيفة أستاد للفلسفة في كوليج سانت بارب في باريس. وفعلا فإنه جنح إلى الصمت فيما يتعلق بحياته النضالية، هو الذي غادر المغرب في الثالث والعشرين من مارس عام 1965 بعد العنف الدموي لنظام الحسن الثاني ضد تمرد الدار البيضاء، وتوجيه تهمة التحريض إليه. كما أنه عمل رئيسا للمكتب السياسي للحزب الشيوعي المغربي بين 1945 و1959 وقاده في نضاله ضد الإستعمار الفرنسي.
كاتب متمرد وإنسانوي قلق
ولأنه ظل متمردا طيلة حياته ـ شأنه في ذلك شأن المعارض اليساري الأسطورة أبراهام السرفاتي الذي وافته المنية ثلاثة أيام فقط على وفاة المليح ـ فقد وشحه العاهل المغربي بالوسام الوطني. هو الإنسانوي القلق والنقدي منتقد الصهيونية ومؤيد الفلسطينيين، احتفي به في المغرب لأنه كيهودي مفرنس، لم ينكر يوما أصوله العربية ـ الأمازيغية. بل العكس هو الصحيح، فأعماله الأدبية، والتي بدأ كتابتها في سن متأخرة، في الثالثة والستين من عمره، حصلت على جائزة المغرب الكبرى عام 1996 وهي لا تدور إلا حول المغرب، ففي "المجرى الثابت" الذي نشر عام 1980 يتحدث المالح عن تجربته الشيوعية في رؤية نقدية ساخرة، وفي "أيلان أو ليل الحكي" التي صدرت عام 1983 يصور المالح ألام الناس البسطاء وفساد النخب الجديدة و انكماش ثوار الأمس على أنفسهم في مغرب الإستقلال. أما روايته "ألف عام بيوم واحد " والتي صدرت عام 1986 فيتعرض المالح فيها للهجرة اليهودية من المغرب إلى إسرائيل، أما روايته "عودة أبو الحكي" فهي رحلة عبر التاريخ الثقافي العربي من فاس ومراكش وإلى القاهرة والهند والأندلس.
المالح والبحث عن الزمن المفقود
روايات المالح بحث عن الزمن المفقود، إنها تصور مغربا متعدد الوجوه، متنوع الأصوات، ونقف فيها على أصداء من كتب كافكا وكانيتي وبروست ولكن دائما لفالتر بنيامين، مع نزعة كبيرة نحو التخييل، و نظرة حادة إلى الواقع، أما حجر رحى كل رواياته فهي أماكن طفولته: الصويرة، آسفي وأصيلة ولكن أيضا عادات وتقاليد، كلمات وروائح، أاساطير وقصص اليهودية المغربية. كما لا يتورع المالح هو الذي ينظر إلى نفسه كسارق للحكايا وحافظ للكلمات عن استعمال كلمات وتعابير من أصول عربية ـ يهودية أو امازيغية أو إنجليزية أو إسبانية، إن الأمر أشبه بوشم، يقول خوان غويتسيلو، أحد كبار المعجبين بالمالح، غريب الحركة الأدبية الفرانكو ـ مغربية، الذي مازال يتوجب التعرف على أعماله خارج المغرب.
إيمان بالهوية المتعددة للمغرب
يعتبر المالح أيضا أحد كبار المهتمين بالحركة الفنية في المغرب وأحد كبار نقادها أيضا، في وقت لم يكن النقد الفني في المغرب قد بدأ يخطو حطواته الأولى، فقد كتب المالح عن فنانين رواد مثل أحمد الشرقاوي واكتشف مواهب مثل خليل الغريب، ومن غير المثير أن تعقد لقاءات فنية للاحتفاء بالمالح، ليس آخرها النسخة الثانية من المعرض الفني الدولي في مراكش. الذي يقول مؤسسه عبد الرزاق بن شعبان بأن المالح خلف إرثا روحيا كبيرا، وظل وفيا للجذور وللهوية المغربية المتعددة، وقيم التسامح واحترام الآخر. أما مخلفات المالح المادية من مجموعات فنية وكتب، فقد وهبها للمكتبة الوطنية في الرباط، التي تضم أيضا مؤسسة عمران المالح التي أسست عام 2004، وهي مؤسسة تعنى بدعم الحوار بين الثقافات والأديان. ومنذ الثالث والعشرين من مارس والمكتبة الوطنية تفتح أبوابها للجمهور من أجل التعرف على إرث فقيد الثقافة المغربية: إدموند عمران المالح، أو "الحاج المالح" كما درج الكثير من المغاربة على تسميته.
ريغينا كايل
ترجمة: رشيد بوطيب
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2011