يوميات التفاوض على الفضاء العام في دول المتوسط وإيران

الانقسام الكبير بين الفضائين العام والخاص بالنسبة للنساء ليس مقصورا بالضرورة على المجتمعات العربية العربية والمسلمة، بل يشكل أيضا ثابتا بين الثقافات في مدن البحر الأبيض المتوسط.

على الرغم من التطورات التي شهدتها المدينة في الشرق الأوسط على صعيد وجود النساء في الفضاء العام، الذي ترافق مع قبول المجتمع بشكل أوسع عملية إدماجهن داخل هذا الفضاء، مع ذلك فإن هناك الكثير من الصعوبات العائلية والسياسية والدينية، التي ما تزال تحول دون تحوّل المدينة بالنسبة للنساء في المنطقة إلى فضاء ممتع وآمن. وربما من بين الكتب الأخيرة التي صدرت في عالمنا العربي، وحاولت رصد هذا الجانب، الكتاب الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر بعنوان «الحوكمة المحلية في العالم العربي وحوض المتوسط: أي دور للنساء» تحرير صفاء منقذ، سليفيت دانفيل، ترجمه عن الفرنسية جمال الشلبي، ويضم الكتاب عددا واسعا من الدراسات الأنثروبولوجية التي تتناول حياة النساء واستراتيجيات وجودهن داخل عدد من المدن مثل، القاهرة وإيران ونواكشوط، ومدن المغرب العربي، وأيضا بعض المدن الفرنسية (بوصفها مدنا متوسطية).

المدينة المغربية: هل تحقق الحرية للنساء؟

ففي سياق البحث عن واقع النساء في الفضاء العام المغربي، تلاحظ الأكاديمية الفرنسية نورا سمود، أنه في الأعم تتعرض الغالبية الكبيرة من الأفراد، لاسيما النساء، لتداعيات مراقبة اجتماعية قاسية، تشكل لهم جدارا حقيقيا من الصمت، دافعة بهم للعمل في تناقض بين ما يظهرونه في المجال العام، وما يخفونه ويخصصونه في المجال الخاص.



وتبين الباحثة، من خلال عشرات المقابلات التي أجرتها، أن الكثير من النساء بتن يهدفن للابتعاد عن الحي الأصلي، فمن خلال هذا التنقل نجد هناك رغبة في الإفلات قدر المستطاع من الرقابة الاجتماعية الأسرية، والجيرة القديمة المزعجة، فغالبية النساء اللواتي التقت بهن استخدمن مهاراتهن للمساعدة في تمويل مساكنهن الخاصة، مثل إدارتهن الصارمة لميزانية الأسرة، أو العمل في مهنة الخياطة مثلاً، أو بيع مجوهراتهن، وهذا الانتقال عادة ما يترجم في بناء هوية اجتماعية جديدة، وأنماط حياة مختلفة عن النماذح السابقة. كذلك تنعكس أساليب الحياة هذه عبر إتقان التفاعل الاجتماعي، وفقا لأسلوب انتقائي (يتم اختيار العلاقات مع الأسرة والجيران) مع الاستمرار في الوقت نفسه في التضامن الذي يتيح لهن التغلب على مشكلاتهن (على سبيل المثال، رعاية الأطفال الصغار من قبل الأهل) ومما يلاحظ اليوم أيضاً في مدن المغرب العربي، أن بعض الأسواق باتت مؤنثة بشكل شبه كامل، كما أن بعض النساء طورن تدريجيا في الخارج أنشطة متعددة الأشكال، مثل اجتماعات أولياء الأمور، كما أنهن بتن يفضلن زيارة مراكز التسوق الكبيرة، التي تخضع لشروط أمنية جيدة.



ومن القصص التي تناقشها الباحثة ما يتعلق بالحجاب والفضاء العام، ففي الماضي، كان اللجوء للحجاب أحياناً يعد وسيلة لمواجهة مضايقات الذكور، فالنساء من خلال هذا الأسلوب يتلاعبن بالنظام الرمزي المهيمن، ويمتلكن بطريقتهن الرموز التقليدية التي يسعين من خلالها لإجبار الرجال على احترامهن ، لكن ما تلاحظه هنا أن بعض اللواتي تحجبن في سن مبكرة جدا، أخذن يقبلن اليوم على خلعه كونهن أصبحن يشعرن بأنهن أكثر قدرة على الدفاع عن أنفسهن، وهنا لا تنفي الباحثة أن بعض هؤلاء النسوة أصبحن محجبات عن قناعة دينية، لكن جزءا كبيرا منهن اعترفن بالمقابل، بأنهن تحجبن للإحساس بالأمان، وحتى يتسنى لهن الاستمرار في الذهاب إلى الجامعة. وعلى صعيد تطور حضور النساء في الفضاء العام، نجد أيضا أن الأماكن المقدسة توفر أيضا مساحات من الحرية للنساء، وتحويل لمسارهن ما يشكل مشكلة للإسلاميين، فشهر رمضان يتيح تغيرات كبيرة في نمط الحياة وفي سلوك السكان، بمنح حرية أكبر للتنقل لوقت متأخر من الليل وللنساء كذلك، وفي هذا الوقت من العام، تشهد المساجد إقبالا بأضعاف مضاعفة من جانب النساء، اللواتي يجعلن منها أماكن للتفاعل الاجتماعي، ولتجنب هذه المعادلة يحاول الإسلاميون أحياناً وحتى الحكومة التحكم في توافد النساء إلى المساجد.

طهران: مدينة من «دون نساء»؟

في سياق آخر، تحاول مينيا سعيدي شاهروز باحثة في الدراسات الحضرية، الكشف عن واقع النساء الإيرانيات اليوم في طهران، ففي السابق كان المجال العام ينقسم بين المنزل (للنساء) والمدينة (للرجال) وهو ما ترده لفكرة «الناموس» أي الشرف الشخصي، إذ أن هذا المفهوم المترسخ بعمق في الثقافة الإسلامية يحدد السلوكيات وأنماط الحياة الخاصة، ويعمل على ضمان العفة الجنسية، بهذا المعنى تصبح المرأة جزءا من تراث الرجل، بالطريقة نفسها التي يدافع بها عن بيته ومدينته، بل حتى عن بلده، وهكذا يكون الناموس عكس الملك العام.

هذا المفهوم سيصبح موضع انتقاد في الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما حاول رضا شاه إجبار النساء على التخلي عن النقاب في الأماكن العامة، لكن سيكون لهذا القانون الأثر العكسي، إذ أن أعداداً كبيرة من النساء لم يعدن يخرجن من بيوتهن، فرفع الحظر عن ارتداء الحجاب في عام 1941. وفي فترة الستينيات، حاول وريثه إجراء تحديثات عديدة، مع ذلك بقيت أعداد كبيرة من النساء الفقيرات يعشن بعيدات عن الأعين في المناطق الحضرية، في حين كانت نساء الأحياء الشمالية من المدينة يعشن على النمط الغربي، وبعد 1979 أدرك الخميني حساسية هذا الجانب، فأخذ يحث النساء على التظاهر، ما سمح لهن بأداء أدوار سياسية، كما منحهن شرعية للتواجد في الفضاء العام، شريطة احترام السلوك الإسلامي، واللافت هنا أن الشادور سيسمح للنساء بشغل حيز واسع في الأماكن العامة، وعلى وجه الخصوص، الحق في الوصول إلى المدرسة، حتى في المناطق الريفية.

الانقسام الكبير بين الفضائين العام والخاص بالنسبة للنساء ليس مقصورا بالضرورة على المجتمعات العربية العربية والمسلمة

وفي سياق إعدادها لمئات المقابلات، تلاحظ شاهروز أن أكثر من ثلث التنقلات اليومية في المدينة تقوم بها نساء المدينة، كما تظهر نتائج الاستطلاعات أن أهداف التنقلات هي من أجل الدراسة والتكوين، وتليها المشتريات اليومية والترفيه، وفي الأخير يأتي العمل. كما تلاحظ على صعيد الترفيه، أن النساء بتنا أكثر ابتكارية في عملية إيجاد أنشطة يومية، تندرج تحت ثلاث فئات: تنطبق الأولى على زيارة الأضرحة، والثانية على زيارات الأصدقاء والأهل، والثالثة على الترفيه بالمعنى الأكثر حداثة، الذي يشمل ممارسات متقدمة في المقاهي والسينما، كما تلاحظ أن الملابس تتمايز وفقا لهذه الزيارات، فغالبا ما يرتبط الترفيه بالزي الحديث، بينما نجد أن الزي الأكثر استعمالا لزيارة الأسرة والتنقلات اليومية هو الشادور. وترى الباحثة، أن خروج النساء ساهم في إحداث تأثيرات كبيرة وعميقة في الحيز الحضري، مع ذلك فإن هذا لا يعني أن الأمور قد حسمت لصالحهن، أو استقرت بهذه الصورة، فالحكومة سعت لوضع آليات مقاومة بشكل مبطن، على ما يعتبره البعض تجاوزات، من خلال محاولة إدارة هذا الوجود في الخارج مثل، إيجاد ممرات للدراجات الهوائية وحدائق النساء، وملاعب كرة القدم المخصصة للرجال فقط.. وغير ذلك، وكلها تدابير يتم العمل بها يوميا من أجل الحفاظ على أحقية الرجال في السيطرة على الأماكن العامة، لكن ما يقلق الباحثة أكثر في هذا الجانب، هو أن توسيع حاضرة طهران والسياسات الحضرية التي تعزز الرؤية التكنوقراطية للمدينة، باتت تمثل تهديداً جديداً لوجود النساء في الفضاء العام، فالنساء بحكم قلة امتلاكهن للسيارات، يتنقلن على الأقدام، أو باستعمال وسائل النقل العام، وهو ما يصعب من حركتهن ليتحول مع مرور الأيام بمثابة أضرار حضرية مؤذية، يمكن أن تصبح عائقا أمام حركتهن، فالأشخاص الذين لا يمتلكون سبلا سهلة من أجل امتلاك سيارة، لا يشعرون فقط بمحدودية أنماط حياتهم وحسب، وإنما يجدون أنفسهم أيضا مضطرين على الجلوس في المنزل، أو على استخدام فضاءات محدودة.

مدن المتوسط: فضاء ذكوري

في سياق آخر، تبين الأنثروبولوجية الفرنسية كورين فورتييه، أن الانقسام الكبير بين الفضائين العام والخاص بالنسبة للنساء ليس مقصورا بالضرورة على المجتمعات العربية العربية والمسلمة، بل يشكل أيضا ثابتا بين الثقافات في مدن البحر الأبيض المتوسط: في فرنسا وإيطاليا والبرتغال على وجه الخصوص. وفي هذا السياق، تنكب الباحثة على دراسة سيرة ذاتية كتبتها إحدى النساء الفرنسيات العاديات، التي تتحدث فيها عن المواقف اليومية التي تعانيها بسبب الرجال، لتتوقف معها عند العبارات التالية: «المرأة في الشارع هي فريسة سهلة. ما من عضلات للدفاع عن النفس، أماكن قليلة للاختباء. ولا شك في أن الرجال الذين لا مأوى لهم من حولي لم يجدوا فرصة للمس فتاة منذ أشهر عدة، وربما سنوات. الجميع يعرف أن سامي هو رجلي، لكن لا داعي للمغامرة، لذلك اخترت تكتيكات الأشباح، أقص شعري، وألغي نهائيا ملابسي الأنثوية، وأغرق في سترات فضفاضة حصلت عليها من غرفة خلع الملابس في الجمعيات». ولعل عمليات الاسترجال ذاتها هو ما ستعاينه الباحثة في بعض الضواحي الفرنسية، فالشابات غير المحجبات، غالبا ما كن يفضلن ملابس ذكورية فضفاضة حتى يصبحن مقبولات في الفضاء العام، وقد أدت هذه الوضعية في عام 2008 إلى تصوير فيلم «يوم التنورة» لجان ليليانفييلد، بطولة أيزابيل أدجاني، التي تقمصت دور المعلمة التي تحارب من أجل أن تتمكن كل طالبة من أن تأتي بتنورة إلى صفها.



لكن هذا الواقع الذكوري الفرنسي، لا يعني بالمقابل إمكانية السير في هذه المقارنة (دول حوض المتوسط) إلى الأخير، ففي مصر، يبقى الفضاء العام فضاء ذكوريا بالكامل، إذ تتعرض النساء للنظرات الشبقية والشتائم واللمس في بعض الأحيان، ومع استمرار هذه الظواهر، حاولت الحكومات المصرية تقديم حلول في وسائل النقل (المترو) من خلال تخصيص عربات خاصة بالنساء، مع ذلك، تلاحظ الباحثة أن تمكن النساء من تلافي مضايقات الرجال لم يكن يعني غياب عوالم الرقابة بالضرورة، ففي متن عربات النساء، تعرض كثير من الفتيات غير المحجبات لتحرش من نوع آخر، لكن هذه المرة من النساء المحجبات؛ فهؤلاء النسوة لا يترددن في رمي أولئك اللواتي لسن محجبات بنظرات توبيخية أو عبر تلقينهن دروساً في الأخلاق، وهو ما يكشف أن الفصل بين الرجال والنساء لا يوفر بالضرورة الأمان في الأماكن العامة، بل نراه يدفعهن أحياناً إلى اللجوء لأساليب واسترتيجيات الحشمة (ارتداء الحجاب) حتى لو في الظاهر، وهو ما يعني بالنتيجة تحول السير في المدينة إلى شيء مرهق، والاضطرار شيئا فشيئا إلى الخروج من الفضاءات العامة لصالح فضاءات معزولة.

كاتب سوري