حين حلم المأمون بأرسطو
يُروى أن الخليفة المأمون رأى في المنام رجلاً أبيض اللون، مُشرّباً حُمْرةً، واسع الجبهة، جالساً على سريره. فشعر وكأنه قد مُلِئ هيبة بين يديه، فسأله: من أنت؟ فقال: أنا أرسطوطاليس. فسُرّ به وقال: «أيها الحكيم، أسألُك؟» فقال: سَل. قال المأمون: «ما الحُسْن؟» فرد: «ما حَسُنَ في العقل» فسأل المأمون: «ثم ماذا؟» فرد أرسطو: «ما حَسُنَ في الشّرع» فسأل المأمون: «ثم ماذا؟» فرد أرسطو: «ما حَسُنَ عند الجمهور» فسأل المأمون: «ثم ماذا؟» فقال أرسطو: «ثم لا». أي لا يوجد شيء بعد ذلك.
ومعروف أن المؤرخين القدامى كثيراً ما يسوقون الأساطير والتخيلات لتفسير الأحداث وتبريرها. فحلم المأمون بأرسطو ذكره ابن النديم بعد وفاة المأمون بقرن ونصف. ومن الواضح أنه فبركه من باب "ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد"، على حد تعبيره. أي أنه ليس مجرد رواية لحلم منام إنما "رؤيا صادقة بالحق" لإضفاء: "ما يلزم من المشروعية الدينية على ما قام به المأمون من تجنيد للدولة لاستجلاب كتب الأقدمين وترجمتها".
وفي معنى الدلالة الحضارية للحلم نجد أن الخليفة المأمون يظهر كطالب معرفة في حضرة الفيلسوف المعلم ممثل الفكر الإغريقي العقلاني. وهو لم يحلم بسقراط أو أفلاطون لأن فكرهما الفلسفي يُناقض بأساطيره الوثنية والآلهة المتعددة الفكر الإسلامي التوحيدي. لذا جرى اتصال العقل الحضاري الإسلامي بالعقل الحضاري الإغريقي وفق منهج شرعي اقتضى إقصاءً مقصوداً للأساطير والشعر الملحمي والمسرح بحسبانها تراثاً وثنياً يقدس تعدد الآلهة.
الخليفة المأمون يُعزِّز الرؤية الفلسفية للمعتزلة
بينما المنطق الأرسطي، بحسب تفسير حلم المأمون، يعتمد في تمييز "الحُسن" في الأحكام والأفعال على الإدراك العقلي.. ومن الواضح أن ابن النديم وهو عالم معتزلي ابتكر أو اختلق موضوع الحلم ونسبه بتاريخ رجعي إلى الخليفة المأمون نصير المعتزلة لكي يُعزِّز الرؤية الفلسفية للمعتزلة المبنية على إدراك الحسن والقبح العقليين. بمعنى أن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان في الأشياء، والحاكم بالحسن والقبح هو العقل.
ومن منظور الحكم العقلي توصل المعتزلة إلى مقولتهم الكبرى القائلة بأن القرآن مخلوق وليس أبدياً في تفسيرهم للشريعة الإسلامية بحسب منطقهم العقلي البرهاني على الضد من الفقه السني النقلي العرفاني. كان ذلك في ذروة تلقّح الفكر الإسلامي بالفكر اليوناني العقلاني/ العلمي.
وكانت مكتبة "بيت الحكمة" تمثل المختبر المعرفي لهذا التلاقح الفكري الحضاري، أنشاها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور مُنشِئ عاصمة الخلافة بغداد في القرن الثامن ميلادي. وازدهرت بشكل مذهل في خلافة المأمون الذي أرسل بعثات المترجمين لجلب الكتب من الهند وبيزنطة وفارس لتعميق انفتاح العقل العربي الإسلامي على الحضارات المجاورة والبعيدة، وذلك عبر الترجمة عن اليونانية والفارسية والسريانية والهندية، والآرامية والقبطية.
ولم يكن "بيت الحكمة" مجرد خزانة لجمع الكتب فحسب إنما أصبحت مؤسسة معرفية ضمت إلى كونها مَجمَعاً للترجمة، أماكن للدراسة والتأليف والبحث العلمي ومراصد لاكتشاف النجوم وتصنيفها برؤية فلكية علمية. وكان معظم المترجمين من اليونانية إلى العربية من طائفة السريان المسيحيين، وأشهرهم حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين.
أنوار معارف مُشِعَّة
ومن أشهر علمائها الأخوة (الحسن، وأحمد، ومحمد) بن شاكر الذين برعوا في علم الحِيَل (الهندسة الميكانيكية). ومن بين مرتاديها البارزين: الخوارزمي مبتكر علم الجبر والمعادلات الخوارزمية، والفيلسوف الكندي أبو الفلسفة العربية والجاحظ كبير أئمة الأدب ... .
وإن حدث، بعد أربعة قرون، تدمير معظم محتوياتها، إلا أنوار معارفها كانت مشعة على أشدّها في قرطبة الاندلسية عاصمة التنوير العقلاني في عصور أوروبا المظلمة، حيث تجلت حضارة العرب في الأندلس طاقة حضارية خّلاقة للعقل الإنساني. وتجلت طاقة ذلك العقل الفكري والعلمي التجريبي الإبداعي في عقل ابن الهيثم في الرياضيات والفلك والفيزياء. وعقل جابر بن حيان الكيميائي مؤسس الكيمياء الحديثة. وعقل الجزار الهندسي مؤسس علم الميكانيكا. وعقل الزهراوي الطبي مؤسس علم الجراحة الحديثة ومخترع أدواتها حيث لا تزال الجراحة الحديثة تستخدم حوالي مائتي أداة من تصميمه. وعقل ابن رشد الفلسفي المنطقي واضع حجر أساس العقلانية العلمانية للحداثة الغربية وعقل ابن خلدون السوسيولوجي مؤسس علم الاجتماع الحديث وفلسفة التاريخ. وغيرهم من العقول الإسلامية الفذة التي وضعت مقومات وأسس الحضارة الحديثة في الرياضيات والجبر والهندسة والعمارة والصيدلية والجغرافيا والبنوك والمستشفيات والتعليم المجاني والضمان الاجتماعي والحدائق والصابون والمراحيض... وليجسّد العالم الإسلامي بذلك كما يقول المؤرخ الأمريكي البرفسور تشيس إف روبنسون:"عولمة قبل عصرها"، و"ثقافة كونية"، و"عالماً من التلاقح المتبادل" حضارياً.
كان زمنا حضاريا مزدهرا ومزّهرا لقرون عديدة في الوقت الذي دخلت فيه أوروبا في زمن القرون الوسطى. كانت روح الإسلام الإبداعية فتحا حضاريا شغوفاً بفض المغالق اللامتناهية نحو رفع الحجب عن معنى الوجود في اللامتناهي الأكبر واللامتناهي الأصغر. في التجربة الروحية كما في التجربة العلمية. في ابتكار الصفر «نقلا عن الهند» وقد سماه العرب بالخيّر والمظفّر لكونه بمثابة الرمز الشفري في حل معادلات الوجود الذهني/الرياضي، كما في علم الخوارزميات التي هي اليوم أس النظام الرقمي (الكومبيوتر) جوهر الحضارة الكونية في موجتها الرابعة ما بعد الحضارة الصناعية.
وكانت اللغة العربية هي لغة العلم العالمية. والدينار العربي-الإسلامي دولار العالم. والصك الإسلامي أول أبجدية العولمة التجارية. وأساليب المعاملات المالية الحديثة وفي أساسها التقنية المصرفية التي امتهنها يهود الأندلس ثم نقلوها معهم إلى أوروبا ... ثم مع ضمور الطاقة المعرفية لمنطق التفكير العقلاني، أمام اكتساح الإيديولوجية السلفية النقلية، ضمرت الدافعية الابتكارية في تفعيل العقل الحضاري.
قرون الظلامية
ولم يكن سقوط بغداد تحت سنابك المغول، ثم سقوط غرناطة بسيوف النصارى، إلا نتيجة لمدخلات الوهن الحضاري الذي أخذ يفعل مفاعليها في الأذهان والأعيان منذ أن خمدت العقلية العلمية والعقلانية الفلسفية الإنسية مع القرن السادس الهجري لتهيمن العقلية النقلية والذهنية التحريمية هوانا على هوان. ومنذ تقييد العقل بالنقل وتكتيف منهج الشك النقدي بالإيمانات الغليظة وتوظيف ابتهالات تعظيم الله سلطان الكون في تعظيم الخليفة سلطان الأرض. وبالتالي توظيف الإسلام في خدمة إيديولوجية سلطة وثوقية، همها دوامها على حالها خلفا عن سلف، حتى تحولت الإمبراطورية العربية الإسلامية إلى تركة بائرة يتداولها سلاجقة وترك وكرد وتتار ومماليك ... وإذ حُظر الاشتغال بالفلسفة، واُتهم ابن رشد بالكفر والضلال والمروق وزيغه عن دروب الحق والهداية وأحرقت كتبه، انغلق المسلمون على وجودهم التاريخي في كهف قرونهم الظلامية ومضوا أظلم فأظلم في غيبوبة التاريخ.
فيما استيقظ الغرب من غيبوبته متلمساً وعيه بالتاريخ والعقل والعلم، وبدأ تدريس كتب ابن رشد في أغلب جامعات أوروبا الناشئة حيث انشئت جامعة بولونيا كأول جامعة تبنى في أوروبا عام 1088م بعد أكثر من قرنين على جامعة القرويين بالمغرب. وليس من غير دلالة إبستيمولوجية أنه بعد سقوط غرناطة أخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492، انطلق الغرب في العام نفسه، ومن الأندلس، في اكتشافات مجاهل الأرض ما وراء محيط الظلمات، عندما أبحر كريستوف كولمبس وجهته الهند، مأخوذا باستيهامات صليبية عن تطويق العالم الإسلامي. لكنه اكتشف عالما جديدا: أمريكا ... لتبزغ شمس الحضارة الكونية من الغرب.
فرج العشّة
حقوق النشر: موقع قنطرة 2019