ماذا على الجالية المسلمة البريطانية أن تفعل رداً على الإرهاب القاعدي؟
حمدت الله أن خلود، زوجتي، لم تذهب إلى العمل يوم أمس، فلو فعلت لكانت في محطة قطارات كنغز كروس في قلب لندن حوالي التاسعة إلا ربعاً قادمة من كامبردج، وهو الوقت الذي دوّت فيه تفجيرات الإرهاب القاعدي هناك كما في خمس محطات قطار أخرى في لندن، إضافة إلى باص ذي طابقين تحول بدوره إلى دمار.
زوجتي نجت لكن هناك زوجات كثيرات أصبن، وهناك بالتأكيد أطفال وأفراد قتلوا وجرحوا، من مختلف الجنسيات. فما يعرفه كل من يعرف لندن أو يسكنها أن أي عمل إجرامي على هذه الشاكلة العشوائية سيسقط عدداً كبيراً من الضحايا على نحو مؤكد في هذه المدينة المزدحمة. وحتى لحظة كتابة هذه السطور ما زال عدد القتلى والجرحى يتزايد ولم تصل الشرطة بعد إلى تحديد الرقم النهائي.
العقل الأحمق الذي فكر وخطط لهذه العمليات الخالية من الشجاعة والمروءة والحد الأدنى من الأخلاقية، وبالتأكيد البعيدة عن أي تقليد أو مبدأ إسلامي، نجح مرة ثانية في توسيع دائرة العداء للعرب والمسلمين وللإسلام.
فمنذ يوم 11 سبتمبر الأسود والبائس، إلى بالي في أندونيسيا، إلى الدار البيضاء والرياض ومدريد، ومسلسل الدم والكراهية القاعدية يزيد من هزائمنا وهو يظن أنه يحقق إنتصارات! فإرهاب "القاعدة" هو كمن يصفع نفسه ثأراً من الآخرين.
والتبريرات والمسوغات التي يتكئ عليها تحوم حول ضرورة أن "يتألموا كما نتألم" ويذوقوا الموت كما نذوق أو كما يستطرد المنطق المعوج قائلا: أليس من يُقتل في فلسطين وأفغانستان والعراق أبرياء أيضاً؟ لماذا يقتلون ابرياءنا ولا نقتل أبرياءهم؟ لا بد من تفكيك هذا المنطق الدموي لأن له أنصارا كثر، سراً وعلانية!
في هذا المنطق إختلال رهيب يتمثل في جانبين: الاول هو الثأر لما يذوقه أبرياؤنا من قبل "لا أبريائهم" أي حكامهم وحكوماتهم، والثاني توجيه ذلك الثأر إلى "أبريائهم الذين يجب أن يذوقوا ما يذوق أبرياؤنا" وهم الأفراد الذين يناصروننا ضد حكامهم وحكوماتهم.
أي أن العمليات الأرهابية الحمقاء، وحتى لو نظرنا اليها من دون أي وازع أخلاقي، هي غبية سياسياً، إذ أنها تنفذ ضد الأنصار وليس ضد الخصوم. فما بات معروفاً حالياً هو أن عدالة قضايا العرب والمسلمين يؤمن بها مؤيدون وشرفاء كثيرون عددهم أكثر من العرب والمسلمين في طول وعرض العالم.
فقليلون هم أولئك الذين لا يؤمنون بعدالة قضية فلسطين والحقوق الفلسطينية المهضومة. وقليلون هم الذين أيدوا الحرب على العراق رغم أن الكثيرين أرتاحوا بسقوط دكتاتورها وتحرر العراقيين من بطشه.
وأقل من اولئك وأولئك هم الذين أيدوا أو حتى قبلوا التبريرات الأميركية للتوحش البشع ضد سجناء أبو غريب أو غوانتانامو أو الفجور الإسرائيلي اليومي ضد الفلسطينين. وهؤلاء جميعاً هم الذين خرجوا بملايينهم في شوارع لندن وباريس ومدريد وبقية عواصم الغرب تأييداً لعدالة قضايا الشرق وشعوبه.
الأبرياء الذين يريد أن يذيقهم الإرهاب القاعدي المتوحش الموت هم الرأي العام الغربي والأوروبي الذي يؤيد فلسطين والعراق ويقف العنجهية الإمبريالية الأميركية الراهنة بلا تحفظ كما تشير إستطلاعات الرأي العام.
والعقل الأحمق الذي فكر وخطط للعمليات الوحشية في قطارات وباصات لندن لا يتحلى بأدنى حد من الشجاعة والمروءة. فأي شجاعة وبطولة في تفجير باص ركابه عزل، نصفهم من طلبة الجامعات، أو عربات قطارات يحتشد فيها أناس ذاهبون إلى العمل أو المدارس.
العقل الأحمق الذي فكر وخطط لهذا الإجرام لم يدر بخلده أيضاً أن التوقيت بالغ السوء إذ سيقارن الناس وحشيته بما يدور في إنعقاد قمة الثمانية في أسكتلندا. وهي القمة التي أجبرتها ضغوط المنظمات غير الحكومية على إستبدال أولويات أجندتها المعتادة ووضع قضية الفقر ومساعدة الدول المعدمة على قمة الإهتمامات، فيما كانت "الحرب على الإرهاب" قد أحتلت رأس تلك الأجندة في الأعوام القليلة الماضية.
(...)
و"غزوة لندن" كما سيصفها أغبياء ذلك العقل ستؤجج من نيران العنصرية الكامنة في بعض زوايا المجتمع البريطاني. وستكون إنعطافة عظيمة في تاريخ اليمين والعنصرية في بريطانيا اللذان يرددان صباح مساء هذه الأيام ضرورة أقفال الحدود أمام المهاجرين، وسيدفع العرب والمسلمون ثمناً باهظاً لها.
(...)
كما أن العقل القاعدي الأحمق لا يعرف شيئاً عن صراع نظرية التعددية الثقافية التي تقودها لندن ضد نظرية الإدماج القسري التي تقودها باريس. وكيف أن الحرية والتسامح التي أعطتها لندن للإثنيات والجنسيات والأديان المختلفة كانت على الدوام نموذجاً يتسلح به المسلمون ليقولوا لبقية العواصم في أوروبا أن التعايش السلمي مع المسلمين يمكن أن يقوم على قاعدة الإحترام المتبادل. إحترام لا يفترض التخلي عن الهوية أو الدين أو التقاليد ولا يشترط الدمج الكلي. وعندما تدفع لندن ضريبة باهظة نتيجة للإرهاب القاعدي فإن نموذجها الكوزموبوليتاني يتلقى ضربة مؤلمة.
(...)
لكن العقل البنلادني الأحمق له منظروه أيضاً، ولو على إستحياء أو مواربة. يقول هؤلاء إن سبب وصول الإرهاب إلى لندن هو موقف توني بلير من الحرب في العراق ومشاركة حكومته فيها. وأن هذا سوف يدفع الرأي العام البريطاني لإسقاط حكومة بلير لأنها جلبت هذا الإرهاب إلى الجزر البريطانية عبر سياساتها السيئة التي تبنتها.
هذا "التنظير" فيه صك تبرير وقبول لما يحدث رغم زعمه بأنه يصف ما حدث وسيحدث ولا يبرر له. فهذا التسويغ يمكن عملياً أن يبنى عليه هذا الإستنتاج: إذا أتخذت أية حكومة غربية سياسة ضد مصالح الدول العربية والإسلامية فإنه من المفهوم والمبرر أن تتوجه القاعدة بصناديدها ضد مواطني تلك الدولة وتعيث في شوارعهم الفساد وتقتل منهم من تستطيع أن تصل إليه! والهدف هو دفع هؤلاء المواطنين إلى إسقاط الحكومة التي أتخذت السياسة المضادة للعرب والمسلمين.
لكن الآن، وعلى صعيد عرب ومسلمي بريطانيا، ما العمل؟ فالشيء الأكيد هو أن موجه من العنصرية والإعتداءات سوف تتصاعد في المرحلة القادمة، ولا بد من أن تتخذ الجالية المسلمة ومنظماتها وقادتها مواقف واضحة وحكيمة لضمان أمن وإستقرار وتعايش هذه الجالية في بريطانيا. ومن ضمن ما يمكن التفكير فيه ما يأتي:
- أولاً: تبني موقف حازم وواضح من دون "لكن" يصف الجريمة بما تستحق ولا يقترب من أي مسوغ أو توصيف يمكن أن يُفهم منه بشكل مباشر أو غير مباشر أن الموقف يبرر من قريب أو بعيد للجريمة. وللمزيد من التوضيح فإنه من المرفوض القول إن هذه جريمة ندينها لكن علينا ان نفهم ما هي الدوافع التي تقف وراءها.
فإن هذا سوف يُفهم كتبرير لما حدث. المظالم لا تبرر إحداث المظالم، والضحية يفقد مشروعيته إن إستخدم نفس أساليب المجرم. وأسوأ ما قد يحل بقضية عادلة هو أن يتقارب الضحية والجلاد في إستخدام الوسيلة المجرمة، عندها يهتز علو الكعب الأخلاقي الذي تتميز به القضية وضحاياها.
- ثانياً: يجب التعبير عن ذلك الموقف وإيصاله إلى الرأي العام البريطاني بأقوى صور ممكنة. فيجب الخروج إلى الشارع وإدانة الجريمة بشكل كبير على شكل تظاهرة إسلامية في قلب لندن، والمدن الكبرى، تعلن براءتها من ذلك العمل ومن يقف وراءه. وتعلن تآزرها ووقوفها إلى جانب الضحايا وعائلاتهم، وإلى جانب لندن المدينة التي أحبها العرب والمسلمون ويعيشون فيها بتسامح وتعايش وإحترام.
- ثالثاً: تشكيل وفود تمثل الجالية المسلمة تزور أهل كل ضحية من الضحايا، في البيوت والمستشفيات، وتقدم المواساة لهم وتوضح لهم أن علاقة لتلك الجريمة بالإسلام والمسلمين.
- رابعاً: توكيل ناطقين إعلاميين بإسم الجالية للتحدث على وجه السرعة مع وسائل الإعلام البريطانية والمشاركة في البرامج التلفزيونية المباشرة لتأكيد الموقف الموحد الذي يفصل بين الجريمة وفاعليها والمسلمين.
خامساً: إعادة تأكيد توجهات بعض منظمات الجالية المسلمة بدعوة أفرادها للتعاون مع أجهزة الأمن البريطانية ضد أي عمل أو فرد يشتبه بأن له علاقة بأي عمل إرهابي قاعدي في بريطانيا، ودعم جهود تلك الأجهزة والتعاون معها في هذا الصدد.
سادساً: وفي نفس الوقت مطالبة الحكومة البريطانية بحماية الجالية المسلمة من أية إعتداءات من قبل جهات عنصرية داخل بريطانيا، والتأكيد على حق الجالية في التعبير عن رأيها وممارسة حريتها المسؤولة إزاء القضايا التي تهمها.
وأن كون الجريمة الحالية قد أقترفها أفراد ينسبون إلى الإسلام ينطوي على خطورة واضحة هي تعميم الإنتقام، ووصم كل مسلم بأنه إرهابي محتمل. وهذا يرتب مسؤولية جماعية على الحكومة والجالية نحو البحث في الأساليب الأنجع لترقية مستوى معرفة الرأي العام البريطاني عن الإسلام والمسلمين وتقاليد التسامح والعيش المشترك، وأن البنلادنية لا تمثلهم.
خالد الحروب
حقوق الطبع خالد حروب
صدرت النسخة المطولة للمقال في صحيفة الحياة
خالد حروب كاتب وباحث فلسطيني/اردني