"لا تتعامل مع دول الخليج وكأنها نموذجا لكل الدول الغربية"
يتلازم الانهيار الاقتصادي والسياسي في لبنان دومًا مع موجات هجرة، والمتابع لما يجري هناك منذ عامين سيجد عددًا لافتًا من الإعلاميين والصحفيين والناشطين ورجال الأعمال، إضافة إلى آلاف الشباب، بدؤوا رحلة الهجرة من البلد، وعادة يكون الخليج -الإمارات تحديدًا- هي الوجهة المفضلة للعمل لكثيرٍ منهم. ستجد تعليقات عديدة في اليوتيوب والفيسبوك وسواهما للبنانيين يقارنون بين وضع الحياة المتداعي وسوء الخدمات في بلدهم ووضعه في الخليج ودبي مثلًا.
وفي تونس ثمة حالة شبيهة؛ حيث اتساع دائرة الاستياء الشعبية من الوسط السياسي والأحزاب بسبب التراجع المستمر في الوضع الاقتصادي وازدياد معدلات البطالة والتضخم، الأمر الذي أدى إلى انتخاب رئيس من خارج الطبقة السياسية ومن دون برنامج، وأدى ذلك إلى احتقان سياسي مستمر مع البرلمان، وصل إلى القرارات الأخيرة التي مثلت انقلابًا على الدستور والديمقراطية، على الرغم من أنها حظيت بتأييد شعبي لا يمكن تجاهله.
تحظى تونس، بدرجة أقل من لبنان، بأرقام متقدمة في سلّم الحريات السياسية والصحفية عربيًا، وبإمكان المواطن في كلا البلدين التعبير عن رأيه مهما كان حادًا وقاسيًا من دون الخوف من التبعات، وهو أيضًا يتمتع بحريات ثقافية واجتماعية وسياسية واسعة، كما يمكن لأي مواطن أو مجموعة في هذين البلدين تأسيس حزب سياسي، وقناة تليفزيونية، وصحيفة، وجمعية، ونقابة، والترشح للبرلمان، وسوى ذلك من دون قيود. فماذا يريد التوانسة واللبنانيون؟ ولماذا ترتفع معدلات الهجرة من البلدين؟.. قد لا يكون لهذا السؤال معنى، لكون الإجابة واضحة: الوضع الاقتصادي والخدمي المتدهور هو السبب الرئيسي لذلك، وهناك بالطبع أسباب أخرى.
في مكان آخر من العالم العربي ثمة هجرة أخرى لأسباب مختلفة؛ حيث شهدنا منذ سنوات هجرة مجموعات من الشباب الخليجي إلى أمريكا ودول أوروبية وتركيا وسواهم، مع أن بلدانهم هي الأعلى دخلًا على المستوى العربي، وتحظى بمعدلات مرتفعة عالميًا في متوسط دخل الفرد، وتُحقق معدلات تنمية عالية، ويحظى المواطن بها برفاهية وانخفاض في الضريبة لن يجد مثله في معظم الدول الغربية. هنا أيضًا لا يبدو للسؤال معنى عن سبب هجرة هؤلاء الناشطين، لأن الإجابة واضحة: الوضع السياسي وانخفاض سقف الحريات وازدياد القمع هو السبب الرئيسي لذلك.
في كلا النموذجين السابقين -وفي سواهما- الإنسان يبحث عما ينقصه. فمن يفتقد الحرية، يراها هي القيمة العليا والهدف المنشود، ومن يفتقد الأمن يراه هو المطلب الأول، ومن يعاني التدهور الاقتصادي وسوء الخدمات يجد أن التنمية والاقتصاد ومحاربة الفساد هو المدخل الأهم لحل أزمات مجتمعه. مع التأكيد أن هذه العوامل والأسباب بطبيعتها مركّبة ومتداخلة، ولكن الحديث هنا عن العامل الأكثر حضورًا في الجدل السياسي والاجتماعي في المجتمعات المختلفة.
عاصر توماس هوبز، الفيلسوف السياسي الإنجليزي، الحروب الأهلية الثلاث في إنجلترا وسط القرن السابع عشر، وعاش في مجتمع تسوده الفوضى والفقر وانعدام الأمن والصراع الطويل بين البرلمانيين والملكيين، والذي انتهى بإعدام الملك تشارلز الأول، ودخول إنجلترا في مرحلة سياسية مضطربة امتدت إلى عقود.
في هذا السياق، وتحت ضغط هذه الظروف، أنتج هوبز كتابه الشهير «اللفياثان» الذي يُعدّ واحدًا من أهم الكتب التأسيسية في الفكر السياسي الأوروبي. في الكتاب أسس هوبز لفكرة «العقد الاجتماعي»، وتحدّث عن وجوب اتفاق الشعب وتعاقده على التسليم لسلطة سياسية مركزية قوية وقادرة على ضبط الفوضى والسيطرة على المجتمع وحماية الناس وتحقيق الاستقرار، وفي سبيل تحقيق ذلك يتوجب على الناس القبول بالتنازل عن قدر من حقوقهم وحرياتهم وأموالهم للدولة في مقابل استتباب الأمن ومنع الفوضى وإيقاف نزيف الحروب الأهلية.
يتحدث هوبز عن أن من دون سلطة مركزية قوية سيعود المجتمع إلى ما يسميه «حالة الطبيعة» التي ستؤدي إلى «حرب الكل على الكل»، حينها سيكون المجتمع بلا أمن ولا صناعة ولا فلاحة ولا ثقافة ولا فنون، والأسوأ من ذلك كله هو الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وحياة الإنسان المنعزلة، والفقيرة، والشريرة، والبهيمية، والقصيرة. وفي سبيل تلافي كل ذلك يتوجب على الناس القبول بالتخلي عن حقوقهم وحرياتهم والقبول بالضرائب التي تفرضها الدولة وحتى مصادرة الأموال في سبيل الحفاظ على الأمن والاستقرار وانتظام الحياة.
على الضفة الأخرى من بحر المانش، وبعد قرن من صدور «اللفياثان»، أصدر الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو كتابه «روح القوانين». عاش مونتسكيو في ظل حكم الملك لويس الخامس عشر، الذي حكم فرنسا طوال 50 عامًا، اتسمت بالسيطرة المتناهية، والحُكم المُطلق، والتحالف مع رجال الدين الكاثوليك، والقمع العنيف للتمردات والاحتجاجات، والتوسع العسكري في الأقاليم المجاورة، والتشنيع الديني والسياسي على الفلاسفة والمفكرين (أمثال مونتسكيو، وروسو، وفولتير، وديدرو، وسواهم)، حيث سُجن بعضهم ونُفي آخرون.
عام 1748، وبعد عشرين عامًا من العمل البحثي والنظري المُضني، نشر مونتسكيو كتابه الضخم «روح القوانين» في جزأين، من دون أن يحمل اسمه خشية القمع الذي قد يتعرض له، وقد مُنع الكتاب من التداول في فرنسا، وتُرجم إلى الإنجليزية عام 1750، وحقق -على الرغم من المنع- تأثيرًا واضحًا في فرنسا وإنجلترا، ولاقى اهتمامًا كبيرًا في أمريكا، وكان له أثر بالغ في الآباء المؤسسين هناك، وفي الثورة الأمريكية التي بدأت أفكارها تشتعل تحت رماد الاستعمار البريطاني.
في هذا الكتاب، شرح مونتسكيو بتحليلٍ تفصيلي علاقة السلطة بالقوانين والمجتمع والاقتصاد، واستعرض مجموعة ضخمة من القوانين البشرية محاولًا الكشف عن طبيعتها وأصلها وارتباطها بظروف المجتمع من حيث السكّان والعادات والتقاليد والمناخ، ثم اشتغل بشكلٍ كثيف على تفكيك استبداد السلطة ومركزيّتها، وأنتج نظرية «فصل السُلطات» التشريعية والتنفيذية والقضائية، سعيًا لصنع توازن في نفوذ دوائر الحكم، ومنع هيمنة سُلطة واحدة أو حاكم على قرار الدولة.
في كلتا التجربتين السابقتين، مثّلت الاستجابة النظرية لضغوط أزمة واقعية نموذجًا لمئات التجارب في التاريخ البشري وفي مجتمعاتنا الحديثة لكيفية نشوء الأفكار والتصورات والنظريات والمواقف استجابة لواقع مأزوم وضغوط حياتية، الأمر الذي قد يُنتج أحيانًا نظريات مُهمة ومُلهِمة، وفي أخرى أفكارًا تكرّس الانقسام والاستبداد والعنصرية والتخلّف.
لا تخلو العلاقة الجدلية بين الحرية والتنمية من التعقيد؛ فمن ناحية، دخول بلد ما في مرحلة تحول ديمقراطي، أو حتى وصوله إلى مرحلة الاستقرار، غير متلازم -على عكس توقّعات عموم الناس- مع حصول تطور اقتصادي وتنمية متصاعدة. فقد تقطع الديمقراطية أشواطًا جيدة في بلد ما وتفشل السُلطة المنتخبة في تنمية الاقتصاد وتحسين الخدمات، فكل ذلك لا يتم بمجرد استقرار الحياة الديمقراطية، بل لا بد من وجود إدارة سياسية واقتصادية رشيدة، وخبرة، ورؤى، ومشروعات، وحسن إدارة للموارد الطبيعية والبشرية، والقدرة على جلب استثمارات، وقبل كل ذلك استقرار وثقة في اقتصاد ذلك البلد. لذلك يُشير عدد من دارسي التحول الديمقراطي إلى أن إمكانات التطور الاقتصادي في دول شمولية -في حال توفر الرؤية والإرادة- يكون عادة بمعدلات أعلى مما يحصل عادة في الدول المُستقرة ديمقراطيًا أو حديثة التحول نحو الديمقراطية. مثل تجارب الاتحاد السوفيتي بين عامي 1928-1960، والصين منذ التسعينيات وحتى الآن، وكوريا الشمالية التي حققت نموًا عاليًا بين خمسينيات القرن العشرين وثمانينياته، وكذلك في كوبا وفيتنام وكمبوديا ورواندا وسواها.
وحتى في دول الخليج، التي شهدت قفزات تنموية كبيرة في عقودها الأخيرة، يشير البعض إلى أن مسيرة التحديث فيها كانت بسبب ظهور النفط والوفرة المالية التي أعقبت ذلك، وهذا العامل مهم بالطبع، ولكنه ليس كافيًا، فمن دون وجود رؤى تحديثية وإدارة تنموية جيدة، لما استطاعت هذه البلدان إنجاز التقدم الحاصل، والذي حقق نجاحات واضحة في جوانب، وما زال متواضعًا في جوانب أخرى، مع تفاوت ملموس في مسيرة التحديث ومستوى الخدمات بين دول الخليج. لكن في المقابل ثمة دول نفطية تصدّر، منذ عقود، ملايين البراميل يوميًا، ومع ذلك تعاني ترديًا كبيرًا في البنية التحتية، وتراجعًا في مؤشرات التنمية، وانخفاضًا في معدلات الدخل، وارتفاعًا في نسب البطالة، وتفشيًا للفساد في مؤسسات الدولة، كما جرى ويجري في العراق والجزائر و«ليبيا القذافي» ونيجيريا وفنزويلا وإيران وسواها.
وعلى الرغم من النجاح النسبي في مسيرة التنمية والتحديث في دول الخليج، ثمة إشكالات عديدة في اقتصاديات هذه الدول، كعدم الاستفادة من الوفرة المالية، منذ عقود، في بناء اقتصاديات إنتاجية وخدمية تقلل الاعتماد على النفط، ومعدلات الفساد الحاضرة -وإن بشكل متفاوت في ما بينها- بسبب مركزية السُلطة وغياب الرقابة الناتج من انخفاض أو انعدام المشاركة الشعبية في القرار السياسي، ونزعة التباهي المتمثلة بحضور ما يُطلق عليه «مشاريع الفيل الأبيض»، وهو تعبير مستوحى من رمزية الأفيال البيضاء، بالغة الكُلفة ومحدودة المردود، التي كان يتسابق الأثرياء في الهند على اقتنائها تفاخرًا وتبذيرًا، وسوى ذلك.
لنتحدث بشكل أكثر تحديدًا عن بعض الدول الخليجية..
المتابع والراصد لما يجري في السعودية من نافذة مستقلة ومُحددة هي «المؤشرات الدولية» التي تُصدرها مؤسسات ومنظمات اقتصادية وسياسية دولية كبرى، سيجد أن هناك متغيرات كثيرة في مسارات متعددة حصلت في السنوات القليلة الماضية. فمن ناحية، هناك تقدم واضح في عدة مؤشرات، مثل: مؤشر الشفافية ومدركات الفساد، ومؤشر التنافسية العالمي، ومجال البحث العلمي، وتصنيف شانغهاي لأفضل الجامعات في العالم، والحوكمة التقنية، والتكنولوجيا الرقمية، وجودة الحياة، وتمكين المرأة والتشريعات الخاصة بها، والتنمية البشرية، وبيئة العمل والاستثمار، ورفع نسبة الصادرات غير النفطية، وسوى ذلك.
ومن ناحية أخرى، وعلى الرغم من أن المؤشرات السعودية في مجال الحريات والحقوق كانت متأخرة دائمًا، إلا أنها شهدت مزيدًا من التراجع في السنوات الأخيرة، خصوصًا في مؤشرات: حقوق الإنسان، والحريات المدنية، والحقوق السياسية، والحريات الصحافية، ومؤشر الديمقراطية، وسواها. إضافة إلى مؤشرات تضخّم الأسعار، وارتفاع الضرائب.
يمكن الإشارة أيضًا إلى عدة قرارات اقتصادية، تُعتبر إجراءات صحيحة ولكنها غير شعبية، مثل رفع معظم الدعم عن المحروقات والكهرباء والماء وسواها، الذي يذهب كثيرٌ منه إلى غير المحتاجين. وكذلك تقليص التوظيف الحكومي، ورفع الضريبة على استقدام العمال والموظفين لتحسين فرص توظيف المواطنين، وسوى ذلك.
أما حين نتحدث عن الإمارات وقطر، فكلتا الدولتين حققت، خلال عقود، قفزات تنموية وخدمية، ورفاهية اقتصادية كبيرة، وكلتاهما -كما بقية دول الخليج- دولة سُلطوية ريعية تحكمها عائلة، ولا توجد فيهما مشاركة شعبية حقيقية في القرار السياسي.. كان هناك مؤخرًا «مجلس وطني اتحادي» شكلي في الإمارات، و«مجلس شورى» ثلثاه منتخب ومحدود الصلاحيات في قطر، ولديهما تشريعات وقوانين تعاقب على حرية التعبير والنشاط السياسي، فما أبرز الفروقات بين هذين البلدين؟
في تقديري هناك فرقان رئيسان -واختلافات أخرى عديدة بالطبع- الأول: أن قطر على الرغم من طبيعة النظام السياسي السلطوي فيها تُحاول ألا تكون دولة قمعية، وتسعى لتهدئة الأصوات المحلية الناقدة بالضغط والمفاوضة والتخويف، من دون أن تصل غالبًا إلى ممارسات قمعية مباشرة. وإن فعلت ذلك أحيانًا فهي حالات نادرة واستثناء من السياق العام. وهذا أنتج هامشًا نسبيًا لحرية التعبير، وإمكانية نسبية للاختلاف مع سياسات الدولة، بعكس ما هو موجود في الإمارات، التي يكاد ينعدم فيها الهامش؛ حيث تقوم باعتقال ومحاكمة أي صوت يختلف في السياسة عن موقف السلطة، أو ينتقد مستوى الحريات، أو حتى يرفض الممارسات التطبيعية المُندفعة وغير المسبوقة عربيًا للنظام الإماراتي.
الفرق الثاني: هو اقتراب كثير من مواقف السلطة السياسية القطرية من المزاج العربي على المستوى الاجتماعي والديني، والمؤيد للربيع العربي والحريات السياسية، والداعم للمقاومة في فلسطين، وسواها من مواقف. وفي أقصى الطرف المضاد للمزاج العربي السائد تقع المواقف السياسية للسلطة في الإمارات، فمِن تَصَدُّر مواجهة الربيع العربي سياسيًا وإعلاميًا وماليًا وحتى عسكريًا، إلى تبني نمط اجتماعي منفتح -لدرجة الاستفزاز- للمزاج العربي المحافظ، وليس آخرًا مواقفها الفجة في مسيرة التطبيع التي لم تُقدم على شطرٍ منها دول سبقتها في التطبيع كمصر والأردن.
أما الكويت، فتتميز خليجيًا بأنها: الأكثر حريّة، والأكثر فسادًا، والأقل تنمية. وهو مزيج يحظى بارتياح وتوافق الحكومات الخليجية، التي يعنيها تكريس معادلة التناسب العكسي بين الحرية والتنمية في الخليج.
في كتاب «لماذا تفشل الأمم.. أصول السلطة والازدهار والفقر» تحدّث المؤلفان دارن اسيموجلو وجيمس روبنسون عن كيف أن هناك تجارب عديدة لدول سلطوية شمولية حققت تقدمًا اقتصاديًا سريعًا وعلى مدى عقود -أشرت إلى بعضها – إضافة إلى التقدم الاقتصادي الذي حققته دول في فترات كانت فيها «شبه ديمقراطية»، أي إنه توجد فيها مشاركة شعبية ولكنها محكومة وتحت السيطرة، مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية وبوتسوانا وسواها.
لكن ما ناقشه المؤلفان باستفاضة في هذا الكتاب، كيف أن التنمية في ظل أنظمة شمولية وبلا مؤسسات راسخة، إما أنها ستؤدي إلى انفتاح وبناء مؤسسات «كما حصل في كوريا وسنغافورة مثلًا»، أو ستؤدي إلى تراجعات في النمو الاقتصادي وانتكاسات «كما حصل في الاتحاد السوفيتي وكوبا مثلًا»؛ لأن بناء الاقتصاد في ظل أنظمة شمولية سيعاني دومًا قلقَ الاستدامة ومحدودية ضمانات الاستمرار وتطوير البيئة التنافسية، وضعف القانون الذي يحمي الاستثمار من تدخل السلطة وشبكات المصالح.
وفي كتابه «الانتقال الديمقراطي وإشكالياته» استعرض عزمي بشارة، في إطار حديثه عن اقتصاديات الدول الديمقراطية، أرقامًا ومؤشرات دولية تشير إلى أن أعلى 30 دولة في العالم -إذا استثنينا الدول الريعية- من ناحية متوسط دخل الفرد، وجودة التعليم، والتنمية البشرية، هي دول ديمقراطية. وهذا يشير إلى أن الديمقراطيات قادرة على تأمين رسوخ وتطور الاقتصاد والتقليل من احتمالية تعرضه لانهيارات.
أما أمارتيًا صن، فقد تحدث كذلك في كتابه «التنمية حرية» كيف أنه لا تنمية اقتصادية من دون حريات مدنية وحقوق سياسية وتكافؤ في الفرص وعدالة اجتماعية، وأن التنمية تعني كل ذلك وليس مجرد التطور الاقتصادي في ظل تفاوت طبقي وغياب للتكافؤ والحريات، الأمر الذي يجعل أي تطور اقتصادي عرضة لعدم الاستدامة وربما الانهيار. وهو يقول: «التاريخ العالمي لم يشهد مجاعة في ظل ديمقراطية حقيقية فاعلة».
أكثر جملة يتداولها الناس في الشارع اللبناني تعبيرًا عن سخطهم من الوضع القائم هو: «وين الدولة؟».. هو بحثٌ عن بيروقراطية مستقرة، ودولة مركزية تُنهي التدهور الاقتصادي والفوضى الأمنية، وتُمسك بأطراف البلد المُترهل والمُنهار. فيما أكثر ما ينتقده الناشطون والحقوقيون الخليجيون في مجتمعاتهم هو: الإفراط في سطوة الدولة ومركزيتها على حساب الحريات.. وكأنما نحن أمام استعادة مُستحدثة لجدلية هوبز ومونتسكيو.
في «المؤشر العربي» الذي يُصدره المركز العربي للأبحاث بشكل سنوي، وصدر المؤشر الأخير لعام 2020 في 60 صفحة، أظهرت الإجابة عن سؤال «الأولوية» لدى الجمهور العربي، أن ما يزيد عن 75% منهم أولويتهم تتمثل في الاقتصاد، والتحديث، والأمن، ومكافحة الفساد، وتحسين الخدمات. وتُشير نتائج المؤشر العربي إلى أن الجمهور العربي ينظر بإيجابية تجاه الحريات والديمقراطية، ولكنها إذا وُضِعت في مقابل تطوير الاقتصاد والخدمات، تكون تاليةً لها في الأولوية.
لذلك، ربما على الناشط أو المعارض للوضع السياسي القمعي في بلده، ألا يزري بالتحديث الاقتصادي والخدماتي وكأنه أمرٌ هامشي لا قيمة له، بل هو تطور مهم تجدر الإشادة به، مع التشديد على أهمية التركيز على مشكلة الحريات والقمع والاعتقال التعسفي وغياب المشاركة الشعبية في القرار السياسي، لأنها منطقة النقص والقصور الأهم، ويجب المطالبة والسعي والنضال لإصلاحها وتقويمها.
وإذا هجرت بلدك بسبب الانهيار الاقتصادي والفساد وتردي الخدمات، فلا تتعامل مع الدول الخليجية وكأنها النموذج المنشود لكل مواطن عربي، فالحياة المنشودة ليست خدمات واقتصاد ورفاهية واستقرار فقط، بل وحرية تعبير، وحقوق سياسية، وعدالة اجتماعية، واستقلال للمؤسسات العدلية، فكل ذلك يجب أن يبقى أيضًا في رأس قائمة الأولويات.
8 ديسمبر 2021