«حلّاق دمشق»: العامّة يكتبون التاريخ أيضًا
بالترافق مع هذه السُلطة والثروة الجديدتين، تطورت العمارة وتوطنت الثروات الجديدة في دمشق، بحيث «شُيَّد سبعة عشر قصرًا جديدًا داخل أسوار المدينة في القرن الثامن عشر، في حين لم يُشيَّد غيرَ قصرٍ واحدٍ خلال القرنين الماضيين».[1] وداخل هذه القصور، كان الأثاث يُستخدم للمباهاة بالثروات، كما تنوعّت أصناف الطعام العجيبة.
في هذا السياق، تغيّرت عادات أهل دمشق والشام عمومًا، إذ بدأت ثقافة التنزّه في الأراضي الخضراء بعيدًا عن المباني، وبدأ سكّان دمشق يتخلون عن خصوصيتهم نسبيًا، و«تركت المرأة تدريجيًا مكانها الذي كان ينتمي حصريًا إلى المحيط الخاصّ؛ أي المنزل»،[2] ومشت نساء دمشق المسيحيات حاسرات الرؤوس، ومشت البغايا علانيّة في الشوارع، أعَفى والي دمشق، أسعد باشا العظم، المسيحيين من دفع الجزية، وجلس عازفون يهود على مقاعد أعلى من مقاعد الجمهور من المسلمين.
هذه التحولات الاجتماعية في المدينة وبلاد الشام عمومًا، وغيرها، دَرستَها لسنوات الأكاديميّة والباحثة دانة السجديّ، ووضعتها في كتابها «حلّاق دمشق: مُحدَثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)»، الصادر عام 2018 عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي.
في هذا الكتاب، سعت الكاتبة إلى إحياء سيرة بعض العوامّ في تاريخ بلاد الشام الوسيط، قبل أن تصل إلى نتيجةٍ مفادها أن الصحافة العربيّة المطبوعة لها جذرٌ في تاريخ اليوميات الذي كتبه بعض العوامّ في بلاد الشام، وأن تلك الحقبة شهدت ظهور اقتصاد جديد للنصوص الأدبية والتاريخية، عكس الحقائق الاجتماعيّة والسياسيّة الجديدة وتفاعل معها.[3]
فما هي هذه النصوص؟ ومن هم مؤلفوها؟ وما الذي يُمكن أن تقدمه لنا وسط آلاف النصوص التي كتبت في التاريخ؟
مُحدَثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني
تستعرض السجدي نصوص مؤرخين كتبوا تاريخ دمشق في القرن الثامن عشر على شكل يوميّات لم تنشر في حياتهم. الأمثلة التي أوردتها تتنوع طائفيًا بين كاتبين مسيحييْن من طائفتين مختلفتين، ومسلميْن من طائفتين مختلفتين، وكاتب سامري. كما تتنوع مهنيًا بين حلّاق من طبقة متدنيّة، وجنديّين، وموظفٌ بسيطٌ في محكمة. لكن يجمع بين هؤلاء أنهم ينتمون لأوساطٍ أو طبقات خاضعةٍ،[4] إما بسبب المركز الاجتماعيّ، أو الطائفة، أو الوظيفة.
من هؤلاء، جنديان من دمشق هما حسن آغا العبد، وانصب تأريخه على طبقة الموظفين، والمراسم، والمؤامرات، والمناوشات العسكرية، وتحركات القوات العسكرية في دمشق، وحسن ابن الصديق، الذي «لا يمكن للقارئ لتاريخه تحديد مناصرٍ للمؤلف أو جماعة انتمى لها».
منهم أيضًا حيدر رضا الركيني، وهو مزارعٌ شيعيّ من جبل عامل في لبنان، كانت «الدولة العثمانية التي حددت هويتها ومشروعها كنقيض للمذهب الشيعي أحد أبرز الأعداء» في سرده.[5] وإبراهيم الدنفي وهو كاتبٌ سامريّ من نابلس يتشابه تأريخه مع تأريخ الركيني؛ كونهما ينتميان إلى من «اهتموا باستقلالهم النسبيّ» عن الدولة العثمانية في حالة الثاني، وعن ظاهر العمر الذي غزا نابلس، في حالة الأول.
منهم كذلك محمد المكي، وهو كاتب محكمةٍ حمصيّ كتب يومياته التي امتازت بـ«أسلوب نثري غريب» حيث أتت على شكل مختصر تليغرافي. وميخائيل بُريْك، وهو قسيسٌ من كنيسة الروم الأرثذوكس من دمشق، كان «على حدِّ علمنا، أوّل قسيسٍ من طائفة الروم الأرثذوكس في بلاد الشام يكتب تأريخًا ليس له أي صفةٍ دينية (..)[وإنما] تصويرًا لتاريخ الدمشقيين وماذا صار في مدينة دمشق»،[6] فضلًا عن حلّاق من عائلة حمّالين في دمشق، هو ابن بدير.
لم يكتب من قبل أحدٌ من الطبقات التي انتمى لها هؤلاء المؤرخون. فقد كان إنتاج نصّ التاريخ حكرًا على المشتغلين بالعلم في الأغلب، وتحديدًا بالعلوم الدينية، وكانوا من ميسوري الحال، وكانت مهنهم مرتبطة مباشرةً بالكتابة أو بمناصب الدولة، مثل القضاة والمفتين والمُعلمين والناسخين والخُطباء والمؤرخين والشعراء ومُقرئي القرآن والأولياء. وشكل هؤلاء حلقات شبه مغلقة؛ إذ لا ينقل كتاب بواسطة طالب علمٍ إلّا بعد حصوله على إجازة. لهذا ظلَّ التاريخ يُكتبه من هم معنيون بتصدير رواية السُلطة أو طبقة العُلماء.
لكن في القرن الثامن عشر، كما تقول السجدي، «انتهت هيمنة العُلماء على إنتاج المعرفة التاريخيّة واحتكارهم للزمن»،[7] حين بدأ في هذا القرن ظهور كتاب تاريخ اليوميات هؤلاء، الذين لم يكونوا يومًا من العُلماء أو مرتبطين بالدولة من خلال مهنهم.
اللغة في سياقٍ اجتماعيّ
تفترض السجدي في البداية أنَّ الأجناس الأدبيّة مقسمَّة اجتماعيًا، بمعنى أنَّ إنتاج بعض هذه الأجناس واستهلاكها يقع ضمن فئة اجتماعيّة ما. كتب هؤلاء التاريخ على شكل يوميّاتٍ، ولكي يعُد ما قدمه هؤلاء ظاهرة جديدة، كان لا بدَّ من وجود عوامل مشتركة بينهم أو بين نصوصهم. بحسب السجدي، أول هذه العوامل كان لغة هذا التأريخ، التي كانت في غالبها «عاميّة بسيطة»، تكثر فيها بالأخطاء النحوية والإملائيّة. هذه الخاصية تذكر بالفصل المقام بين الفصحى والعامية، بترسيخ صورة الأولى على أنها للمتعلمين والمهذبين والعلماء، بينما الثانية من نصيب الجماهير غير المتعّلمة.
تتبع السجدي ظاهرة استخدام العاميّة في النصوص التاريخية لهؤلاء، الذين «أدركوا الفرق بين الفصحى والعاميّة» لكنهم «اختاروا بدرجات متفاوتة ألا يخصصوا الفصحى للسرد المكتوب والعامية للكلام المحكي». لذا، فقد أنتج «محدثو الكتابة نصوصًا هجينة لغويًا جمعت العامية والفصحى، تجاهلت المعايير الأدبية، فبقيت الحدود الفاصلة بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية في هذه النصوص الهجينة غير محددة».
وتضيف السجدي أن هؤلاء المؤرخين استخدموا اللغة كوسيلة وليس غايةٍ بحد ذاتها، حيث تجنبوا الفصحى المنمقة، التي كانت ستقيد «قدرتهم على التعبير عن ذواتهم» لو استخدموها.[8] هذا الأسلوب كان أساسيًا في دخولهم كتابة التاريخ، إذ كان لوجود هذه الفئة مغزى، كانوا ضمن تحرّك أوسع، أي ضمن تحرك اجتماعيّ يبغى الوصول إلى طبقة اجتماعيّة غير التي وجودوا بها (الحلّاق مثلًا). من خلال ما ستمنحهم إيّاه الكتابة. باختصار، حين أفرز النظامان الاجتماعي والسياسيّ الجديدين أبهاتٍ للأعيان والعُلماء ومحدثي النعمة «كان لدى الأقل حظًا خيار الترويج لأنفسهم والحصول على امتيازات بواسطة تأليف نصوصٍ عامّةٍ ألا وهي التأريخ».[9]
كتابة الحاضر ونشأة الصحافة
العامل المشترك الثاني بين النصوص هو تأريخ الحاضر لا الماضي، نظرًا إلى أن هذه الفئة كَتبت التاريخ على شكل يوميّاتٍ.[10] وبحسب السجدي، «حين وصل تأريخ اليوميات إلى بلاد الشام في القرن الثامن عشر كان قد مرّ بتغييرات جعلته أكثر مرونةٍ، مما مكّن غير العُلماء من الاستحواذ عليه، وهكذا، وجب الآن على من أراد تأليف تأريخ أن يتمتع بمؤهلين فقط؛ القدرة على القراءة والكتابة (..) وأن يكون المؤلف ببساطة شاهدًا على الأحداث التي تدور في محيطه المباشر».[11]
هكذا لم يعد المؤرخ بحاجة إلى دراسة الماضي وأحداثهِ التي كُتبت قبله، أو الالتزام باللغة العربيّة الفصحى. فدخلت مواضيع جديدة في نصوص التاريخ، مثل المغامرات الجنسيّة، وقائمة الأطعمة وأسعارها، والنوادر، والعجائب، بدلًا من التركيز على أخبار الحكام والعُلماء والمعارك الكبيرة وسقوط سلالات وظهور سلالات حاكمة. كما سلط المؤرخون الجدد الضوء على ما يجري من فوضى وتغييرات من حولهم، وقدموا تعريفًا بالمشكلات التي يعيشونها ويشهدونها ونقدًا لها، مما قد يكون سهّل ظهور شخصية «بطل النهضة، أي المصلح والصحفي». بعبارة أخرى، فقد «كانت فحوى التأريخ في القرن الثامن عشر أشبه بالصحيفة المحليّة».[12]
على هذا الأساس، تستنتج السجدي أن هذه الكتابات كانت رافدًا للصحافة العربيّة، وبصورة أعم، لعصر النهضة في القرن التاسع عشر. فرغم ارتباط ظهور الصحف في بلاد الشام ومصر بظهور الطباعة في ظل حركة الإصلاح التي دعمتها الدولة، وبتشييد مدارس حديثة، والانفتاح على الغرب، والبعثات العربية إلى الغرب، إلا أن السجدي ترد ظهور الصحف أيضًا إلى «توفر الاستعداد الاجتماعيّ أو الميل إلى الانغماس في ثقافة الصحافة المطبوعة»،[13] وهو ما تدل عليه الأعداد الكبيرة للمطبوعات الصحفية والمشتغلين بالصحافة في الفترة بين عامي 1828 و1928.
في القرن الثامن عشر، أيّام الحكم العثمانيّ، بدأ في بلاد الشام نظامٌ جديد انتقلت فيه السُلطة من قصر السُلطان في أسطنبول إلى قصور الوزراء وعائلات الباشوات في دمشق، بعد أن منحت أسطنبول إقطاعات للنخبة في دمشق، من علماء وتجّار وولاةٍ، فظهر نتيجةً لذلك نظامٌ ضريبيٌّ جديدٌ هو «المالكانة» مكّنَ هذه الفئات من الهيمنة اجتماعيًا وسياسيًا.
نهاية «احتكار الزمن»؟
ربّما لقصّة المؤلفة نفسها مع كتاب الحلّاق خير مثالٍ على احتكار السلطة للرواية التاريخيّة، إذ كان على المؤلفة استبعاد نُسخ تاريخ ابن بدير التي حققها بعض العلماء، وفضلّت الرجوع إلى النسخة الأصلية. لماذا؟
في تحقيقه لنسخة الحلاق التي أنجزها قبل وفاته 1900، غيّر محمد سعيد القاسمي الكثير، فحذف وأضاف على النسخة، وكتب مقدمة يشرح فيها اليوميات، وكيف أنها حدثت في أيام وزراء وأعيان أبناء عائلة العظم، محاولًا إظهارهم كأبطال داخل النصّ، «فحوّله من بنيته الأصليّة – كنتاج هجين يحمل رسالة معارضة وهادمة ونصٍ ذي وظيفةٍ أدائيّة بالدرجة الأولى- وأرجعه إلى تأريخ منظّم نسبيًا يُعنى بالسلاطين والولاة».
تقول المؤلفة بعد اطلاعها على النسخ المحققة والنسخة الأصليّة إنه «تمّ إسكات الحلاق وتغيير لغته إلى درجة أنهما أصبحا، في أحسن الأحوال، خلفيّة ظريفة، ويبدو أن العالِم لم يستطع استساغة مخاوف محدثي الكتابة وطموحاتهم، فاضطر إلى إرجاع الحلاق إلى مكانته الاجتماعيّة الملائمة. بعبارة أخرى يستغل المحقق حقيقة موت الحلاق ليقتله مرة أخرى فيحذف الحلاق وحياته من النصّ».[14]
لذا، يأتي كتاب السجدي كمقاومة لهذا الإسكات. في حوارٍ قصيرٍ معها، تحدثت السجدي لحبر عن الدور الذي يُمكن أن تقوم به مثل هذه الدراسة في تغيير النظرة إلى التاريخ. إذ ترى أن حقل التاريخ عمومًا في القرون الأربعة الأخيرة انشغل بـ«مراجعة وتعديل نفسه، حيث أدرك الباحثون أن مجالهم ودراساتهم ساعدت على تثبيت السلطة، وخصوصًا الدولة القومية، ودعم قصة الظافر والمهيمن». لذا فقد ركزت فمعظم المدارس التاريخية في العقود الأخيرة علی «هدم النماذج التقليدية وبث الشك في مصادرنا الأولية إن كانت وثائق رسمية أو مخطوطات كتبها مؤرخون تابعون للفئات المهيمنة».
تقدم السجدي عملها على أنه عمل «تاريخ اجتماعي»، أكثر من كونه تاريخًا مصغرًا أو جزئيًا (microhistory). فمع أنه لا تناقض بالضرورة بين المصطلحين، بل أن الأول عادة ما يحتوي الثاني، إلا أن تركيزها على الأول جاء، حسبما تقول لحبر، بهدف الرد على مقولة إن المصادر الأولية في مجال التاريخ الإسلامي بطبيعتها لا تسمح بدراسة الطبقات الدنيا ولا تعطي شخوصها أي ملامح فردية.
وتعبر السجدي عن منظور مغاير للتاريخ العربي في بلاد الشام، يبتعد عن «ما تعلمناه في المدارس [من أن] الثقافة العربية لم تزدهر إلا تحت حكم الأمويين والعباسيين، وأن والوجود الفكري والثقافي العربي اضمحل وضمر [حتى جاء] عصر النهضة في القرن التاسع عشر»، وأن العصر العثماني كان «عبارة عن أربعة قرون من الظلام والانحطاط»، ولا شيء آخر. إذ لا تنكر المؤلفة محاولة كبت الثقافة العربية في أواخر العهد العثماني، في ظل تبني نهج التتريك، إلا أن دخول مؤرخين جدد إلى عالم الكتابة يؤشر إلى أن تلك الفترة «سمحت لفئات جديدة للتعبير عن واقعها وآمالها بصوتها بدون وسيط».
التخلص من رواية السُلطة للأحداث هو هدف مثل هذه المقاربات، بحسب السجدي. فهدف التاريخ عمومًا هو التغيير الاجتماعي من خلال طرح سرديات جديدة. لكن هيمنة رواية السلطة مرتبطة بهيمنة السلطة نفسها، واستمرار سيطرتها على المؤسسات، خاصة التعليمية منها، وبالتالي قدرتها على انتقاء ما يناسبها وتخليده، وكبت ما سواه.
أخيرًا، لا تغفل السجدي امتداد هيمنة السلطة إلى كتابها نفسه، الذي صدر بالإنجليزية قبل أن يُترجم إلى العربية. فتقول لحبر: «مما يؤسفني أن هذا الكتاب المتعلق بموضوع عن المجتمع العربي وثقافته و[الناتج] عن دراسة عميقة في مصادر أولية باللغة العربية كُتب أصلًا بالإنجليزية. هذا بالضبط هو منتوج علاقات السلطة بالعالم».
الكاتب:
الهوامش:
[1] – دانة السجدي، «حلّاق دمشق: مُحدَثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)»، ترجمة سرى خريس. دار كلمة، أبو ظبي، 2018. ص 39.
[2] – السجدي، ص 49.
[3] – السجدي، ص 52.
[4] – يستخدم المؤرخ الإيطاليّ كارلو غينسبورغ مفهوم الطبقات الخاضعة لوصف الذين «وُصفوا وصفًا أبويًّا بأنهَّم سواد الناس في المجتمع المتحضّر».
[5] – السجدي، ص 99.
[6] – السجدي، ص 94 – 95.
[7] – السجدي، ص 93.
[8] – السجدي، ص 124.
[9] – السجدي، ص 54.
[10] – السجدي، ص 135.
[11] – السجدي، ص 151.
[12] – السجدي، ص 217.
[13] – السجدي، ص 218.
[14] – السجدي، ص 186.