الفلسفة والحياة اليومية… حوار عن اللباس والجسد
يعد موضوع اللباس والجسد، من بين المواضيع التي شغلت الباحثين في الحقلين السوسيولوجي والتاريخي، وعلى الرغم من أن الدراسات العربية في هذا الجانب ما تزال محدودة مقارنة بما أنجز في الأكاديمية الغربية حول اللباس العربي وحاضره اليوم، لكن يمكن القول إن حقل اللباس بالأخص، بقي محصورا في هذه الأوساط، مقارنة مثلا بالأوساط الفلسفية العربية، التي ظلت الكتابات في هذا الجانب نادرة. ومن هنا يمثل صدور كتاب الفليسوف اللبناني ناصيف نصار «كتاب عشار.. في اللباس والجسد»، مركز دراسات الوحدة العربية، محاولة جريئة وغنية لإقحام الخطاب الفلسفي العربي في الحياة اليومية (اللباس)، بعيدا عن اللغة التجريدية.
وفي هذا الكتاب، الذي صدر على شكل حوار وأسئلة بينه وبين ممثلة مسرحية لبنانية، يرى نصار أن اللباس يظهر أمرا مألوفا، وجزءا لا يتجرأ من عاداتنا الراسخة وممارساتنا الجارية، إلا أنه في الأصل ليس كذلك، حيث يعيش الإنسان على الدوام في توتر الجدلية الحميمية بين جسميته وجسديته، ولا يمكن فهم ظاهرة اللباس، ومعها ظاهرة العري خارجا عن هذه الجدلية.
وفي سياق بحثه عن مدخل للسؤال حول فلسفة اللباس في الحياة اليومية، يقترح نصار إنه يمكن إرجاع الوظائف الأساسية للباس إلى ثلاث وظائف، الصحية والوظيفية التشكيلية والوظيفة الأخلاقية. وتتمثل فكرة الجانب الصحي في حماية الجسم من أخطار البيئة الخارجية بوصفها ضرورة حياتية أولية. بينما يعني بالوظيفة التشكيلية هي تلك التي ترتبط بقيمة الجمال، والتي لا ترتبط فقط بالشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الملابس، من حيث الطول والعرض والتناسب واللون، ولكنه معني أولا بشكل الجسم الذي سيحمل تلك الملابس، وبالتالي فالمسألة هي مسألة تحديد ما يراد حجبه، وما يراد تركه مكشوفا. وبهذا المعنى، تصبح العناية بالشكل ترتيب الحدود بين المطلوب حجبه، والمطلوب كشفه بالنسبة إلى الجسم كله، وهو أمر متوقف على إرادة اللاعب بها. فاللاعب هو من يقرر ما يريد حجبه، وما يريد تركه مكشوف من جسمه، لكن هذا الأمر في المقابل خاضع لقواعد محددة. أما على الصعيد الأخلاقي، فإن ارتداء الملابس يؤمن حماية الشخص من بعض المخاطر التي تهدد خصوصيته وكرامته من البيئة الاجتماعية، والوصف الدقيق لهذه الحماية، يقول إنها حماية الكرامة الشخصية على مستوى الجسد في مواجهة الآخرين.
ويرى نصار أنه في المنظور الأخلاقي، يتحول الاعتبار من الجسم إلى الجسد، لأن القضية المركزية لهذا المنظور، هي قضية الكرامة الشخصية التي لا ينقضها إطلاقا الوجود مع الآخرين. ويكتسب الجسد في ظلها خصوصية بارزة بين خصوصيات الشخصي بكاملها في وجوده مع الآخرين، ولذلك تتحد الوظيفة الأخلاقية لعملية ارتداء الملابس بمقدار ما تسهم به في الحفاظ على كرامة الشخص وخصوصيته، بوصفه ذاتا متجسدة في مواجهة غيرها من الذوات المتجسدة، لكن ناصيف يرى أيضا أن الصفة الأخلاقية تتأثر بالبيئة الاجتماعية، وباعتبارات تتعلق بين ما يجري كشفه وما يجري ستره من الجسد، هذه الاعتبارات معيارية، من حيث أنها تحدد ما هو مقبول وما هو غير مقبول، ولذلك لا غرابة في القول بأن الحشمة إنما هي ارتداء الثياب وفقا لما يليق بين الناس في بيئة اجتماعية معينة، والمهم والجديد هنا أن نصار لا يرى في مفهوم الحشمة مفهوما تصنعه التقاليد والجماعات المحافظة بالضرورة، بل هو مفهوم يرجع إلى ما يدرك ويميز، في عملية ارتداء الثياب، وبين ما يجرح الشعور بالكرامة، وما يصور الشعور بالكرامة، وهو الذوق. ولذلك لا يصح تفسيرها بطغيان الجماعة والتقاليد على الفرد، وإخضاع البيئة الاجتماعية بعاداتها وأعرافها للإرادات الفردية، بل ينبغي القول إن ما يليق وما لا يليق من كيفية ارتداء الثياب لا يتقرر بالعادة والتقليد، بل بالذوق الذي يكمن وراء العادة والتقليد.
والحشمة تعني أيضا موقفا وسطيا بين المغالاة في التغطية والمغالاة في التغرب، وبدلا أن نقول إنها تعني توازنا بين ما يجب حجبه وما يجب كشفه من مناطق الجسد، فهي فن ارتداء الثياب بكيفية مرنة تتوازن فيها الوظائف الأساسية لظاهرة اللباس، الصحية والتشكيلية والأخلاقية.
جسدي يخصني
وحول شيوع بعض الشعارات في الآونة الأخيرة، داخل الحركة النسوية، وفي مقدمتها الشعار المركزي اللافت» جسدي يخصني»، يعتقد نصار أن الجواب عن هذا الشعار يتأسس على مراجعة نقدية لمفهوم الامتلاك.
فعندما يسعى أي شخص الى القول «جسدي يخصني»، فيفهم من ذلك أن التشديد على يخصني يرمي إلى استبعاد كل حق لغيرك في التدخل، بلغة الأمر والنهي في شؤون الجسد، ولكن عندما نقول «جسدي شيء يخصني»، فإن هذه العبارة، تعني أن ثمة جسدا، وأن هذا الجسد مضافا إلى متكلم، يشير إلى أن الفرد اذ يتخذ جسده موضوعا لوعيه، يدرك بالفعل نفسه أن جسده جزء لا يتجزأ منه. ويؤكد نصار هنا، أن إضافة الجسد إلى الأنا ليس إضافة من الخارج، وإنما هي علاقة تقوم داخل الأنا، وتنبني في تفاعل معقد بين الداخل والخارج، وماهيتها أن الجسد يتماهى مع الأنا من دون أن تكون هذه الأنا بكليتها، لأن الاعتراف بأن الجسد يخصنا لا يعني إهمال الدور الحيوي، الذي يؤديه الوجود مع الآخر في سياسة الجسد، فالعلاقة بين الجسد والمجتمع علاقة قائمة على الدوام، لكنها ليست مباشرة، بل تمر عبر إدارة الأنا وسياساتها.
عن تسليع اللباس والدين
وبالعودة إلى موضوع اللباس وعلاقته بالأفكار الدينية، يرى نصار أننا اليوم أمام نزعة لتسليع العالم، ولسنا أمام أمر واقع ناجز على التمام. فنحن أمام حركة اقتصادية اجتماعية تتجسد في نشاط متعاظم لتكثير إنتاج المواد الاستهلاكية وتنويعها، وتترسخ تدريجيا في الاعتقاد بإمكانية التعاطي مع كل شيء في العالم بلغة السلطة. وفي سياق اللباس، نرى أن الأداة الرئيسية التي يعول عليها الرأسمال في قطاع اللباس هي الموضة. فالموضة مصطلح مطاط، ولكنه فعال جدا. إنه، في الأصل تطوير لمفهوم الزي التقليدي، إلا أنه يكاد يكون تطبيقا لقاعدة الفصل بين الزي والتقليد، وتحرير الزي من وطأة التقليد بصفة عامة، فللموضة ظاهرة ملموسة وخفية، وهي فن يتعاطى مع شكل الملابس، والموضة تصنع أشكال الملابس، وتتفنن في صناعتها للرجال والنساء، وفقا للأعمار والقامات والأبدان والفصول والأعياد وما إلى ذلك. وبهذا المعنى، ليس من المستغرب أن تتحول الموضة، في بعض الحالات إلى صرعة، والصرعة إلى شذوذ يخدش الذوق العام الذي يحرص الرأسمال على مسايرته بصورة براغماتية.
وعن العلاقة بين الموضة والفكر الديني، يعود نصار ليؤكد أن الموضة فكرة مطاطية، وأن الرأسمال يتأقلم مضطرا مع الواقع القائم، كما هو الحال مع الإسلاميين وفرض شكل معين من اللباس، حيث يحاول الفكر التسليعي نقل اهتمامه بالتفاصيل إلى داخل الدائرة التي يحددها المعتقد الديني، والسلطة المسؤولة عن تفسيره وتطبيقه، لأن الرأسمال لا يرى في اللباس إلا السلعة، ولا يعتبر نفسه مرجعا جماليا أو أخلاقيا، بل يتعامل مع المرجعيات الجمالية والأخلاقية، حسبما تتيح له من مجال في تكثير السلعة وتنويعها واستهلاكها. وعلى العموم، يعتقد نصار أنه من الصواب القول ن أخلاقية الرأسمال ليست في الحياد بين المرجعيات والمذاهب الأخلاقية، بل في الانحياز الكامل إلى السلعة، أي في تعامله مع مختلف الأخلاقيات انطلاقا من أخلاقية السلعة. ومن هذا المنطلق، يقيم خططه وأساليبه للهيمنة على المجال الاجتماعي بكليته، أو في الأقل للتأثير فيه وتوجيه وفقا لروحه.
كاتب سوري