تقارب عبر التبادل الثقافي

يتناول يوهانس إيبرت، مدير معهد غوته في القاهرة والاسكندرية، دور الثقافة في التخفيف من حدة النزاعات السياسية بين الشرق والغرب وإيجاد وعي للآخر

معهد غوته في الدول الإسلامية: ردع الصراع من خلال التبادل الثقافي والتعليمي

"الموسيقى لغة مشتركة نفهمها جميعاً، وهي أفضل من سفك الدماء والحرب." بهذه العبارة الواضحة خاطب محمد منير، نجم الغناء الشعبي المصري، 15000 من الشباب المصري، حول الفن والحوار بين الحضارات في مدينة أسيوط، التي ظلت مغلقة عدة سنوات أمام الأجانب لخشية الحكومة من اعتداءات المتطرفين. وكان إلى جانبه على خشبة المسرح المفتوح الموسيقي النمساوي هوبرت فون غويزرن، بدعوة من معهد غوته؛ المركز الثقافي الألماني في القاهرة للمشاركة في الأداء الفني مع نجم الغناء الشعبي المصرية. إن عبارة منير الحماسية لم تترك انطباعها على الجمهور الأسيوطي فقط، وإنما هي أيضاً مثل طيب للتعاون الفني الممكن بين الشرق والغرب.

ركز العديد من السياسيين والمثقفين - الذين أدركوا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول2001، ثغرات وعيوب سياسة الأمن التقليدية في العلاقات المتوترة بين الشرق الأوسط و"الغرب"- على دور التعليم الخارجي والسياسة الثقافية في الوصول إلى فهم أفضل، ومن ثم المساهمة في ردع الصراعات. وقد ذكر صامويل هنتنغتون في دراسته الجدلية أن التبادل الثقافي يمكن أن يخفف من وطأة عدم الثقة المتبادلة بين حضارتين متعاديتين. ويرى يوهانيس رايسّنر، زميل البحث العلمي لدى مؤسسة العلوم والسياسة، وخبير عميق المعرفة والفكر بالسياسة الخارجية، أن لهذا النوع من الحوار معنى إذا أمكن من خلاله التوصل إلى:

- معرفة أكبر بالحضارات والثقافات الأخرى
- توضيح أن الآراء ووجهات النظر تتشكل من خلال بيئة المرء الثقافية
- تحسين الاتصال والحوار حول القيم والمعايير.

ماذا يقصد بالإسلام؟

"الحوار مع الإسلام" هو المصطلح الجماعي الذي تندرج تحته كل الجهود التي تبذل في هذا الصدد. غير أن هذا المصطلح غير دقيق في الواقع من وجوه عدة:
- الحوار الحقيقي ممكن فقط بين الأفراد وليس بين الأديان أو الأيديولوجيات.
- المجتمعات الشرقية معقدة كالمجتمعات الغربية. إن الإسلام، إذا أنطبق ذلك، هو إحدى سمات الهوية لعامة المصريين أو اللبنانيين أو الإندونيسيين. لذلك فإن التركيز على الإسلام كسمة رئيسية لهذه الهويات يؤدي إلى تشكيل انطباع مشوه، حسب مفهوم إدوارد سعيد حول النظرة الاستشراقية.
- إن التركيز على الإسلام، من جهة أخرى مشابهة، كقوة دافعة مفترضة داخل المجتمعات الشرقية يغفل عناصر أخرى هامة ومؤثرة، مثل تبعات العولمة، وتقسيم الثروة بين الشمال والجنوب، وخصائص سياسية غير ذلك.

لهذا ينبغي إدراك مصطلح "الحوار مع الإسلام" بمعنى أوسع. ويجب دائما النظر بعين الاعتبار إلى السمات الأخرى الهامة داخل المجتمعات، مثل الاحتكاكات التاريخية، ردود الفعل على التحديث، وفعالية الهياكل الثقافية والتعليمية. إذا تم تفسير مصطلح "الحوار مع الإسلام" بهذه الطريقة فمن الممكن أن يلعب دوراً هاماً ومستديماً في منع الصراعات.

أهداف معهد غوته

​​ترتبط سياسة ألمانيا الثقافية بالأهداف الأوسع للسياسة الخارجية: "إنها تدعم وتخدم الأهداف والطموحات العامة لسياستنا الخارجية- حماية السلام، منع الصراعات، ضمان احترام حقوق الإنسان، تشجيع مشاريع الشراكة والتعاون." ضمن هذا الإطار العام يعمل معهد غوته، أكبر المؤسسات الألمانية العاملة في مجال التبادل التعليمي والثقافي في الشرق الأوسط ودول إسلامية أخرى منذ أكثر من أربعين عاماً. ويركز المعهد على التبادل الثقافي في الفنون، الإنسانيات والعلم، علاوة على تشجيع نشر اللغة الألمانية من خلال التعاون مع الوزارات والمؤسسات التعليمية. كما يوفر معهد غوته معلومات حول ألمانيا ويعمل على تحسين سبل الوصول إلى مصادر المعلومات بصفة عامة. وتعد هذه النقطة الأخيرة على قدر كبير من الأهمية وخاصة في الدول التي لا يمكن فيها الوصول إلى بنى المعلومات بسهولة.

قامت وزارة الخارجية الألمانية في مايو/أيار 2002 بتعيين الدكتور غونتر مولاك، كأول مفوض لشئون الحوار مع العالم الإسلامي. كما تم في عام 2002 توفير ميزانية تبلغ خمسة ملايين يورو لمشاريع الحوار وذلك بالتعاون مع منظمات مستقلة ووسيطة ومختلفة، مثل معهد غوته، والهيئة الألمانية للتبادل الأكاديمي(DAAD) وغيرها. وقد حظيت المشاريع الخاصة بتقوية المجتمع المدني في الدول الإسلامية، والمشاريع التي تنفذ بالتعاون مع الشباب ونخبة المستقبل في هذه الدول، بمركز الاهتمام. ويستمر دعم مثل هذه البرامج المخصصة للحوار في عام 2003 مع تخفيض الميزانية بعض الشيء. إن تخفيض الدعم المالي لمثل تلك البرامج يمكن أن يأتي بنتائج معاكسة، نظراً لأن معظم الإجراءات في مجال الثقافة والتعليم، وخاصة تلك التي تحاول تغيير التوجهات أو التأثير على الهياكل تتطلب منظوراً بعيد المدى.

يقود معهد غوته حواراً مكثفاً في الدول الإسلامية حتى قبل كارثة 11 سبتمبر/أيلول بزمن طويل. وشهدت بداية التسعينات مجموعة من المؤتمرات في جاكارتا تحت عنوان "الحوار مع الإسلام" وجمعت عدداً كبيراً من العلماء الألمان والعلماء الأندونيسيين لمناقشة القيم الشرقية والغربية. وقد أدت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الآن إلى حوار أكثر تركيزاً، و يتخذ له محور اهتمام جديد، إلى جانب مشاريع طورت حديثاً وأشكال للرد على عدم الثقة المتنامية بل والخوف القائم بين الشرق والغرب، والذي عززته الحروب في أفغانستان والعراق.

الحوار مع الطرف الآخر

إن التحديات التي يواجهها التبادل الثقافي مع الدول الإسلامية متعددة ومتنوعة. وتواجه معاهد غوته وهي تمارس عملها أسئلة مثل: كيف يمكننا مواجهة حقيقة أن كثيراً من المسلمين يعتبرون "الغرب" متفسخاً وغير أخلاقي؟ كيف نتعامل مع التوبيخ الموجه إلى "المعايير المزدوجة" التي يتبعها الغرب في سياسته إزاء الشرق الأوسط؟ كيف يمكننا أن نضفي على هذا الحوار المصداقية الضرورية وخاصة فيما يتعلق بحقيقة أن التبادل الحقيقي لا يمكن أن يقوم إلا بين شريكين متساويين؟ كيف يمكننا إجراء حوار مع مسلمين يعتبرون أن القيم الإسلامية ثابتة لا يمكن تغييرها وأنها عالمية؟ كيف يمكننا المساعدة في تحسين أنظمة التعليم التي انتقدها بشدة تقرير برنامج التنمية الأخير التابع للأمم المتحدة حول العالم العربي؟ كيف يمكننا المساعدة في تسهيل الوصول إلى المعلومات؟ مع من ولصالح من نعمل في الدول الإسلامية عندما نعقد مناقشات حول القيم ونزعات التحيز؟ ثم كيف يمكننا تحسين فهم العالم الإسلامي في ألمانيا؟

لا بد بداية من توضيح أنه لا يمكن للمعاهد، ومن بينها معهد غوته "تصليح الإضرار الناجمة عن توزيع القوة والضعف، والغنى والفقر في العالم." إلا أن معاهد غوته –وهذه سمة قوية تماماً بل وربما جوهرية في الحوار الحقيقي- موجودة فعلياً وبصفة دائمة في كثير من الدول الإسلامية؛ فهناك أحد عشر مركزاً ثقافيا ألمانيا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحدهما، وهي تعد بمثابة منتدى للتبادل بين المثقفين والفنانين، والطلبة والتلاميذ من ألمانيا ومن الدول العربية والإسلامية كذلك. وتقدم المراكز معلومات عن ألمانيا وأوروبا، وتبادر في إجراء مناظرات عن القيم، وبالتالي تشجع الإحساس والفهم الفكري. ويمكن أن تصبح معاهد غوته أماكن مفتوحة ومحمية في نفس الوقت للمناقشات الحرة والوصول إلى المعلومات.مبادئ معهد غوته للدخول في حوار

تبشر بعض مبادئ "الحوار مع الإسلام" بقدر من النجاح في تبادل صريح وعادل:

- من الضروري رسم صورة واضحة وغير متحيزة لخاصية التعدد في المجتمعات الألمانية والأوروبية. ويمكن أن تصبح هذه الصورة أكثر وضوحاً وأسهل استيعاباً عند ربطها بالتجارب الذاتية للشريك. وتشمل أمثلة ذلك المناقشات بين برلمانيات الدول الأوروبية ونظيراتهن من دول الشرق الأوسط في معهد غوته في القاهرة أو بيروت، أو محاضرات حول الإسلام في ألمانيا كمثل يوضح تنوع المجتمعات الأوربية. ويمكن علاوة على هذا عرض أفلام ألمانية مع ترجمة باللغة العربية أو الدارية، وتبادل الكُتاب أو- بغرض إعطاء أمثلة محددة – عرض الفيلم الذي أخرجه مصريان شابان عن ألمانيا. هذه أمثلة طيبة للأنشطة المتعددة في هذا الصدد. كما تساهم مجلة "فكر وفن" - التي تتناول التيارات الثقافية الراهنة، وموضوعات النقاش بين ألمانيا والعالم الإسلامي، والتي تقرأ على نطاق واسع - في إدراك مميِز "للغرب".

- لا تتمثل مهمة معهد غوته في إجراء حوار بين الأديان، وإنما في تحديد الموضوعات ذات الاهتمام المشترك سوياً مع الشركاء المحليين. وفي هذا بداية لحوار حول القيم. كما أن الندوات والمؤتمرات التي تتناول موضوعات مثل "آثار العولمة"، و"حكم القانون"، أو "أثر المسلسلات وحلقات التسلية التلفزيونية في طريقة إدارك الشرق والغرب" تهم كافة الطبقات المختلفة في المجتمع ولها دور في التوجهات الثقافية. وتمثل وجهة النظر الإسلامية إحدى سمات النقاش فقط، ومن ثم يمكن تناولها على أساس أكثر حيادية.

- لا يتم الحوار بين مجتمعات بل بين أفراد. ويلعب التبادل بين التلاميذ والطلبة والصحفيين والعلماء والفنانين والمثقفين دوراً هاماً في حوار يجري خارج نطاق المؤتمرات والمناقشات السياسية. كما أن ترتيب زيارات المكتبيين والمحررين والمثقفين والصحفيين ومديري الفنون، بدعم من معاهد غوته، إلى ألمانيا يفتح آفاقاً فكرية جديدة أمام الطرفين ويشجع فهم كل منهما للآخر بشكل أفضل.

- توفر معاهد غوته، إلى جانب برامج اللغات الضخمة التي تقدمها، ورش عمل وندوات ومحاضرات موجهة لمجموعات مختلفة مثل الفنانين والطلبة والمكتبيين، وذلك بغرض تحسين الهياكل والمعرفة المتخصصة في مجالات مختلفة. وتمثل طرق التدريس المتبعة في هذا، وكذلك في دورات تعليم اللغة الألمانية وتدريب المعلمين قيماً تعليمية ديمقراطية.

- للإبداع في مجال الفنون الجميلة أهمية خاصة. ويمكن أن تعكس برامج الأداء والفنون المرئية التحديات الراهنة التي تواجهها المجتمعات وأثر ذلك على المشاعر وأنماط التفاعل الاجتماعي، ومن ثم خلق أرضية صلبة للتبادل بين الثقافات؛ فالفنانون ينشرون الأفكار وهم في نفس الوقت مصدر إعجاب الأجيال الشابة.

- تشكل المعلومات الصحيحة والصادقة أساساً للحوار. ويمكن أن تسهل منتديات الثرثرة ومواقع وشبكات المعلومات وصول الشباب بصفة خاصة إلى مصادر المعلومات. وتساهم مكتبات معاهد غوته وتأسيس شبكة من مواقع المعلومات في كثير من دول الشرق الأوسط، في توفير مصدر جديد للمعلومات.

- نخبة المستقبل وشباب المجموعات العامة والإسلامية ممن هم على استعداد واهتمام بالتبادل الصريح يجب أن يكونوا الشركاء المفضلين في "الحوار مع الإسلام". ولا توجد حتى الآن تجارب كثيرة في التبادل مع ممثلي الإسلام السياسي، غير أن هذا يمكن أن يصبح أحد الأهداف في المستقبل.

تقارب عبر الموسيقى

بعد ثمانية عشر شهراً من حفلهما الموسيقي في أسيوط، أتم محمد منير و هوبرت فون غويزرن جولة موسيقية في ألمانيا شملت 15 مدينة. إن لقاء الموسيقيين الأول في أسيوط كان له أثر دائم. ومن الواضح أن المشاريع الثقافية والتعليمية تستغرق وقتاً قبل أن تترك أثرها على المجتمعات. ويُبرز أحد الأمثلة من التاريخ الألماني قدر الأهمية التي يمكن أن تحظى بها مثل تلك المشاريع. فقد تم التوقيع على معاهدة الإليزيه قبل أربعين عاماً للقضاء على العداوة بين فرنسا وألمانيا. وكانت هذه بمثابة نقطة البداية لحوار حضاري مكثف، وللتبادل الشبابي بين البلدين، والتي لولاهما لظلت المعاهدة مجرد حبر على ورق، وليس أساساً لواحدة من أقوى علاقات الشراكة داخل الاتحاد الأوربي. ومن الجلي أن الحوار بين أوروبا والعالم الإسلامي يجري في ظروف مختلفة وعلى نطاق أصغر بكثير، إلا أن الصلح بين فرنسا وألمانيا يوضح أن تبادل المواطنين والحوار الحضاري يمكن أن يلعبا دوراً حاسماً في تغيير التاريخ.

ترجمة: حسن الشريف

يوهانس إيبرت يدير معهدي غوته في القاهرة والاسكندرية والمسؤول الإقليمي لمعاهد غوته في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

صدر المقال في عدد 11 من مجلة "السياسة الخارجية الألمانية في حوار" باللغة الإنكليزية. يمكنك الاطلاع على المضمون هنا.