حفنة من الثلج؟

يتبوأ جنكيز أيتماتوف مكانًا ثابتًا على ساحة الأدب العالمي، وذلك منذ أن نشر قصة الحب "جميلة" قبل ما يزيد عن أربعين عامًا. هذا الحديث مع الشاعر الدبلوماسي جنكيز أيتماتوف يتناول روايته الجديدة والطبيعة البديعة والجذور الثقافية المشتركة في آسيا الوسطى.

في روايتك الجديدة "نمر الثلج" ثمة ملاحقة لا هوادة فيها للنمر "جبار" الذي لا يُقهر. ويبدو فيها أنَّ عالم الجبال قد خرج عن أطواره؟

جنكيز أيتماتوف: إنَّ تعامل الإنسان مع الطبيعة غدا إشكاليًا عندنا أيضًا بالرغم من أنَّ عدد السكان في بلدي لا يتجاوز الخمسة ملايين نسمة. كان الناسُ يُربُّون المواشي في السابق، ويجوبون الجبال على ظهور الخيل، يتصيدون بالقوس والنبال ما يحتاجونه فقط.

أما اليوم فيحلِّقُ السوّاح القادمون من المنطقة العربية بالطائرات المروحية فوق الجبال، ويتصيدون نمور الثلج بأسلحةٍ ذات تقنية عالية، مستخدمين مناظير فائقة الدقة للتصويب ولا يتركون بذلك أية فرصةٍ لفرار النمور. يتدخل الإنسانُ في الطبيعةَ على نحوٍ عنيفٍ يزداد باطراد. بينما علينا أنْ نتعلَّم كيفية التناغم مع الطبيعة.

أنتم تمثِّلون بلدكم في الإتحاد الأوروبي في مدينة بروكسل. هل تشكِّل أوروبا مثالاً يحتذى بالنسبة لآسيا الوسطى؟

أيتماتوف: بالتأكيد. أحاول أنْ أبيِّن للناس في آسيا الوسطى أنَّ الإتحاد الأوروبي إنجازٌ عظيمٌ في تاريخ البشرية. ولا بُدَّ لنا في آسيا الوسطى من أنْ نستفيد من تجارب وخبرات الإتحاد. طبعًا لا يسعنا أن ننقل التجربة إلينا بهذا اليُسر ولن يتم ذلك بسرعة، لا سيما وأنَّ أوضاعنا الاقتصادية وظروفنا الاجتماعية لا تقارن بمثيلاتها في أوروبا. الأمر سيحتاج إلى وقتٍ طويلٍ جدا، ولذا أنا سعيد لأن أوروبا بدأتْ بالتأثير في آسيا الوسطى عبر برامج التنمية ومن خلال العمل المشترك.

لكنْ هل ثمة وعي بتاريخٍ مشتركٍ وبمستقبلٍ مشتركٍ أصلاً في آسيا الوسطى؟

أيتماتوف: لا يمكننا أن ننفي ماضينا المشترك، ومن هذا الماضي تنشأ أسئلةٌ مشتركةٌ تتعلق بالمستقبل. كما أنَّ بلادنا تأثرت بروسيا وبالإتحاد السوفيتي واتسمت بفعلهما بسماتٍ منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي. الصين هي جارنا الأقرب، لكنها لا تزال إلى يومنا هذا غريبةً عنا. ربما سيتغير هذا في السنوات القادمة.
إلا أنَّ نظرتنا "مُأورَبَة" من خلال الإتحاد السوفيتي خاصة. كنا جميعًا نشعر بأنَّنا سوفيتيون، وكنا قد عشنا في كنف هذا النظام. بقيت الذكريات والشوارع...

... الشوارع؟

أيتماتوف: أجل، فبالرغم من كل الأخطاء ذات الطابع الاستعماري، إلا أنَّ موسكو فعلت الكثير من أجل التطور والنمو في بلادنا. فقد تدفقت الأموال على مدار عشرات السنين من موسكو وأُنفِقَتْ في تشييد المدن، وشق الطرقات، ومدّ السكك الحديدية، وبناء المطارات، والمصانع.

ما هي أهمية روسيا بالنسبة لكم في الوقت الراهن؟

أيتماتوف: تواصل آسيا الوسطى التوجه نحو الغرب، ولا يعني ذلك من منظورنا أنَّنا نتوجه نحو أوروبا وحسب، بل أيضًا نحو روسيا، حيث تبقى روسيا على أية حال صديقةً حميمةً قدمت لقرغيزيا هدايا كثيرة، وربما تكون اللغة الروسية أهم هذه الهدايا.

أنت أديب، وتكتب باللغة الروسية. لذا لا غرابة في أنْ ترى الأمر على هذا النحو. ولكن في أوزباكستان مثلا ثمة إقصاء للغة الروسية، وقد تم استبدال الأحرف الكيريلية (الروسية) بأحرفٍ لاتينية.

أيتماتوف: سوف تتحسر أوزباكستان أشد الحسرة على تخليها عن اللغة الروسية. فهي التركة التاريخية الأكثر فائدةً. ليست اللغة عائقًا، بل جسرًا. علينا أنْ نتابع نشر اللغة الروسية لا أنْ نقصيها لأنَّها اللغة المشتركة في آسيا الوسطى. وهي تسهل التبادل فيما بيننا. وإذا تم إدخال الأحرف اللاتينية فلا يجب أن تقصى الأحرف الكيريلية على الأقل، بل لا بُدَّ من أنْ تستخدما على حدٍ سواء بوصفهما أدوات للعمل المشترك راهنا ومستقبلاً.

تنقسم قرغيزيا إلى شمالٍ شديد التأثُّر بروسيا وجنوبٍ أقرب للإسلام. ما هو الدور الذي سيلعبه الإسلام مستقبلاً برأيك؟

أيتماتوف: استمرت الديانات بالعيش في أركانٍ صغيرة من الحياة اليومية إبان العهد السوفيتي. أما اليوم فهناك صحوةٌ إسلاميةٌ في قرغيزيا. بالنسبة لي شخصيًا يبقى الدين غريبًا عني، إذ أنَّني نشأت وترعرعت في دولةٍ علمانيةٍ، لكنَّني أحترم الأديان بوصفها راعيةً للحقائق الإنسانية. كما لا أعتقد بأنَّ اشتداد عصب الإسلام في مجتمعنا من شأنه أنْ يؤدي لتقسيم قرغيزيا، كما يحلو لبعض المراقبين أنْ يدّعوا.

إذن لا خوف لديكم من التوجهات الإسلاموية؟

أيتماتوف: يمكن للإسلاموية أن تغدو مشكلةً في كثيرٍ من الدول، عندما لا تتمكن هذه الدول من تحسين أوضاع شعوبها وخصوصًا الأوضاع الاقتصادية منها. لذا يجب أن تنصب جهودنا على تحسين الأوضاع.

أنتم تعيشون منذ ستة عشر عامًا في أوروبا. ألا تشعرون بالحنين إلى جبال وصحارى وطنكم؟

أيتماتوف: أتذكر حكاية حصلت معي في شبابي. كنت أعمل يومها مراسلاً في قرغيزيا لإحدى وكالات الأخبار السوفيتية. جاءني اتصال من موسكو، قيل لي فيه أنَّ صحفيًا هنديًا معروفًا يريد أنْ يزور قرغيزيا وأنَّ عليَّ مرافقته بعض الوقت. توجهت إلى المطار لكي أستقبله، وعندما خرج من الطائرة شاهد مباشرةً الجبال في الأفق.

افتتن بها وسألني للتو: لماذا تكتسي أعالي الجبال بالبياض؟ أجبته: إنه الثلج. فأردف: ما هو الثلج؟ حاولت أنْ أشرح له أنَّ الطقس باردٌ جدًا في المناطق المرتفعة وأنَّ المطر يتحول إلى ثلجٍ هناك. حسنًا قال زميلي الهندي، سوف آخذ حفنة منه عند عودتي إلى الهند. قلت ضاحكًا: سيكون الأمر صعبًا بالتأكيد.

بالطبع هناك مغريات في أوروبا: جمال الطبيعة، وأشياء لم تصل إلينا بعد، مثل بحبوحة العيش والرفاهية مثلاً. لكني اليوم في بروكسل أفهم زميلي الهندي جيدًا، وأتمنى أن يكون لدي حفنة من ثلج جبالنا.

أجرى الحديث توبياس أسموت
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007

ولد جنكيز أيتماتوف عام 1928 في قرية شكر في وادي تالاس في قرغيزيا. بعد أنْ تعلم مهنة تربية المواشي، عمل بدايةً في أحدى المزارع الاشتراكية قبل أنْ يتوجه إلى موسكو ليتعلم في معهد مكسيم غوركي للآداب. و بين ليلةٍ وضحاها نال في العام 1958 شهرةً عالميةً بعد أن نشر روايته "جميلة" التي وصفها "لويس أراغون" بأجمل قصة حب في العالم. وعندما تبوأ ميخائيل غورباتشوف سدة الحكم عمل أيتماتوف بالشأن السياسي-الثقافي فأسس في العام 1986 منتدى „Issyk Kul“ وهو عبارة عن مؤتمر يحمل اسم بحيرة جبلية في قرغيزيا ويتكوَّن من علماء وفنانين من كافة أنحاء العالم. وأصبح أيتماتوف في نهاية عام 1989 مستشارًا لغورباتشوف وسفير الإتحاد السوفيتي في لوكسمبورغ عام 1990. كما أصبح منذ العام 1995 سفيرًا لقرغيزيا في فرنسا، وبلجيكا، وحلف الناتو، والإتحاد الأوروبي في بروكسل. صدرت هذا العام روايته الجديدة "نمر الثلج".

قنطرة

جينكيز أيتماتوف في عيد ميلاده الخامس والسبعين
كتب أيتماتوف باللغتين الروسيّة والقرْغيزيّة وهو من أكبر ممثلي الأدب المعاصر لآسيا الوسطى. أولي روتفوس يعرّف بالكاتب والإنسان